دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

7- العقلانِيُّون:

       شهدت أوروبا في القرن الثامن عشر الميلاديّ انقلابًا معرفيًّا وصناعيَّا، مما ترك آثارًا إيجابية على جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في جانب، وأثار ضجَّة كبيرة في الأوساط الدينيَّة في جانب آخر. كان هذا الانقلاب قد حدث نتيجةً للخروج على المسيحية؛ لأنَّها كانت عقبة كؤودًا في سبيل العلم وتقدُّمه، فأخرجها- المسيحية- الانقلابيُّون من الحياة الاجتماعية الصائحة الصاخبة، وحصروها في قعر الكنائس والحياة الشخصية، واستبدلوا بها العلمانيَّة (فصل الدين عن الدولة) والعقلانيَّة.

       ثم وصل هذا الانقلاب المعرفي بخيره وشره إلى الأقطار الإسلامية على أيدي المستعمرين حيث انبهر به طائفة من المسلمين، فأخذوا العقلانية والعلمانية وحاولوا ترويجها وإشاعتها في الأقطار الإسلامية، ووقفوا من الإسلام وتعاليمه وِقفَة الانقلابيِّين من المسيحية في أوروبا.

       من هنا نشأ العقلانيُّون في الأقطار الإسلامية الذين فسّروا الإسلام تفسيرًا عقليًا، وحرَّفوا من نصوص القرآن والحديث ما يُعارِضُ العقل- في زعمهم-، فأنكروا الملائكة، والوحي، والجنَّة، والنار، وعذاب القبر، والمعجزات، وما إليها. وقد عُرِف هؤلاء العقلانيُّون بالنيجريِّين أو المعتزلة الجدد.

       هذا وقد أدرك الإمام ولي الله الدهلوي المتوفى سنة 1176هـ بفراسته الإيمانية ما سيأتي به الزمان من العقلانية، فألَّف كتابه الفذَّ المعروف بـ«حجة الله البالغة» الذي عرض فيه الشريعة الإسلامية في الثوب العقلي المقنع. ثم تقدم بهذه الحركة أبناءُ مدرسته الفكرية إلى الأمام، فقام الإمام محمد قاسم النانوتوي وألَّف كتبًا هامَّة بالأسلوب العقلي الرصين، ثم تبعه شيخ الإسلام العلامة شبير أحمد العثماني، والشيخ أشرف علي التهانوي، والشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي الذين عرضوا الإسلام وتعاليمه عرضًا عقليًا.

       من هؤلاء العقلانيِّين في الهند السيدُ أحمد خان المتوفى عام 1898م مؤسِّسُ «جامعة علي جراه الإسلامية» الذي نفى الملائكة والجنة والنار والمعجزات، وألَّف تفسيرًا للقرآن ملأه تأويلًا وتحريفًا شأنَ الإسماعيليَّة من الشيعة.

       فقام بدحض بعض انحرافاته الإمامُ محمد قاسم النانوتوي في كتابه: «تصفية العقائد» (العقيدة الإسلامية: شبهات وردود)، وصاحبُه الشيخ فخر الحسن الكنكوهي في بعض رسائله، كما ردَّ على شيء من أفكاره أحدُ العلماء المعاصرين الشيخ المفتي محمد تقي العثماني في كتابه: علوم القرآن.

       ومن العقلانيِّين والملاحدة والزنادقة في القرن العشرين عناية الله مشرقي(1888- 1963م) صاحب حركة «خاكسار» التي قادها ترويجًا لأفكاره، وحصولاً على الغلبة والسلطة، وتجسيدًا للإسلام الذي يدَّعيه. كان يُصدر جريدة «الإصلاح» ينشرفيها آراءه وأفكاره. ألَّف عدَّة كُتُبٍ، وهي التذكرة بالعربية، وإشارات، وقول فيصل، و مولوي كا غلط مذهب (دين الشيخ الباطل).

       تتلخص أفكاره وآراؤه فيما يلي:

       1- العقائد ليست بشيء، فليعتقد من يشاء ما يشاء، فذلك لا يضُرُّ الإسلام والإيمان.

       2-  كلمةُ الشهادة والأقوالُ والإقرارُ بالدين ليست بشيء.

       3-  أركان الإسلام من الصلاة والصوم و الحجِّ والزَّكاة ليست عبادات مقصودة، إنما المقصود روحها، وهي السلطة والغلبة والقوة في الدنيا.

       4-  لا إيمانَ ولا إسلامَ ولا صلاةَ ولا صومَ لمن لايجاهد حصولًا للسلطة و الغلبة في الدنيا.

       5-  الإيمان والإسلام والتوحيد والعبادات عبارة عن عمل خاص، وهو حصول السلطة والغلبة و القوة في الدنيا.

       6-  من نال السلطة والغلبة والقوة في الدنيا نال الجنة في الآخرة، ومن حُرِم نعمة السلطة والغلبة والقوة في الدنيا فقد حرم في الآخرة.

       7-  الإسلام ليس سفينةَ النجاة، بل كل من يعمل بدين من الأديان فهوينال الجنة في الآخرة.

       8-  الأمم الأوروبية من المسيحيين الإنجليز وغيرهم مؤمنون متَّقون وصلحاء وأبرار ينالون الجنة في الآخرة.

       9-  الوثَنِيُّون الذين يعبدون ثلاث مئة مليون صنم ووثنٍ موحِّدون ومؤمنون صادقون.

       10- بما أن المسلمين كلَّهم في العصر الراهن لا يُعِدون إعدادًا عسكريًا فهم مشركون أصحاب النَّار.

       11- الأحناف والشوافع والمقلِّدة وغيرهم كلُّهم أصحابُ النار.

       12- بقيت الأمة المحمدية على الإسلام الصحيح ثلاثين سنة، ثم خرج قسط كبير من الإسلام والقرآن من قلوبهم(1).

       فلما انتشرت آراء مشرقي هذه بين المسلمين في الهند جاءت استفتاءآت إلى دارالإفتاء بالجامعة وكثُرت، فنهض المفتي محمد شفيع العثماني الديوبندي، وأرسل خطابًا إلى مشرقي يستفسره رأسًا عن آرائه وأفكاره نُصحًا له وإقامة للحجة عليه، فتبادلا الخطابات، ولكنَّ ذلك لم يَعُد بطائل؛ لأنه لم يُجبْ عن أسئلته التي سأله، وإنَّما أحال إلى جريدته «الإصلاح» و مؤلفاته.

       درسَ فضيلة المفتي كتبه، وجمع نصوصها التي تدل دلالة صارخة على إلحاده وزندقته، وذلك في كتاب سماه «الإرشاد إلى بعض أحكام الإلحاد» وقد بيَّن فيه الحكم الشرعيّ لآراء ومعتقدات مشرقي، والعضوية لجماعته. كما ألَّف الشيخ بهاء الحق القاسمي الأمرتسري كتابه «خاكساري فتنة» (خطر الحركة الخاكسارية).

       وقد وُجِّه استفتاء عن معتقدات مشرقي وحركته إلى فضيلة المفتي كفاية الله الدهلوي رئيس جمعية علماء الهند سابقًا، فأفتى بأنَّ  صاحب مثل هذه الأفكار والآراء التي جاءت في كتبه ليس داعية من دعاة الإسلام، وإنما هو عدومن أعدائه، ومن استحسنه وانضم إلى جماعته فهوكذلك(2).

       ومنهم غلام أحمد برويز المتوفى عام 1985م الذي تبعهم وفاقَهم في الإلحاد والزندقة وتحريف نصوص القرآن عن مواضعها، وإنكار ما ثبت من الدين بالضرورة. وقد جاءت أفكاره ومعتقداته في كتبه: معارف القرآن، وإسلامي نظام، وقرآني نظام ربوبيت، ومقام حديث، و مجلة طلوع إسلام، ورسائل إلى سليم، ولغات القرآن، وقرآني فيصلے.

       وأهمها فيما يلي:

       1- إنَّ جميع ما ورد في القرآن الكريم من الصدقات والتوريث وما إلى ذلك من الأحكام المالية، كلُّ ذلك موقت تدريجي، إنما يُتَدرج به إلى دور مستقلٍّ يُسمِّيه «نظام الربوبية» فإذا جاء ذلك الوقت تنتهي هذه الأحكام؛ لأنَّها كانت موقتة غير مستقلة.

       2- إنَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والذين معه استنبطوا من القرآن أحكامًا فكانت شريعة، وهكذا كلُّ من جاء بعده من أعضاء شورائية لحكومة مركزية، لهم أن يستنبطوا أحكامًا من القرآن، فتكون تلك الأحكام شريعة ذلك العصر، ليسوا مكلَّفين بتلك الشريعة السابقة، ثم لا تختصُّ تلك بباب واحد، بل العبادات، والمعاملات، والأخلاق كلُّها يجري في ذلك، ومن أجل ذلك لم يُعيِّن القرآن تفصيلات العبادة.

       3-  قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾(3) أن المراد من إطاعة الله ورسوله هو إطاعة «مركز الملة» أي الحكومة المركزية. والمراد بـ«أولي الأمر» الجمعيّات التي تنعقد تحتها. فالحكومة المركزية تستقل بالتشريع، وليس المراد بإطاعة الله إطاعة كتابه القرآن الكريم، ولا بإطاعة الرسول إطاعة أحاديثه، فكل حكومة مركزية قامت بعد عهد الرسالة منصبها منصب الرسول، فإطاعة الله والرسول، إنما هي إطاعة تلك الحكومة. والرسول كان مطاعًا من جهة أنه كان أميرًا وإمامًا للحكومة المركزية، والحكومة المركزية هي المطاعة.

       4-  قد صرَّح القرآن الكريم بأنَّه لا يستحقُّ الرسول أن يكون مطاعًا، وليس له أن يأمرهم بإطاعته، وليس المراد من إطاعة الله وإطاعة رسوله إلا إطاعة «مركز نظام الدين» ينفذ أحكام القرآن فقط.

       5-  المراد بالملائكة القوى المودعة في الكائنات، ومعنى الإيمان بها أن يسخِّرها الإنسان، ويذعن الإنسان تلك القوى. معنى سجود الملائكة لآدم أن تلك القوى قد سخَّرها الإنسان، وليس المراد بآدم شخصًا خاصًا، وإنَّما أريد به الإنسان، وآدم وحوَّاء عبارة عن زوجين للنسل الإنساني. وقصتهما حكاية تمثيلية للمعاشرة الإنسانية.

       6-  ليس المراد بالجنَّة والنار أمكنة خاصة، بل هي كيفيات للإنسان.

       7-  الصلاة التي يُصلِّيها المسلمون أخذوها من المجوس، وليست هي مرادة في القرآن، والقرآن إنَّما أمربإقامة الصلاة، وإقامة الصلاة هي إقامة أسس إصلاح الأفراد على وفق ما يقتضيه النظام.

       8-  كُلُّ من كان نائبًا عن الرسول له أن يُغيِّر صورة الصلاة المعروفة، على ما يقتضيه ذلك العصر.

       9- لم يذكر في القرآن غير صلاة الفجر و صلاة العشاء، فلم يثبت الاجتماع في عهد النبوة إلا في هذين الوقتين.

       10- الزكاة كلُّ جِباية مالية تكون من جهة الحكومة، فإذا لم تكن حكومة إسلامية لم تجب الزكاة. وصدقة الفطر وغيرها من الصدقات إنما هي جبايات وقتية يلزمها الحكومة لحاجات خاصة، ونوائب واردة.

       11- ليس الحجُّ عنده عبادة خاصة، وإنَّما هي مؤتمر عالمي، ويستهزئ بجعله عبادة في كتابه: معارف القرآن.

       12- الأضحية حقيقتها ذبح الحيوانات للذين يشتركون في ذلك المؤتمرالعالمي، أي ليست عبادة خاصة في غير ذلك المؤتمر.

       13- لم يصدر من النبي معجزة غير القرآن.

       14- الدين الإسلامي الرائج بين الأمة الإسلامية اليوم ليس دين القرآن، بل هو مرَّكب مما راجَ بين المجوسيين، ومن رسوم اليهود، وتصوُّف النصارى وأفلاطون.

       15- تدوين الروايات الحديثية إنَّما هي أول مكيدة ضدَّ الإسلام، فأورثت عقيدة في المسلمين بأنَّ مع القرآن الكريم وحيًا آخر. الذي يسمّونه الوحي الغير المتلو كلُّه أكاذيب ومفتريات.

       16- صحيح البخاري و صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي والبيهقي من الكتب الموثوق بها عندهم، هذه الكتب ما دامت معتبرة عندهم في أصول الدين لم يكن للأمة الإسلامية أن تخرج من كبوتها، وهذه مكيدة عجمية انتُقِمَ بها من الإسلام.

       هذه وما إليها من المعتقدات والآراء مبثوثة في كتبه ورسائله وجريدته. فنظرًا إليها أفتى علماء المسلمين في الهند وباكستان على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم الفكرية بإلحاده وزندقته، وبالتالي خروجه من الإسلام.

       وقد صدرت من الجامعة  فتوى بتكفيره وقَّع عليها ثمانية رجال الإفتاء والعلماء ومدرسي الجامعة، من بينهم المفتي مهدي حسن، والشيخ فخرالدين، والشيخ جميل أحمد، و الشيخ نصير أحمد ومن إليهم.

       وقد جُمعت هذه الفتاوى كلها في كتاب سُمِّي بـ«پرويز كے بارے ميں علماء كا متفقه فيصله»  (فتاوى العلماء في تكفير برويز)(4).

8- نُفاة الاحتجاج بالحديث:

       ومن الاتجاهات المناهضة للإسلام التي نشأت في القرن العشرين الميلادي اتجاهُ نفي الاحتجاج بالحديث وإنكار كونه مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، وقد سمَّى أصحابُ هذا الاتجاه أنفسهم بـ«أهل القرآن» وخدعوا به عامة المسلمين لينشروا آراءهم ونظرياتهم المنحرفة في المجتمع الإسلامي.

       وأصحاب هذا الاتجاه طائفة من الإباحيّين غرضُهم أن يجعلوا الإسلام دينًا نظريًّا لا صلة له بالحياة العملية.

       ولاشك أنه قد أُجْمِلَ كثيرٌ من الأحكام في القرآن، وجاء تفسيرُها في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام؛ لأن تبيين ما أُجْمِلَ في القرآن كان من وظيفة النبي –صلى الله عليه وسلم-، حيث قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(5).

       فهؤلاء الإباحيُّون أدركوا أنّه لا سبيل إلى التحرُّر من الإسلام في الحياة العملية واتباع الأهواء وتحقيق رغبات النفس إلا بإنكار كون الحديث مصدرًا من مصادر التشريع،  فأنكروا الاحتجاح به. وسمُّوا أنفسهم بـ«أهل القرآن» ليخفوا إلحادهم وزندقتهم من عامة المسلمين. وقد وقع بعض المسلمين السذُّج في حبائلهم مخدوعين بهذا الاسم الجميل البرَّاق: «أهل القرآن».

       ومن نُفَاة الاحتجاج بالحديث المعروفين في شبه القارة الهندية عبدُ الله الجكرالوي المتوفى عام 1930م وأسلم الجيراج فوري (1882-1956م)، ومن إليهم، الذين قاموا بالتشكيك في التراث الحديثي العظيم شأنَ المستشرقين من اليهود والنصارى، ونَفَوا جهود وتضحيات الصحابة – رضي الله عنهم- والسلف الصالح لصيانة الدين ونقله إلى الأجيال القادمة كاملاً غير منقوص.

       وقد استلفت هذا الاتجاهُ الهدّامُ انتباهَ مشايخ الجامعة وعلمائها، فقاموا بتفنيد دعاوي أصحابه علميًّا وتاريخيًّا، وكشفوا عن حقيقتهم لعامَّة المسلمين بأنَّهم ليسوا بأهل القرآن ولا عاملين به، إنَّما هم تلاميذ المستشرقين ينشرون آراءهم ونظريَّاتهم في المجتمع الإسلامي.

       وألَّف في الردِّ عليهم كلُّ من المحدث الكبير حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي، والشيخ مناظر أحسن الكيلاني، والشيخ محمد يوسف اللدهيانوي، والشيخ ولي حسن التونكي، والشيخ محمد رفيع العثماني، والشيخ محمد تقي العثماني ومن إليهم.

9- الأستاذ أبو الأعلى المودودي: انحرافه وشذوذه:

       لقد بدأت حركات سياسية ودينية في أواخر عهد الحكم الإنجليزي في الهند، مما طوى بساطَه عنها وقضى عليه. ورفعت بعضُ الحركات الإسلامية نداءها لإقامة حكم إسلاميّ في الهند، فارتفعت له الأنظار واشرأبَّت الأعناق واستحسنه الناس.

       فمن الحركات التي رفعت هذا النداءَ ونالت إعجابَ الناس حركةُ الأستاذ أبو الأعلى المودودي الذي نشر بقلمه السيَّال و أسلوبه القويّ وموهبته الكتابية دعوتَه وأفكاره بين الناس؛ فحصد إعجابهم وثناءهم، وأصبح المعجبون به من العلماء وعامة الناس أساسًا لجماعته: الجماعة الإسلامية التي تم تشكيلها عام 1941م.

