دراسات إسلامية
بقلم: د. فريد أمعضشو
أثار الاحتجاج بالحديث النبوي في المجال اللغوي، عُمومًا، نقاشًا بين علمائنا قديمًا وحديثًا، على الرّغم من أنه يبدو لنا أمرًا في غاية البداهة، مِنْ مُنطلَق أن كلامه -صلى الله عليه وسلم- أفصح وأبلغ وأجْمَع، وأنه أرقى من كلام العرب الذي جرى الاستشهاد به في المجال المذكور على نطاق واسع دون أن يثير جدالًا كذاك الذي أثاره الاحتجاج بالحديث في اللغة؛ فكان لذلك أولى بالتقديم وبالاستدلال به. يقول محمود فجَال – في كتابه «الحديث النبوي في النحو العربي»- مؤكدًا هذه المسألة: «لقد كان من المنهج الحقّ بالبداهة أن يتقدّم الحديث النبوي سائرَ كلام العرب، من نثر وشعر، في باب الاحتجاج في اللغة والنحو؛ إذ لا تَعْهَدُ العربية في تاريخها بعد القرآن الكريم بيانًا أبلغَ من الكلام النبوي، ولا أروع تأثيرًا، ولا أفْعَلَ في النفس، ولا أصحّ لفظًا، ولا أقْوم معنىً منه، ولكن ذلك لم يقع كما ينبغي؛ لانصراف اللغويين والنحويين المتقدمين إلى ثقافةِ ما يزوّدهم به رُواة الأشعار خاصة انصرافًا استغرق جهودهم، فلم يبقَ فيهم لرواية الحديث ودراسته بقية»(ص 99). وتنضاف إلى هذا التسويغ تعليلات أخرى أتى بها الدارسون في هذا الصدد على نحو ما سنرى لاحقًا.
والواقع أننا حين نحاول استقراء آراء العلماء في هذه القضية الشائكة، نخلص إلى أنها لا تكاد تخرج عن ثلاثة، كلّ منها معزَّز بأدلة ودعامات حِجاجيّة، كثيرة أو قليلة، توسَّل بها أصحابها للدفاع عن أطروحتهم وموقفهم من تلك القضية. فواحدٌ منها مَنَع الاحتجاج بالحديث في اللغة على الإطلاق، وثانٍ أجاز ذلك ولم يَرَ عيبًا في الأمر بتاتًا، وثالثٌ اتخذ موقفًا وَسَطًا؛ فلم يمنع منعًا مطلقًا، ولم يجوّز الاستشهاد بالأحاديث في اللغة تجويزًا مطلقا، بقدْر ما مال إلى القول بإمكان الاحتجاج ببعضها دون الآخر.
ويبدو أن أبرز مَنْ رَوَّج للرأي الأول اثنان من نحاة الأندلس المتأخِّرين، وكان لرأيهما أثرٌ في عددٍ ممّن جاؤوا بعدهما، الذين تلقّفوا منهم تلك الفكرة وتبنَّوْها دونما ترَوٍّ ولا تمحيص ولا تثبُّتٍ من صدقيتها، وهما أبو حيان وأستاذُه ابن الضائع. قال ابن الطيب الفاسي: «لا نعلم أحدًا من علماء العربية خالَفَ العلماء في الاحتجاج بالحديث الشريف إلا ما أبْداه الشيخ أبو حيّان في شرح التسهيل، وأبو الحسن ابن الضائع في شرح الجُمل. وتابَعهما على ذلك الجلال السيوطي – رحمه الله – فأولع بنقل كلامهما، واللَّهْج به في كتبه، واعتنى باستيفائه في كتابه المَوْسوم بـ«الاقتراح في علم أصول النحو»… وقد استند هذان النحويان، في تقرير رأيهما المؤسّس على منع ذلك الاحتجاج، على النظر في التراث النحوي العربي، للخُلوص إلى تسجيل أمر لافت للانتباه في زعمهما، وهو عدم احتجاج أئمة اللغة والنحو المتقدمين – وفي طليعتهم سيبويه – بالحديث النبوي في إثبات القواعد الكلية، وبناء الأحكام، وتناول المسائل النحوية بصفة عامة! إذِ اطلع أصحاب هذا الرأي على كتاب سيبويه، فلم يجدوا فيه أثرًا لاستدلال صاحبه بالأحاديث، والنَّصِّ على ذلك صراحةً؛ كما زعموا. وراحُوا يلتمسون التعليل الشافي لذلك؛ فقال بعضُهم: