دراسات إسلامية

بقلم: الشيخ محمد إبراهيم الحمد

       الإخلاصُ في الشرع: هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه. ومدارُ الإخلاصِ على أن يكون الباعثُ على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه – عز وجل- فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم، أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم، وقضائهم حوائجه، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص. ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها؛ بل لا يذهب بالإخلاص- بعد ابتغاء وجه الله- أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثارًا طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس، وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة. هذا هو مفهوم الإخلاص.

       أما أهميته فيكفي أنه شرط لقبول العبادة؛ فالعبادة تقوم على شرطين هما: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول-صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلوٰةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾. [البينة:5] وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله -تعالى-: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهُوَ للذي أشرك» رواه مسلم. 

       قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- متحدثًا عن الإخلاص وفضله وأهميته: «بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب رحى القرآن الذي تدور عليه رحاه».

       إلى أن قال-رحمه الله-: «قال -تعالى- في حق يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْـمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24].

       فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله. ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها. فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي قلبه انقهر بلا علاج» اهـ. فهذا هو مفهوم الإخلاص، وذلك شيء من أهميته وفضله.

       هذا، وإن للصيام أثرًا عظيمًا في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غيرُ وجه الله-جل وعلا-. ذلكم أن الصائم يصوم إيمانًا واحتسابًا، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله -تعالى- وأيُّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا الدرس؟

       روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». قال ابن حجر -رحمه الله- قوله: «إيمانًا»: أي تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، و «احتسابًا»: أي طلبًا للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه» اهـ. وفي البخاري -أيضًا- من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لَخُلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها».

       قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: قوله: «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ «وإنما يذر شهوته» إلخ … ولم يصرح بنسبته إلى الله، للعلم به، وعدم الإشكال فيه».

       وقال -رحمه الله-: «وقد يفهم من صيغة الحصر في قوله: «إنما يذر» إلخ … التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصُّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُّخمة لا يحصل للصائم الفضلُ المذكور»اهـ.

       هكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص؛ فالصومُ عبادةٌ خفيةٌ، وسِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه. بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال، وأحمد الخلال إن لم يكن أعظمها وأحمدها.

       ثم إن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه – فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.

       والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية. وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص. ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.

       وقد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى. ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا كان العبد مخلصًا لله اجتباه ربه؛ فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف ضد ذلك. بخلاف القلب الذي لم يُخْلِص لله؛ فإن فيه طلبًا، وإرادةً، وحبًّا مطلقًا؛ فيهوي كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيمٍ مرَّ بِهِ عطفه وأماله» اهـ. 

       إذا أخلص المسلمُ صيامه لله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك داعيًا له لأن يخلص لله في شتى أموره، وكافة أحواله، وسائر أيامه، فَرَبُّ رمضانَ هو ربُّ سائرِ الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات، والذي يُتَقَرَّبُ إليه بالصيام هو الذي يُتَقَرَّبُ إليه بسائر الأعمال.

       وهكذا يفيد المسلمُ هذا الدرسَ العظيمَ من شهر الصوم.

       هذا أثر الإخلاص على الأفراد خاصة، وأما أثره على الأمة بعامة؛ فإليكم جملة من تلكم الآثار التي تعود بالخير على الأفراد والجماعات. والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال -بالإخلاص- يكون كبيرًا، وقليلها يكون كثيرًا.

       والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءً، أو حياءً من الناس لا بد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمن العزلِ فلا يبالي أن يدع العدل جانبًا. ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم، فينقلب داعيًا إلى الأهواء. ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلًا من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته.

       والإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان، ويبلغ أن يكون مبدأً راسخًا تصدر عنه الأعمال الصالحة. وهو الذي يجد له صاحبه حلاوة، فيسهل عليه أن يكون أحد السبعة المشار إليهم بقوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله» إلى أن قال: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

       حكى أشعبُ بنُ جبير أنه كان في بعض سكك المدينة، فلقيه رجل، وقال له: كم عيالك؟ قال: فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أجْرِي عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيًّا، فقلت من أمرك؟، قال: لا أخبرك، قلت: إنَّ هذا معروفٌ يشكر، قال: الذي أمرني لم يرد شكرَك. قال أشعب بن جبير: فكنت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، فحفل له الناس، فشهدته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب هذا -والله-صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك. فهذا فاعلُ خيرٍ من وراء حجاب.

       ولعلك لا تجد أحدًا يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار. وإذا وصفتَ أحدًا بالإخلاص أو عدمه؛ فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة. ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن.

       وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير. وربما قضيت على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرجٍ تنير لهم السبيل.

       والإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ، فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه.والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة. والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عرض الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهبًا. والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق. والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، وأن لا يبخل على الطلاب بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة، وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه. والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة. والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لونًا غير لونها؛ إرضاءً لشخص أو طائفة.

       هذه بعض مآثر الإخلاص الذي ينميه الصوم في نفوسنا؛ ويبعثنا إلى أن نخلص لله في جميع أعمالنا، وشتى أحوالنا. فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص، وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts