الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

          تنص المادتان 1 و2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة 10 ديسمبر 1948 في «قصر شايو» في «باريس»: على حرية الإنسان وكرامته، وأن لا تمييز بين فرد وآخر.

       والمواد من 3 إلى 21 أكدت على الحقوق السياسية والمدنية؛ كالحق في الحياة، والحرية، والسلامة الشخصية، والتحرر من الاستعباد، والحماية القانونية، وعدم الاعتداء عليه، وحق المواطنة، وحرية الأحزاب.

       والمواد من 28 إلى 30 تنص على أن لكل فرد الحق في أن يتمتع بنظام اجتماعي ودولي، تتوافر فيه الحقوق والحريات، كما نصت على ما للفرد من التزامات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه.

       والمتأمل في هذا الإعلان يلاحظ أمرًا واحدًا وهو أن مواد هذه الوثيقة تدور حول محور واحد.

       هو الفرد الإنساني، بمعزل عن أية حيثية أخرى معه، وبمعنى آخر، يمكن القول: إنها لاحظت الإنسان من خلال ماهيته، لا من خلال وجوده، وجردته من علاقة الوجودية مع الله تعالى على أقل تقدير، وجعلته محور الحقوق وهذا يتنافى مع حق الإنسان الخِلقي والتكويني والحقيقي وهو وجوده المتعلق بعلته حدوثًا وبقاءً، ولا يمكن لأية قوة في الوجود أن تلغي هذه الرابطة: إذ إن إلغاءها يمثل إلغاءً لأصل الإنسان ووجوده؛ ولهذا يتحتم علينا أن نلاحظ الإنسان عبدًا لله وضمن دائرة الحق الإلهي الذي وهبه للإنسان.

       كما ألغت الوثيقة، المجتمع كحالة متأصلة لها حقوق والتزامات.

       إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان انطلق من بدايته انطلاقة خاطئة، حيث لم يتطرق من قريب ولا من بعيد ولو في بند واحد إلى الدول والأمم والشعوب التي ترزأ تحت وطأة المحتلين والناهبين والمستدمرين! ومن المعلوم اليوم أن الدول العظمى والقوى الفاعلة على الصعيد العالمي تستعمل المصطلح والمفهوم وفقًا لمعطيات ومصالح محددة لها، فأين الدول المدافعة عن حقوق الإنسان مما يحدث للأطفال والمدنيين الأبرياء والنساء والشيوخ – في فلسطين عامة وفي غزة خاصة- الذين تلطخت الشوارع بدمائهم وأين هؤلاء مما يحدث هناك من تدمير وتخريب على يد المحتل الصهيوني!! وأين هم مما يحدث في العراق من موت وتخريب وقتل للأطفال وتدمير كامل لبنية الحياة والمجتمع!!!

       إن الدول التي وقعت أول مرة على «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة 1948م كانت هي الدول الاستدمارية التي استعبدت الإنسان واكتوت بنارها الشعوب، ومن مهازل التاريخ الحديث أنه في نفس العام الذي تم به الإعلان عن حقوق الإنسان قامت العصابات الصهيونية بطرد شعب من أرضه ووطنه لتؤسس دولة اعترف بها دعاة الحقوق الذين لا يعترفون في الواقع إلا بحقوقهم هم..!!!

       إن منطقة المشرق العربي خير دليل على أكذوبة «حقوق الإنسان» ولعبة الدعوة إلى تطبيقها.. والحال أن جل الدول الغربية التي تنادي بحقوق الإنسان تمارس أشنع أنواع الإرهاب وأنواعه ضد البشرية كلها.

قتل امرئ في غابة       جريمــة لا تغتفـر

وقتـل شعب آمن               مسألــة فيها نظـر

       إنها دعوة زائفة وشعارات جوفاء، وديمقراطية مغشوشة تسعى لمصالح الغرب وطموحاته وما يحفظ له مكانته.

       إن هذا «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» يفتقر إلى صفة الإلزام، ذلك أنه لا ينطلق من قاعدة ربانية، تقوم على الإحساس بالمسؤولية والمراقبة العليا، ولأن هذا الإعلان صدر بحكم ملابسات سياسية وظروف طارئة، فخلت محتوياته من القيمة الإنسانية، ولم يتخذ آليات وأحكامًا إجرائية تلزم الجهات المعنية بتطبيق الميثاق بشكل واضح وصحيح، مما أدى إلى معايير مختلفة في التطبيق، لحساب بعض الدول دون بعضها الآخر، وهذا يتناقض مع جوهر التشريع، والذي هو إحقاق العدل، وتمكين الحق.

       ومن هنا يتجلى سمو الإسلام في مقرراته، حيث إنه لا يجزئ العدل أو يحيد الحق لجهة القوة، فالعدل قيمة مطلقة في نظام الإسلام، لكونه صفة لله تعالى.

       ووثائق حقوق العباد في الإسلام جماعها القرآن الكريم، وبهذا كان الإسلام هو الأسبق في تقرير حقوق الآدميين، أسبقية زمانية وأسبقية موضوعية من حيث استيعاب المضمون جميع أنواع الحقوق – ماديًا ومعنويًا، اجتماعيًا وقانونيًا وسياسيًا-، واستيعاب جميع فئات المجتمع بمختلف أجناسهم ولغاتهم ومعتقداتهم ومواطنهم..

       ولا يختلف اثنان حول أهمية حقوق العباد في ديننا الإسلامي، سواء انطلقنا من اعتبارات شرعية أم اعتبارات دنيوية، كما لا يخفى ما لتلك الحقوق من دور فعال في تخفيف المآسي التي يتحملها الإنسان هنا وهناك جراء نقض المبادئ الأولية لحقوق العباد.

       وعليه؛ فإن صلاح أمر الدين موقوف على صلاح أمر الدنيا؛ أي لا يستقيم أمر الدين إلا إذا تمتع العباد بهذه «الضروريات والواجبات» التي قررها الإسلام.

       وإن افتقاد العباد لتلك الضروريات والواجبات يحرمهم من مناط التكليف وإمكاناته.

       وهنا من الأهمية بمكان أن نختم بالقول: إن مدار حقوق العباد في ديننا الحنيف وهدفها تحريرهم من فتنة الدنيا ليخلُصوا إلى الآخرة في أحسن حالة تُرضي عنهم ربهم تبارك وتعالى. وكل ما يضمنه الإسلام من حقوق فإنما يضمنه ليجنب الناس فتنة الاشتغال عن ربهم بآلام الوحشة إن لم يجدوا أخوة تؤنسهم، وبآلام التمييز العنصري والظلم الطبقي، وبهم الرزق، والعمل، وتعسف الحاكم، وبالحرمان من أسرة تسعِدُ أيامهم، وقانون يحمي أمنهم وراحتهم، وبالكبت إن لم يُسمح لهم بالتعبير عن آرائهم، وبهم الغد إن لم تَحُطْهُم عنايةُ المجتمع. إلى آخر هذه الحقوق.

* * *


(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1437 هـ = أبريل – مايو 2016م ، العدد : 7 ، السنة : 40

Related Posts