إن نُحاة المِصْرَيْن (البصرة والكوفة) الأُوَل أعْرَضوا عن الاستدلال بالحديث في المجال النحوي لموقفهم من قضية رواية الحديث الشريف بالمعنى، وهو موقف رافضٌ لهذه الرواية، استنادًا إلى جملة من الاعتبارات، وتماشيًا مع رأي جمهور المُحَدّثين والفقهاء وعلماء الأصول. على أنّ من العلماء (مثل: ابن عباس – أنس بن مالك – أبو هريرة – مجاهد…) مَنْ أجازَ نقل الحديث بمعناه، ولكنْ بشروط، منها الإحاطة بأسرار اللغة ودقائقها، جاعِلينَ ذلك في مرتبة ثانية، ومؤكِّدين أنه قد يغدو ضرورة في أحايينَ محددة، مع الإقرار بأنّ الأصل هو رواية الحديث بلفظه ومعناه. ويؤكد هذه الفكرة – مثلًا- الشيخُ طاهر الجزائري بقوله: «لا خلافَ في أن الأوْلى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه، إلا أنه قد يُضطرّ في بعض المواضع إلى الرواية بالمعنى، وذلك فيما إذا لم يستحضر الراوي اللفظ، وإنما بقي معناه في ذهنه، فلو لم تُجوَّز له الرواية بالمعنى لَضاعَ الحُكم المُستفاد منه، فكان في ذلك مفسدة، لاسيما إنْ كان ذلك الحكم من الأحكام المهمّة التي تضطر إلى معرفتها الأمة، فلم يكن بُدّ من تجويز الرواية بالمعنى في هذه الصورة». فهؤلاء – إذًا- يذهبون إلى أن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُنقل كما سُمعت عنه؛ بل رويت بمعناها فقط، لذا لم يكونوا يُخْفون عدمَ وُثوقهم بأن لفظها الذي وصلتهم به هو لفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإلاّ لَكانوا أخذوا بها في الاستدلال على إثبات الأحكام النحوية، والتقعيد للعربية، كأخذهم بالآي الكريمة تمامًا. فهذا ابنُ الضائع يصرّح بذلك بوضوح قائلًا: «تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترْك الأئمة؛ كسيبويه وغيره، الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث».
وزعم آخرون أن داعي العلماء الأُوَل إلى عدم الاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو هو أنه لم يدوَّن في الصدر الأَوّل من الإسلام، ولم تجمع نصوصه في مصنّفات حديثية وقتئذٍ، وأنه لم يكن اللغويون العرب مؤهّلين للتعاطي مع فنّ الحديث، ولم تكن لهم معرفة كافية بهذا العلم رواية ودرايةً؛ لذا، صعُب عليهم الركون إلى الأحاديث مُتَّخِذينَها سندًا يحتجّون به في تقرير المادة اللغوية والقواعد النحوية، بل رأوا ذلك غيرَ مُمْكن. يقول سعيد الأفغاني، في كتابه «أصول النحو»، مرجّحًا هذا الاحتمال: «وأغلب الظنّ أن مَنْ لمْ يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر به الزمن إلى العهد الذي راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه بعد القرآن الكريم، ولَمَا التفتوا قطّ إلى الأشعار والأخبار التي لا تلبث أن يطوّقها الشكّ إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة». ويضيف – في موضع آخر- قائلًا: «ولذلك نجد ما لدى المتأخرين من ثروة نحوية أو لغوية أو حديثية شيئًا وافرًا مكّنهم منْ أن تكون نظرتهم أشْمَل، وأحكامهم أسدَّ، ولو كانت هذه الثروة في أيدي الأقدمين… لَعَضُّوا عليها بالنواجذ، ولغيّروا – فَرِحين مُغتبطين – كثيرًا من قواعدهم التي صاحَبَها – حين وَضْعها – شحّ المورد، ولكانوا أشدّ المُنْكِرين على أبي حيان جُموده، وضيق نظرته، وانتجاعه الجدب والخصبُ محيطٌ به من كل جانب»! والواقع أنَّه من الصعب على الدارس المحقق التسليم بصحة هذه الفكرة؛ لأن معطيات الواقع التاريخي تفنّدها. فدواوينُ الحديث بدأت تظهر منذ وقت مبكر من تاريخ الدولة الإسلامية ابتداءً من محمد بن مسلم الزهري (المتوفى سنة 124هـ) الذي كان «أنصّ للحديث»؛ كما قال عمرو بن دينار، ومرورًا بمالك بن أنس؛ صاحب «الموطّأ»، وبالشافعي؛ صاحب «الرسالة»، و«الأمّ»، و«المبسوط»… وعليه، فقد كان بين أيدي علماء اللغة – إبّانئذٍ- عددٌ من أمَّات المصنفات الحديثيّة المشهورة، التي تحتوي بين دفّاتها على كَمّية غزيرة من الأحاديث النبوية. ثم إنّ رَمْي أولئك العلماء بالجهل – أو بعدم امتلاك ما يكفي من المعرفة – بالحديث وعلومه أمر غيرُ صائب؛ لأن منهم مَنْ كان يُتقن ذلك، وكان معدودًا ضمن طبقة رواة الحديث والعالِمين به، ومنهم – على سبيل المثال – أبو عمرو بن العلاء، وأبو الأسود الدُّؤلي، وسيبويه الذي تتلمذ للمحدِّث الكبير حماد بن سلمة بن دينار البِصْري، والخليل الفراهيدي الذي قال عنه النضر بن شميل المازني: «ما رأيتُ أعلمَ بالسُّنّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد».
وأرْجَع دارسون انصرافَ لغويّينا المتقدمين عن الاستشهاد بنصوص الوَحْي عمومًا – كِتابًا وسُنةً- إلى ما أسْماه أحدُهم «التحرُّز الدينيّ»، الذي مصدره الأساسُ تقديسهم لتلك النصوص، وخشيتهم من إساءة التعامل معها، عن غير قصْد بكل تأكيد، والإتيان بها في سياقات استدلال قدْ لا تكون ملائمة تمامًا. لذا، فمِنْ باب الاحتراز آثروا عدم الاحتجاج بها في مسائل اللغة والنحو، مُكْتفين بكلام فصحاء العرب.
ومن أبرز الأسباب التي يذكرها مانعُو الاحتجاج بالحديث في اللغة – في هذا الإطار كذلك- وقوعُ كثير من اللَّحْن في الأحاديث النبوية؛ لأن كثيرًا من رُواتها لم يكونوا عربًا بالطبع، ولم يكونوا مُجِيدين للّسان العربي. ورأوا هذا الأمرَ داعيًا قويًا ليترك قدماء اللغويين والنحاة العرب الاستدلال بالحديث في مجال إثبات الكلمات وتوثيقها، وتقعيد اللغة العربية، وبناء أحكامها النحوية وقوانينها الكلية.
ووجدْنا من دارِسِينا مَنْ يُعلّل ذلك بتضمُّن النصوص الحديثية أساليبَ وتراكيبَ جاريةً على غير ما هو شائع في الاستعمال اللغوي العربي، ممّا فتح البابَ لتعدد قراءات النحاة وتأويلهم لها. فمِنْ ذلك – مثلًا- حديثُ «إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ سَبْعينَ خَريفًا» (صحيح مسلم). إذ إن الواحد منّا يتساءل – بلا شكّ- عن علة جرّ كلمة «سبعين»، التي يبدو أنها واردة في سياق الرفع. فقد اختلف النحاة في تخريجها على قولين أساسييْن؛ بحيث إن نحاة الكوفة عَدُّوها منصوبة انسجامًا مع رأيهم الذي يُجيز نصْبَ «إنّ» وأخواتها مَعْمُوليْها معًا، على أن غيرهم خرّجوا الحديث على أن لفظ «القعر» الوارد فيه مصدر الفعل «قَعَر»؛ أي بلغ قعر الشيء، ولفظ «سبعين» منصوب على أنه ظرف، وتأويلُ الحديث أن بلوغ قعر جهنم يكون في سبعين خريفًا/عامًا.
وقبل الفَراغ من الكلام عن الموقف الأول، يَحْسُن بنا تسجيل تعليق سريع على أولئك الذين استمسكوا، للدفاع عن أطروحتهم بشأن امتناع القدماء عن الاحتجاج بالحديث في المادة اللغوية، بإرجاع ذلك إلى إعْراض سيبويه مطلقًا عنه في كتابه المشهور، الذي لم يكن مؤلَّفًا خالصًا في النحو والصرف العربييْن، بقدْر ما اشتمل – أيضًا – على مسائل بيانية وأدبية عدة. فلا يملكُ قارئ الكتاب – من أوله إلى آخره- بشيء من التركيز، إلاّ الإقرار بانطوائه على أحاديث غير مرفوعة إليه -صلى الله عليه وسلم-، وغير منصوص على أنها أحاديثُ نبوية، ولكنها معروفة؛ مِنْ مِثل حديث: «كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة…»، إلا أنها تظلّ قليلة العدد، وهذه القلة تفسّرها الأستاذة خديجة الحديثي، في دراستها الموسومة بـ«الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه»، باحتمالين اثنين؛ أولُهما: «أنّ بين لغات قبائل العرب اختلافًا في الأساليب وفي القواعد؛ فتجوز في بعض اللغات أمور لا تجوز في لغات أخرى. أما القرآنُ والحديث فقد جاءا على أفصح اللغات واللهجات، ولا مجالَ للطعن فيما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو تكلم به، وهو أفصح العرب. إنما اسْتُغنيَ عنه بأسلوب القرآن وآياته الفصيحة التي نزلت بلسان عربي مُبين». وعبّرت عن ثانيهما بقولها: «ربّما اعتبر سيبويه الكلام المحتجّ به نوعين: كلام الله – عزّ وجل- وكلام البشر، بمنْ فيهم الرسول والصحابة وغيرهم. فاستشهد بآيات القرآن، واعتبره الأساس الأول، وقاس عليه، أو قارن بينه وبين ما ورد عن العرب ليُبيّن أنه إنما نزل على ما تكلم به العرب وعلى ما يعْنون، فشبّهه بما ورد في كلامهم وأشعارهم، فقاسه على كلام العرب، أو ساوى بينهما في إثبات قاعدة أو حُكم. أما الحديثُ النبويّ فما هو إلا من كلام البشر، وما تكلم الرسول الكريم إلا بما تكلم به العرب، ولغته الأصلية هي لغة قريش، وهي أفصح اللغات عند سيبويه، فقد اعتبرها اللغة الأولى القدمى، ورآها أفصح اللغات، وهي التي نزل بها القرآن…».
وفي المقابل، نجد أكثر علمائنا – من القدماء والمُحْدَثين- يُجيزون اعتمادَ المادة الحديثية في الاحتجاج لمسائل اللغة والنحو والصرف والبيان والبلاغة، ويمارسون ذلك – فعلًا- في أعمالهم وتآليفهم، دون أن يروا في الأمر شيئًا يمنع من مثل هذا الانفتاح والتواصل والإفادة. فباستثناء ثلة من أهل اللغة – معدودة على رؤوس الأصابع- كانت ترفض الاحتجاج بالحديث في النحو، كانت الأغلبية العُظمى منهم تؤيّد – بقوة- الاستشهاد بالأحاديث في مجالي اللغة والنحو. يقول ابن الطيب الفاسي: «ما رأيتُ أحدًا من الأشياخ المحققين إلا وهو يستدلّ بالأحاديث على القواعد النحوية، والألفاظ اللغوية، ويستنبطون من الأحاديث النبوية الأحكام النحوية والصرفية واللغوية وغير ذلك من أنواع العلوم اللسانية، كما يستخرجون منها الأحكام الشرعية. وأخيرًا: الحقّ ما قاله الإمام ابن مالك علاّمة جيّان، لا ما قاله أبو حيان، وكلام ابن الضائع كلُّه ضائع».
فابنُ مالك كان مُكْثِرًا من الفَزَع إلى الحديث النبويّ يستمدّ منه النصوص للاستدلال بها على القواعد، وعلى إقرار الأحكام النحوية، إكثارَه من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأشعار العربية، وإنْ كان في ذلك يقدّم الحديث على كلام العرب الفصحاء، ويأتي به في مقام ثانٍ بعد آيِ التنزيل الحكيم. يقول عنه الصلاح الصفدي: «إنه كانَ أمّة في الاطلاع على الحديث؛ فكان أكثر ما يستشهدُ بالقرآن، فإنْ لم يكن فيه شاهد عَدَلَ إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب». ويظهر ذلك – بصورة أجْلى- في كتابه «شواهد التوضيح والتصحيح لمُشكلات الجامع الصحيح» الذي عقده للأحاديث مُشكلة الإعراب، ذاكرًا لها الوُجوهَ التي تؤكد أنها من قبيل العربية الفصحى. وقد عرّضه استمساكُه بمنهج الاحتجاج بالحديث في القضايا اللغوية والنحوية إلى هجوم أبي حيان وانتقاده، وهو – كما قلنا – من أبرز مانِعِي الاستشهاد بالأحاديث في هذا الإطار، مع أن كلامه – في مؤلفاته- لم يَخْلُ من الاستدلال بالحديث النبوي مرّات، ولاسيما في المسائل الصرفية!
وأيَّد الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو – كذلك- ابنُ هشام الأنصاري؛ صاحبُ «مُغْني اللبيب عن كتب الأعاريب»، مُخالفًا مَهْيَعَ أستاذه أبي حيّان. وكذا ابن عقيل أحد أشهر شُرّاح ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وبدر الدين محمد الدّماميني الذي لم يكنْ يفوّت أيَّ فرصة سانحة دون الاستدلال بالحديث؛ كما في مؤلَّفه «تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد»، ودون التصدّي لمانِعِي هذا الاستدلال، وفي مقدمتهم أبو حيان الذي شنّع عليه وانتقده.
إن هؤلاء النحاة مَحْسوبون على المتأخرين، والاحتجاجُ بالأحاديث في المادة اللغوية والنحوية بدأ قبلَهم بقرون عديدة؛ كما نجد لدى أبي عمرٍو بن العلاء، والخليل بن أحمد، والكِسائي، والفَرّاء، والأصْمَعي، وأبي عبيد، وابن الأعرابي، وابن السّكّيت، وابن قُتيْبة، والمبرّد، وثعلب الكوفي، والنّحاس، وابن خالَوَيْه… فهؤلاء اللغويون المتقدِّمون لم يتردّدوا في الاستشهاد بالأحاديث، بما فيها غير المتواترة، في مسائل اللغة والنحو والتصريف وغيرها ممّا يتمحَّض لعلوم اللسان، بل إنَّا نجد في آثارهم الباقية كَمًّا لا يُستهان به من المادة الحديثية. وقد كثُر الاحتجاجُ بها في المجال اللغوي – عمومًا- اعتبارًا من القرن الهجري الرابع؛ كما يتبدّى لنا من تصفُّح مؤلفات ابن دُريْد، والزّجّاجي، وأبي الطيب اللغوي، وأبي سعيد السّيرافي، والأزهري، وأبي علي الفارسي، وأبي بكر الزّبيدي، وابن جنّي، وابن فارس، وأبي هلال العسْكري، والجوهري، والثعالبي، وأبي علي الشّلوبين، وابن الشجري، والزمخشري، وابن سِيدَه، وابن السّيد البَطَلْيَوْسي، وابن برّي، وابن خروف، والسهيلي؛ وهو من نحاة القرن السادس، وبه «ابتدأ – حقا- التوسُّع في الاستشهاد النحوي بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، في كتابه الشهير المَوْسوم بـالأمالي»؛ كما قال الباحث محمد ضاري حمادي.
ولا مناص من الإشارة – ها هنا- إلى أنّ دارسين يؤكدون أنّ لُغَويّينا، القدماء والمُحْدَثين، لم يمنعوا إطلاقًا الاستدلال بالحديث في تحقيق الكلمات، وإثباتها، وتبيانها، وتوثيقها، وإنْ سجّلوا عدم حصول إجْماع مُماثِل في البِيئة النحوية؛ مِنْ مُنطلَق أنهم رأوا عددًا من متقدِّمي النحاة العرب والمسلمين ومتأخِّريهم غيرَ مُسلِّمين بذلك الاستدلال على بناء القواعد والأحكام النحوية.
وبمُكْنَتِنا تصنيفُ المؤلفات اللغوية التي يحضر فيها المُكوِّن الحديثيّ إلى أصناف، أبرزها المعاجم اللغوية بدْءًا بمعجم «العين» المنسوب إلى ابن أحمد الفراهيدي (ت175هـ)، والذي يَعُدُّه الدارسون أولَ معجم مؤلَّف في تراث العربية؛ إذ يحتوي بين طيّاته على عدد من الأحاديث، أتى بها صاحبه في سياق شرحه جملةً من الموادّ اللغوية، وليس بصحيح ما قاله عنه المرحوم شوقي ضيف – في كتابه «المدارس النحوية»- من أنه «هو الذي ثبَّتَ فكرة عدم الاستشهاد بالحديث النبوي»! على أن بعض المُعْجَمات القديمة تمتاز بقلة المادة الحديثية فيها قلةً تنسجم مع منهجها في الاختصار الذي يرد التنصيص عليه في مقدّماتها؛ على نحو ما نجد – مثلا- في مُجْمَل ابن فارس، وصِحاح الجوهري. وفي المقابل، نُلْفي معاجمَ مليئةً بالأحاديث، ولاسيما تلك المُتَّسِمة بطابع التفصيل والتوسيع، وعلى رأسها «لسان العرب» لابن منظور المصري. وذكر بعضهم – في هذا الصدد نفسه- أن هذه المصنفات اللغوية كانت تأتي – أحيانًا- بالنصّ الحديثي على سبيل الاستئناس فقط، لا بوصفه مصدرًا أساسيًّا لتقرير قضية لغوية أو لفظ أو توثيقه أو غير ذلك، وعقب إيرادها نصوصًا أخرى أكثر قوة احتجاجيةً، في نظرهم؛ من مثل الآيات القرآنية، والأشعار القديمة، مسجِّلين عدمَ إتيانها بالحديث منفردًا في أيّ مادة لغوية! والواقع أن مثل هذا الزَّعْم يحتاج إلى نظر؛ ذلك بأننا نلفي في جملةٍ من المعاجم المادة مشروحةً ومدعومة بنصّ حديثي أو أكثر فقط، أو معالَجة بالتوسُّل بجملة نصوص، من الوحي والشعر وغيرهما، يتقدّمُها جميعًا حديث نبويّ.
وبالإضافة إلى معاجم اللغة، نقف على أحاديث في ألوان أخرى من التأليف اللغوي، ذكر صاحبُ دراسة «الحديث النبوي الشريف وأثرُه في الدراسات اللغوية والأدبية» جملةً منها. إذ تحضر – بدرجات متفاوتة- في كتب غريب القرآن (مثل مفردات الراغب الأصبهاني)، وكتب غريب الحديث النبوي (مثل تأليف أبي عبيدة المعروف في هذا المجال بوصفه أولَ ما ألِّف في غريب الحديث، وهو كتابٌ مطبوع ومحقَّق)، ومعاجم الفقه (من مثل «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي)، وكتب الأبْنية (ككتاب «الأفعال» لابن القطاع)، وكتب الهَمْز (كما يظهر في الأبواب الأولى المخصّصة للهمز في «المُخَصَّص» لابن سيده الأندلسي)، وكتب لحْن العامّة (مثل «لحن العوام» للزُّبيدي)، وكتب المُعَرّب (كمصنف الجواليقي المعروف في هذا الباب اللغوي).
فالاحتجاجُ بالحديث في ميدان اللغة أمرٌ ثابت، لا مجال إلى إنكاره، ولم يعترضْ عليه أحدٌ من المتقدمين والمتأخرين على السواء، بالنظر إلى ما قدّمه الحديث النبوي من نصوص وافرة خَدَمتْ الدرس اللغوي والبلاغي والأدبي كثيرًا. وإن الأمر لَيَكاد ينطبقُ على الدرس النحوي والصرفي أيضًا لولا تحفظُ بعض القدماء من ذلك؛ لاعتباراتٍ سبقت الإشارة إلى أغلبها. الأمرُ الذي يدعو – حقا- إلى التساؤل عن علة ذلك، مع أنّ البدهيَّ هو تجويز الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو معًا، وإنْ لم نقل ضرورة ذلك في أحايين كثيرة. وهو تساؤلٌ عبّر عنه أحدُهم بقوله: «ما الذي حدا المتقدمين الأوائل أنْ يتحفظوا إزاء الاستشهاد بالحديث النبوي في الدرس النحوي هذا التحفظ، ولا يكون لهم مثل هذا الموقف في الدرس اللغوي أو الأدبي أو البلاغي؟ هل فسّروا لنا موقفهم هذا؟ وهل من سرٍّ يكمُن وراء هذه المظاهر الفريدة؟!».