مولده وتعليمه:

       وُلِدَ الأستاذُ المودوديُّ عام 1321هـ الموافق 1903م في مدينة «أورنغ آباد» بولاية «مهاراسترا» بالهند، وتوفي عام1979م. كان من أسرة مثقَّفة متديِّنة ينتهي نسبُها إلى المصلح الكبير الشيخ معين الدين الجشتي الأجميري (1142-1236م) وكان أبوه محاميًا يمتهن المحاماة في مدينة «أورنغ آباد».

       تلقَّى مبادئ الكتب العربية في بيته، ووصل إلى المرحلة الثانوية من التعليم المدني، ثم دخل معهدًا بحيدر آباد لأخذ مبادئ التعليم الديني مع شيء من التعليم المدني، ولم يستمرَّ فيه؛ لأن والده الذي كان يُمارسُ المحاماة بمدينة «بوفال» أُصِيْبَ بالشلل والفالج، وبقي مريضًا نحو أربع سنوات إلى أن توفاه الله(6).

       لذلك فقد اضْطُرَّ إلى ترك التعليم، وكسب لقمة العيش. وقد حاول تعلُّم اللغتين: العربية والإنجليزية خلال إقامته بمدينة «دهلي»، فألمَّ بهما، فكان يعرفهما فهمًا لا تكلمًا ولا خطابة ولا كتابة. أما اللغة الأردية فكان فيها أديبًا سيَّال القلم ذا قدرة فائقة على التعبير، متمكنًا من تحليل الأفكار، وذا أسلوب فريد يسحر الألباب و يأخذ بمجامع القلوب.

       وبما أنَّه لم يتلقَّ العلوم الإسلامية من الأساتذة والمدرسين، وإنَّما درسها دراسةً حرةً، كان حظُّه منها ضئيلًا جدًا، ولم يكن له رسوخ في العلم، كالذي يحظى به العلماءُ الذين يتلقَّونها- العلوم الإسلامية- من مهرة الأساتذة وجهابذة المدرِّسين.

نشاطاته وأعماله:

       لم يتمكَّن من إكمال دراسته كما أسلفتُ، واضْطُرَّ إلى كسب القوت، فحار في مذاهب الرزق واضطرب. ولمَّا كان الله تعالى أودعه موهبة الكتابة وقدرة التعبير وملكة الإنشاء في اللغة الأردية اتَّخذ قلمه وسيلةً لكسب المعاش؛ فعمل كاتبًا ورئيسَ تحرير في مختلف الجرائد والمجلات حتى انتهى به الأمر إلى إنشاء جريدة شهرية باسم «ترجمان القرآن» سنة 1933م.

       وخلال عمله في الصحافة صَحِبَ أحد كبار ملاحدة الكُتّاب وتأثربصحبته، وهو «نياز فتحفوري» (1882-1966م)  الذي استهزأ بالجنة والنار، فأفتي العلماء بخروجه عن الإسلام لكفره الصريح، فتاب وأناب مدة، ثم ارتدَّ وأصرَّ على كفره البواح.

       ولما نُشِرتْ مقالاتُ الأستاذ المودودي وبحوثُه وظهرت بعض مؤلفاته في المواضيع الإسلامية بقلمه السيَّال وإنشائه البليغ أُعجِبَ به الناس، وأخذوا يُثنون على صِياغته وبراعته، وظهرت كلمات الثناء والتقدير من أمثال المحقِّق الفاضل مناظر أحسن الكيلاني، والمؤرخ الكبير الشيخ السيد سليمان الندوي، والكاتب الأردي المعروف عبد الماجد الدريابادي، فاندفع الشباب إلى قراءة بحوثه ومقالاته، واعترفوا بفضله ونُبله، فاشتهر في البلاد وأُشِيْرَ إليه بالبنان.

تأسيس الجماعة الإسلامية:

       فلما ذاع صيته وارتفع ذكره وبلغ المعجَبون به في طول البلاد وعرضها عددًا لا بأس به قام بتأسيس جماعة باسم «الجماعة الإسلامية» بمساعدة رفقائه الأربعة: الشيخ محمد منظور النعماني، والشيخ أبوالحسن علي الندوي، والشيخ مسعود عالم الندوي، والشيخ أمين أحسن الإصلاحي، وذلك سنة 1360هـ الموافق 1941م. وكان الغرض من تأسيس الجماعة إقامة الحكومة الإلهية في الدنيا ونيل رضا الله تعالى في الآخرة.

شذوذه وانحرافه:

       لقد تنبَّه أهلُ العلم وأربابُ الفضل والكمال إلى ما تتضمَّنُ كتبه ومقالاته وبحوثه من شذوذ وانحرافات، ثم ظهر دستورالجماعة الإسلامية الذي ينص بنده السادس على أنه ليس أحد سوى الله ورسوله مقياسًا للحق، ولا متساميًا عن الانتقاد، ولا مطاعًا بالعبودية الذهنية، فنفى الإجماع، والاحتجاج بآثار الصحابة رضي الله عنهم، والاهتداء بهدي مَنْ سوى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء والمرسلين.

       انطلاقًا من هذا المبدأ نفى إجماع الصحابة رضي الله عنهم، والاحتجاج بآثارهم، وطعن عليهم فقال: إنَّهم  فشِلوا في إقامة النظام الإسلامي الخالص، ولم يبقوا على منهاج النبوة، وكانت فيهم رواسبُ الجاهلية. وقارفَ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه أخطاءً، وكانت في سيرة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وسلوكه بقايا من الجاهلية، وآثرأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص المصلحة على إقامة الدين.

       بل انتقد الأنبياء بما لا يليق بشأنهم، فقال: العصمة للانبياء ليست من لوازم ذواتهم، ولكنَّ الله يحفظهم من الخطايا والزلَّات لأجل قيامهم بفرائض النبوة، ولو رفع الله منهم هذا الحفظ لساعة لكانوا مثل عامة الناس في الخطأ والزلَّات.. ومن لطيف التدبيرأنَّ الله يرفع منهم هذه الخاصية لكي يصدر عنهم بعض الزلَّات، ويريد الله ذلك منهم لكي يظهر أنَّهم بشر وليسوا آلهة(7).

       وقال: إنَّ الأنبياء ليسوا محفوظين عن شر النفس، وإنَّ داود عليه السلام كان خاطئًا، وإنَّ يونس عليه السلام وقع منه تقصير في أداء فريضة النبوة، وإنَّ موسى عليه السلام كانَ عجولاً، وإن آدم عليه السلام وقع في هُوَّة المعصية لأجل غلبة الحرص عليه(8).

       ومن آرائه أنَّ المصطحات الشرعية: الله، والرب، والعبادة، والدين، قد خفيت معانيها على الأمة، وتغيرت عمَّا كانت عليه، فقد صرَّح في كتابه «أربعة مصطلحات أساسية للقرآن» بأنَّ الإله، والربَّ، والعبادة، والدين أربعة مصطلحات أساسية للقرآن، من عرفها عرف القرآن، ومن لم يعرفها لم يعرف القرآن، ولم يعرف التوحيد، ولم يعرف الشرك، ولم يعرف أنَّ العبادة لله وحده، فمن خفيت عليه هذه المصطلحات خفيَ عليه فهمُ القرآن وإن كان مؤمنًا، وعلى الرغم من كونه مؤمنًا يكون ناقص العقيدة والعمل… وقد وقع تغير في معاني هذه المصطلحات عن فهمها في عهد النزول، وانحازت هذه المعاني الوسيعة إلى معانٍ ضيِّقةٍ محدودةٍ مبهمةٍ، وذلك لأمرين:

       1- لقلَّة ذوق العربية.

       2-  ولكون المسلمين وُلدوا في الإسلام، ولم يعرفوا تلك المعاني المستعملة في الكفار في عهد نزول القرآن؛ فخفيت على أئمة اللغة وأرباب التفسير تلك المصطلحات بمعانيها المستعملة في عهد النزول، وفهم هؤلاء ما كان يفهمه المسلمون… والواقع أنه لخفاء هذه المعاني خفي على الناس ثلاثة أرباع الدين، بل خفيت عليهم روح الٍإسلام الحقيقية، ومن أجل ذلك ترى نقصًا في عقائدهم وأعمالهم(9).