وبين الموقفين المانِع والمُجَوِّز، تبنّى فريق ثالثٌ من علمائنا موقفًا وسطًا من قضية الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، وزعيمُهم – بلا مُنازع- هو أبو الحسَن الشاطبي (ت790هـ)، في شرْحه على الألفية الذي وَسَمَه بـ«المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية». فهو لم يمنع ذلك الاحتجاج مطلقًا، مثلما لم يسمح به مطلقا. بل إنه – في الواقع- عارَض المانعين، ورَماهم بالتناقض، وأخذ عليهم ترْكَهم المقصودَ للأحاديث، وعدم الاستشهاد بها، مع أنها آية في الفصاحة والبلاغة والمتانة؛ إذ إنّ الناطق بها – كما في الحديث الشهير- أُعْطِيَ جوامعَ الكَلِم ومفاتِحَه؛ الأمر الذي يوهّلها لتكون من المصادر المهمة لأهل اللغة عمومًا، لدى إقبالهم على تقعيد العربية، وضبط ألفاظها، وتحديدها، وتوثيقها. وهو – من ناحية أخرى – لم يوافقِ المُجيزين الدّاعين إلى الاستدلال مطلقًا بالأحاديث، دون تردُّد ودون تمييز؛ على نحو ما نجد لدى ابن مالك الأندلسيّ. فالمادة الحديثيّة – في نظر الشاطبي- قسمان: قسمٌ يصحّ الاستشهاد به في اللغة والنحو وغيرهما من العلوم اللسانية، ولا ينبغي الاختلاف حوله، وهو ستة أنواع كالآتي:
– ما يُروى بقصد الاستدلال به على فصاحته عليه الصلاة والسلام؛ كقوله: «حَمِيَ الوَطيس»، وكالأمثال النبوية، وككتابه لوائل بن حجر.
– ما يروى من الأقوال التي يُتعبَّد بها، أو أُمِرَ بالتعبُّد بها؛ كألفاظ التحيات، وكثير من الأدعية التي كان يدعو بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوقات خاصة.
– ما يروى على أنه كان يخاطب به كلّ قوم من العرب بلغتهم.
– الأحاديث التي وردت من طرق مختلفة واتّحدتْ ألفاظها، ممّا يدلّ على أن الرواة لم يتصرّفوا في لغتها.
– الأحاديث التي دوّنها مَنْ نشأ في بيئة عربية سليمة لم تعرف انتشار اللحْن؛ كمالك بن أنس.
– ما عُرف من حال رُواته أنهم لا يُجيزون رواية الحديث بالمعنى؛ كابن سيرين، والقاسم بن محمد.
والقسمُ الآخَر يضمّ أحاديث لا يجوز الاحتجاج بها، ولا ينبغي الاختلاف في أمْرها هذا، ويَقصد بها الشاطبي تلك المنقولة بالمعنى دون اللفظ، وتلك التي لم تدوَّن في الصدر الأول، وإنما تُروى في بعض كتب المتأخرين. ويُضاف إليها الأحاديثُ المُنطوية على ألفاظ شاذة، أو هي محلّ غمز بعض المحدّثين لها بالغلط أو التصحيف غمْزًا لا مردَّ له. وإنّ تسرُّب مثل هذه القوادح إلى رواية بعض الأحاديث ليس مدْعاة إلى ترْك الاحتجاج بالمادة الحديثية كلها بصفة مطلقة، بل يقتضي «ترْك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط، وحمْله على ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة. وقد وقع في الأشعار غلط وتصحيف، ومع ذلك فهي حجّة من غير خِلاف»؛ كما قال د. محمود فجال. (مرجع مذكور، ص 131 – 132)
وفي ختام هذا المقال، نخلص إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ علماءَنا قد اختلفوا في قضية الاحتجاج بالحديث النبوي في اللغة والنحو على ثلاثة أقوال؛ أحدها يَمنع، والثاني يُجيز، والثالث يتبنى موقف التوسُّط بين الأَوَّلَيْن. مع ملاحظة أنّ منهم مَنْ تحفَّظ حِيال استثمار المادة الحديثية والاستدلال بها في الدرس النحوي، بخلاف مجال اللغة الذي كان أهلُه مُجْمِعين على جواز الاستشهاد بالحديث في إثبات الألفاظ، وتحديدها، وتوثيقها. والواقع أنّ التقعيد اللغوي والنحوي، والخوض في ميادين العلوم اللسانية العربية، اعتمدا ثلاثة مصادر أساسية: القرآن الكريم، والحديث النبوي، وكلام العرب شعرًا ونثرًا إلى حدود نهاية عصر الاحتجاج باللغة. وهذا ما يَلْمسُه كلّ متصفِّح للتراث اللغوي والنحوي لدى العرب منذ أقدم العصور؛ هذا التراث الذي دأب على الاستدلال بالحديث كلّما سَنَحت السياقات بذلك، وعلى تقديمه – غالبًا- على كلام العرب، وهو جديرٌ بذلك لِمَا يتّسم به من فَرادة وسُموّ بلاغي وبيانيّ؛ ومن هنا، تنبع أهمية اعتماده في الدرس اللغوي والنحوي. يقول ابن الطيب – في مؤلَّفِه «تحرير الرواية في تقرير الكفاية»- داعيًا إلى رُكوب مَرْكَب الاحتجاج بالأحاديث في علوم اللغة بعامّة: «وهذا الذي ينبغي التعويل عليه، والمَصير إليه؛ إذِ المتكلم به -صلى الله عليه وسلم- أفصح الخَلْق على الإطلاق، وأبلغ مَنْ أعْجَزَت فصاحتُه الفصحاءَ على جهة العموم والاستغراق. فالاحتجاجُ بكلامه – عليه الصلاة والسلام – الذي هو أفصح العبارات، وأبلغ الكلام، مع تأييده بأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، من المَلِك العلاّم، أوْلى وأجْدَر من الاحتجاج بكلام الأعراب الأجْلاف، بل لا ينبغي أن يُلتفَت في هذا المقام لمقالِ مَنْ جار عن الوفاق إلى إجراء الخلاف». وقد ثبت ممّا تقدَّم أن الدعوة إلى رفض الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو مَرَدُّها إلى ما رَوَّجه أبو حيان وابنُ الضائع – في وقتٍ لاحق- منطلقَيْن من أن متقدِّمي النحاة لم يكونوا يستشهدون بالأحاديث في تصانيفهم، ولم يكونوا ينصّون على ذلك، وقد فهموا من هذا أنهم رفضوا ذلك الاحتجاج، فراحوا يلتمسون التعليلَ المُقنِع لذلك. والواقع أنهم كانوا يُومِئُون إلى كتاب سيبويه المعروف. ولوْ صحّ أن بعض قدمائنا لم يستدلوا بالأحاديث في الدرس اللغوي والنحوي، فذلك ليس معناه – إطلاقًا- أنهم كانوا يمنعون ذلك الاستدلال، بقدْر ما كانوا يكتفون بإدخالها تحت مُسَمّى «كلام فصحاء العرب»، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- أبلَغَهم وأفصحَهم جميعًا. ويبدو أنّ سيبويه تعامَل مع المادة الحديثية الواردة في كتابه بهذه الطريقة، فأدْرَجها ضمن هذا الكلام من غير نَصٍّ على أنها أحاديثُ نبوية شريفة. ولئن سجّل دارسون قلة احتجاج القدماء بالحديث في إقرار أحكام النحو، وإثبات القواعد الكلية، مقابلَ إجْماعهم على الاحتجاج بالمادة الحديثية في إثبات ألفاظ اللغة وتوثيقها وتصحيحها، إلاّ أن المتأخرين، في المشرق والمغرب الإسلاميين معًا، قد «اعتمدوا الحديث أيَّ اعتماد في فروع العربية جميعا؛ في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والبيان، وليس ذلك إلاّ استمرارا لموقف السابقين في هذه الميادين، وتنمية واتساعًا في مبدإ الاحتجاج بالحديث في ميدان النحو على وجه الخصوص»؛ كما قال الأستاذ محمد حمادي في كتابه «الحديث النبوي الشريف وأثرُه في الدراسات اللغوية والأدبية».
أهم المراجع المعتمَدَة:
(1) د. أحمد ضاري حمادي: الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية، ط.1، 1982م.
(2) د. محمود فجال: الحديث النبوي في النحو العربي، ط.2، 1997م.
(3) د. السيد الشرقاوي: معاجم غريب الحديث والأثر والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو، ط.1، 2001م.
(4) د. محمود صالح شريف عسكري: الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف عند اللغويين (مقال)، مجلة «آفاق الحضارة الإسلامية»، ع.2، س.13، 1431هـ.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1437 هـ = مارس – أبريل 2016م ، العدد : 6 ، السنة : 40