       ومن أفدح أخطائه أنه جعل الهدف الأساسي من الشرائع الإلهية إقامةَ الحكومة الإلهية، فقلب الوسيلة غاية والغاية وسيلة، فالصلاة غايتها عنده التدريب العسكري، والزكاة هدفها  الضرائب، والصوم غرضه الإعداد العسكري، والحج مقصده المؤتمر العالمي، والأركان الأربعة من الإسلام غايتها الدورة التدريبية.

       واستنتج من ذلك أن المؤمنين بل الأنبياء الذين لم يتمكَّنوا من إقامة الحكومة الإلهية كانوا أناسًا فاشلين، وأنبياء فاشلين.

       وقال: إنَّ هذه العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج فرضها الله عليكم، وجعلها من أركان الإسلام، شأنها ليست كعبادات المذاهب الأخرى، إذا قُمتُم بها فرغت ذِمَّتُكم ورضي الله بها عنكم، بل فُرِضَتْ هذه العباداتُ إعدادًا لمقصد عظيم وأمر جليل…إنَّ الغرض أن يخرج المرء من سلطة الإنسان، ويدخل تحت سلطان الله الأحد، والجهاد هو بذل النفس والجهد التام لهذا الغرض، والصلاة و الصيام والحج والزكاة للإعداد لهذا الغرض الوحيد(10).

       وقال: إنّ المقصد الحقيقي من الدين هو الإمارة الصالحة، وصرَّح بأنَّه ليس هناك أيُّ عمل موصل إلى رضائه تعالى بعد الغفلة عن هذا الغرض … وحصول هذا الغرض يتوقف على قوة اجتماعية فمن أخلَّ بها ارتكب جريمة عظيمة لا يمحوها الإقرارُ بالتوحيد وإقامةُ الصلاة(11).

       وقال: إنَّ عثمان رضي الله عنه استخدم الطلقاء في مناصب سامية من الحكومة والقيادة، وهؤلاء الطلقاء دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة، وهؤلاء وإن كانوا ماهرين في سياسة غير دينيِّة وأمور إدارية، ولكنَّهم ما كانوا يستحقُّون ذلك لأجل عدم كفاءتهم في قيادة أخلاقية،أي أنَّ أنفسهم لم تتزكَّ بصحبة الرسول الطويلة، فبقيت فيهم بقية من الجاهلية. وقد صرَّح بذلك في مواضع من كتابه: «الخلافة والملوكية» وفي رسائله وكتبه، وفي مجلَّته بأساليب شتى(12).

       وألَّف تفسيرًا للقرآن سمّاه «تفهيم القرآن» تدليلاً على دعاويه وآرائه، وقال: إنه يكفي لفهم القرآن اللغةُ والعقلُ، والمفسِّر للقرآن في غنىً عن هذه التفاسير. والأحاديث وصلت من رجال إلى رجال، ومن رواة إلى رواة، وتلاعبت بهم الآراء والأفكار والنزعات، ولا يُطمأنُّ إليهم ولا إلى جرحهم وتوثيقهم. وصحيح البخاري فيه أحاديث ساقطة، وأنكر وجود السماوات على ما يفهمه المسلمون وينطق بها الأحاديث، وأنكر رفع الطور على رؤوس اليهود، وأنكر الحور وقاصرات الطرف، وادَّعى أنَّ بنات الكفار وبنات المسلمين الذين لم يستحقُّوا دخول الجنة بناتهم تكون حورًا عينًا تخدم أهل الجنة، وأنَّ حديث أنس في الصحيح في بيان ما أعطى النبي –صلى الله عليه وسلم- من القوة غلط. وهكذا ردَّ الأحاديث الصحيحة برأيه وفهمه العليل(13).

الردُّ على أفكاره ونظرياته:

       من نظر في كتب الأستاذ المودودي نظرةَ إنصاف وانتقاد وجد في أفكاره وآرائه صدىً لأفكار المعتزلة والخوارج والشيعة، فقد يُحَكِّم العقل مقابل النقل كالمعتزلة، ويجعل الغاية القصوى من الدين إقامة الحكومة شأنَ الخوارج، ويطعن على الصحابة رضي الله عنهم مثلَ الشيعة.

       وقال العلامة محمد يوسف البنوري: «..دعت الحال إلى أن أنادي على رؤوس الأشهاد أنَّ الرجل زائغ ضَالٌّ مُضِلٌّ، في كتبه ورسائله طامَّات، منها ما يُوجِب الفسق، ومنها ما يُوجِب الابتداع في الدين، ومنها ما يُوجب الإلحاد، ومنها ما يُوجب ما أسكت عنه، وفي بعضها دلالة على جهله بالدين وغباوته على اليقين، وتضاربٌ وتهافتٌ في بياناته وكتاباته، وتجهيل للسلف الصالحين من أقدم العصور إلى يومنا هذا، فهذا الحط من جهود السلف الصالحين والمؤاخذة عليهم يدل على إعجاب في رأيه ما لا يُتحمَّل، وكبرٍ له في سجيته ما لا يُستساغ»(14).

       ونظرًا إلى انحرافات وتناقُضات في فكر الأستاذ المودودي ترك الجماعةَ الإسلاميةَ اثنان من أساطينها الأربعة بعد تأسيسها بنحو ستة أشهر، وهما الشيخ محمد منظور النعماني، و الشيخ أبو الحسن علي الندوي، والثالث بعد برهة من الزمان وهو الشيخ أمين أحسن الإصلاحي، والرابع وهو الشيخ مسعود عالم الندوي قد توفي بعد قليل من الزمان.

       وأوَّلُ من قام بالردِّ على أفكاره الشيخُ مناظِر أحسن الكيلاني، فكتب مقالة في جريدة «صدق جديد» بعنوان «الخارجية الجديدة»، ثم تنبَّه صاحبُ جريدة «الصدق» فقام هو الآخر بالرد عليه، ثم السيد سليمان الندوي، ثم شيخ الإسلام حسين أحمد المدني رئيس هيئة التدريس بالجامعة وشيخ الحديث بها، فقد تناول دستور الجماعة الإسلامية بالنقد و التحليل، وكشف ما فيه من انحراف وشذوذ، و ما يؤدي إليه من الحط من كرامة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم، وذلك في رسالة نُقِلتْ إلى العربية بعنوان «الصحابة ماذا ينبغي أن نعتقد عنهم»؟.

       كما ردَّ على آرائه المنحرفة كلٌ من الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي رئيس الجامعة الأسبق، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والعلامة محمد يوسف البنوري، والشيخ المفتي محمد ظفير الدين المفتاحي المفتي بالجامعة، ومن إليهم.

       والكتب التي قام مشايخ الجامعة وعلماؤها بتأليفها تفنيدًا لآرائه وأفكاره قد بلغ نحو 40 كتابًا.

       وقد أصدرت الجامعة فتوىً في الأستاذ المودودي وجماعته، وقد جاء فيها: «يجب على المسلمين أن يجتنبوا «الجماعة الإسلامية»، فإن المشاركة فيها سم قاتل، وعلى المسلمين أن يكفوا عن المشاركة فيها لكيلا يضِلُّوا، وضرر الجماعة أكثر من النفع، فلا يَحِلُّ شرعًا المساهمةُ فيها، وكلُّ من أيَّدها وأعانها بالنشر والإشاعة يكون آثمًا ويكون داعيًا للإثم والمعصية بدل أن يكون مُثابًا، ومن كان منهم إمامًا في مسجد فتكره الصلاة وراءه»(15).

*  *  *

الهوامش:

(1)     الإرشاد إلى بعض أحكام الإلحاد، لفضيلة المفتي محمد شفيع العثماني الديوبندي، ط: دار الإشاعة ديوبند، 1939م.

(2)     خاكساري فتنه للشيخ بهاء الحق القاسمي الأمرتسري، ص:55، ط: أمرتسر،1355هـ/ 1936م.

(3)     النساء، الآية: 59.

(4)     انظر للاستزادة «پرويز كے بارے مين علماء كا متفقه فيصله»  (فتاوى العلماء في تكفير برويز) . ط: شعبه تصنيف، مدرسة عربية نيو تاؤن كراتشي.

(5)     النحل، الآية:44.

(6)     انظر للاستزادة: محاضرات في الرد على المودودي للشيخ عبد الخالق السنبهلي.

(7)     الأستاذ المودودي، ص:23.

(8)     الأستاذ المودودي، ص:23.

(9)     الأستاذ المودودي، ص:16.

(10)   الأستاذ المودودي، ص: 24.

(11)   الأستاذ المودودي، ص: 24.

(12)   الأستاذ المودودي، ص: 30.

(13)   الأستاذ المودودي، ص: 34.

(14)   الأستاذ المودودي، ص: 15.

(15)       الأستاذ المودودي، ص:36.

*  *  *


(*)   أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)

      sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts