إشراقة

بقلم : مساعد التحرير

       كنتُ أقرأ منذ أيام مقالًا لكاتب عربي حول ما تُعَانِيه اللغةُ العربيّةُ من إهمال شنيع من قِبَل أبنائها، وأخطار رهيبة من قِبَل أعدائها، ومؤامرات منسوجة نسجًا دقيقًا مُحْكَمًا ماكرًا من قِبَلهم صدورًا عن الذهنيّة الاستعماريّة أو الشعوبيّة الـمُنْتِنَة، فقاسمتُ الكاتبَ الحزنَ الـمُمِضَّ والألمَ القاتلَ والأسفَ الـمُمِيتَ الذي أبداه في مقاله نحو ضياع  اللغة العربيّة بين أبنائها. قال الكاتب فيما قال:

       «ليتنا – إذ لم نُدْرِكْ قدرَ لغتنا، وعظيمَ أثرها في حياتنا – نظرنا إلى ما تفعله الأممُ للغاتها، من إكرام، واحترام، وقوامة رائعة، وإعمال وتفعيل وتطوير، لا نستطيع مُجَرَّدَ تصوّره. وفوق ذلك حماية لغتهم من دخيل اللغات الأجنبيّة، التي يعتبرونها أخطرَ على لغتهم من الجيوش الغازية الـمُدَمِّرَة، التي لا تُبْقِي و لا تَذَرُ».

       وأضاف كاتبًا:

       «كنتُ في ألمانيا تسعَ سنوات دراسيّة، نسيتُ فيها لغات العالمين، وكأنه ليس في العالم إلّا اللغة الألمانيّة، للقوامة الهائلة، وتكثيف تعليمها لأولادهم بقوة، وحمايتها من اللغات الأجنبيّة».

       ونقل قول حاكم فرنسا السابق «شارل ديجول»: (لقد فعلتْ لنا لغتُنا مالم تفعله لنا جيوشُنا؛ فلغتُنا جَعَلَت القومَ أتباعًا لنا أذلّةً، وجيوشُنا احْتَلَّت الديارَ، ورَحَلَتْ عنها، وخَلَّفَت لنا الكراهيةَ).

       وأضاف كاتبًا:

       «إنّ المرأ ليَفِيقُ – يموت – من بلادة أفكارنا وينفر، حينما يرى موتَ غيرتنا على لغتنا، وكلُّ الشعوب لا تغار على شيء كغيرتها على لغاتها. ألا نغار على لغة القرآن والسنة؟ ألا نغار على لغة ديننا ودنيانا، وهُوِيَّتِنا وعنواننا، ومصدر عزّنا واحترامنا، وجَامِعَةِ شَمْلِنا، ومُوَحِّدَةِ أفكارنا، وحافظةِ أمننا وأسرارنا، وآلةِ علومنا وإبداعنا؟!» (صحيفة «الجزيرة» ص38، زاوية «الرأي» العدد: 13272، الصادر يوم الخميس: 3/صفر 1430هـ الموافق 29/يناير 2009م).

وتذكرت عفويًّا ما شاهدتُه من مظاهر موت غيرة العرب على لغتهم خلال زيارتي الأخيرة لبعض البلاد العربيّة (في الفترة ما بين الخميس – السبت: 22/محرم – 8/صفر 1437هـ الموافقين 5-21/نوفمبر 2015م) فصَدَّقْتُ ما قاله الكاتب حرفًا حرفًا؛ حيث إن المرأ ليبكي دماءً عندمـا يرى في هذه البلاد من تسلّط مُتَعَمَّد للغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية على اللغة العربية، ولاسيّما في المكاتب والمدارس والشركات والمتاجر ومظاهر الحياة العامة، فقد يظن الزائر خلالَ وجوده فيها أنه في بلد غير عربي، ويقارن هذا الموقفَ الشائنَ من قِبَل العرب بالغيرة التي توجد لدى الأجانب على لغتهم، فيَتَمَلَّكُه من الأسف والحزن ما لايكاد يصفه.

       وحَكَىٰ لي بعضُ الإخوة أنهم أَتْقَنُوا العربيّةَ، وتَمَكَّنُوا من الكتابة والمحادثة باللغـة العربية الفصحى ظنًّا منهم أنهم عندما يقصدون البلادَ العربيةَ للعمل في مجال من المجالات يُتَلَقَّوْن بحفاوة وإكرام؛ ولكنهم أَدْرَكُوا بعد كونهم مُوَظَّفِين فيها – البلاد العربية – أنّ العرب إنما يَحْتَفُون بمن يُجِيدُ الإنجليزّيّةَ وغيرَها ويَمْتَلِئُون هيبةً منه وانبهارًا به. أما المتعامل بالعربية فيرونه أحطَّ مكانةً من المُجِيد للإنجليزية، لأنهم ينظرون إليه نظرةَ من يَرُدُّ إليهم «بضاعتَهم» فيقولون بلسان الحال: «بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا».

       أما الجهةُ الدينيّةُ للغة العربيّة فقد غابت اليوم عن عموم العرب، ولاسيّما أهالي تلك البلاد العربية المشار إليها آنفًا؛ فقد فرضت المَادِّيَّةُ عليهم ذاتَها، وألْهَتْهُمْ ثقافةُ التكاثر والتنافس فيما يُرَفِّه العيشَ ويُنَعِّم الحياةَ، واختفت عنهم قيمةُ الدين وما يتعلق به.

       ومن ثم نسمع صيحات الأسف المُتَّصِلَة التي يُطْلِقها الكُتَّاب العرب الغَيَارَىٰ حول ما تُعَانِيه العربيّةُ من إهمال شديد من العرب من جَرَّاء الغزو الثقافي الفكري الذي أُصِيْبُوا به، فجعلوا يحتضنون اللغات الأجنبية – ولاسيّما اللغة الإنجليزية – إيمانًا منهم بأنها لغات العصر والعلم الحديث والاكتشافات والتكنولوجيا والاتصالات العالمية، فهي تُمَاشِي الحياةَ والركبَ العلميَّ المتسارعَ السيَّارَ، واللغةُ العربيةُ لاشأن لها – كما يعتقدون – بذلك كلّه، فهي لا تُلَبِّي مُقْتَضَيَات الحياة المُتَطَوِّرَة والحاجات المُسْتَحْدَثَة. واعتقادُهم هذا يرجع إلى جهلهم بالجهود الجبّارة الحثيثة التي ظلّ – ولا يزال – علماءُ اللغة العربية والعاكفون على خدمتها يبذلونها لتطويرها وجعلها تستوعب مُعْطَيَات الحياة المُتَجَدِّدة ومُتَطَلَّبَاتها المتزايدة، بنحو فردي حينًا ومن على منابر مجامع اللغة العربية حينًا آخر، جريًا على شاكلة العلماء السلف، الذين ظلّوا يصنعون الصنيعَ نفسَه مع الـمُعْطَيَات الحضاريّة في عصورهم، بدءًا من العصر العباسي الذي كَثُرَ فيه الاحتكاكُ بين العرب والعجم، والتعاطي بينهم في مجالات الحياة المختلفة، فَاتَّجَهَ علماءُ العربيّة إلى وضع أسماء وبدائل لغويّة للأشياء الحديثة، التي لم تكن أسماؤها موجودة في العربية من ذي قبل، لعدم احتياج العرب إليها حالَ عزلتهم عن العجم.

       ولم يجد العلماءُ والكُتَّابُ والمُثَقَّفُون في أيِّ عصر ومصر العربيّةَ تضيق عن الوفاء بأيّ حاجة مُتَجَدِّدَة؛ لأنهم وجدوها تُلَبِّى جميعَ الحاجات، عن طريق الاشتقاق والنحت، والتعريب والارتجال، والقلب والإبدال. و«النحتُ»: هو أن نعمد إلى كلمتين أو جملة كلمات، فننتزع من مجموع حروف كلماتها، كلمةً واحدةً تدلّ على ما كانت عليه الجملةُ كلها. و«الاشتقاقُ»: هو أخذ كلمة من كلمة أخرى مع تناسب بينهما في المعنى وتقارب في اللفظ. و«التعريب»: تحويل كلمة أعجميّة إلى عربيّة. وقد جرى العربُ في هذا السبيل شوطًا كبيرًا، فعَرَّبوا كثيرًا من الكلمات الحبشية واليونانية والفارسية والهنديّة. و«الارتجال»: هو وضع ألفاظ جديدة للدلالة على المعاني الطارئة، ويُسْتَخْدَم اليوم كثيرًا لوضع ألفاظ جديدة للاكتشافات الحديثة كالدبّابة والمطار ومدرج الطائرات. و«القلبُ» – ويُسَمَّى «الاشتقاق الكبير» – : هو أن يكون بين اللفظين تناسبٌ في المعنى واللفظ دون الترتيب. و«الإبدالُ» – ويُسَمَّى «الاشتقاق الأكبر» – : هو أن يكون بين اللفظين تناسب في المعنى والمخرج.

       ولكن العصر هو عصر الاستعباد الغربي وانتصارُ الحضارة الغربيّة – حسب سنة الله عزّ وجلّ في الكون؛ لأنه يُدَاوِلُ الأيّامَ بين الناس – فأصبح العرب يسومون أولادَهم إتقانَ الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو … في مدارس مُخَصَّصَة لتعليم هذه اللغات تقام في بلاد العرب قبل أن يَدَعُوْهُمْ يُتْقِنُون لغتهم العربيّة – التي هي معقد عزّهم وفَخَارهم، وفوق ذلك أنها مبعث سعادتهم في الدنيا والآخرة شريطةَ إخلاص النيّة واحتساب الأجر – ومن ثم يتخرّج النشءُ العربيُّ الجديدُ يَرْطُنُ بلغات أجنبيّة ويتحدّث في البيت والشارع والمكتب والمحلّ التجاري بعربيةَ مُكَسَّرَة قد لا يَتَسَفَّلُ إليها مسلمٌ غيرُ عربيّ تَعَلَّمَ العربيَّةَ وسَعِدَ بالتحدّث بها عن اكتساب وتَطَبُّع لا عن طَبْع.

       وكثيرًا ما نقرأ في الصحف والمجلات العربيّة زوايا الكُتَّاب الصِّحَافِيِّين يَرْثُونَ فيها للعربيّة في ديارها «شقاءَها» – إذا صَحَّ التعبيرُ – وضياعَها بين أهلها الذين رُضِعُوا بِلِبَانها، حيث تتابعت أجيالٌ لا تقدر على التحدّث بالعربيّة الفصحى التي نزل بها القرآن – كتاب الله الأخير الخالد المُهَيْمِن على الكتب السماويّة كلها – وتَرْطُنُ بفصاحة وسلاسة بالإنجليزية وغيرها. واكْتَسَحَ اليومَ العالمَ العربيَّ سيلٌ جارفٌ من المدارس الأجنبية تُرَكِّز على تعليم لغات أجنبية إلى جانب علوم عصريّة. وفي بعض البلاد العربية بَذَّ عددُها عددَ المدارس العربيّة ومُنِحَتْ امتيازاتٍ لم تُمْنَحِ المدارس العربيّة إيَّاها، ولدى القائمين عليها – من سفارات ومديرين – حماسٌ بالغ لايُـوْصَف بشأن ترويج ثقافاتهم ولغاتهم، عاد لا يتمتع به العرب الذين يرون – مع الأسف – أن الثقافات واللغات الأجنبية صارت تنفع اليوم ما لا تنفع اللغة العربية؛ لأن الثقافات واللغات الأجنبية – كما يعتقدون عن خَطَإٍ صريح – تتمتع بِحَيَوِيَّـة، وتَكْفُلُ النجاحَ المادّيَّ، وتَضْمَنُ الحياةَ الدنيويةَ السعيدةَ التي بات العربُ كذلك تَتَحَلَّب لها أَفْوَاهُهُم كأبناء الدنيا الآخرين، الذين مُعْظَمَهُمْ – أبناء الدنيا الآخرين – لا يؤمنون بالآخرة، وإنما هي الحياة الدنيا، ويعتقدون أنه لا يُهْلِكُهُمْ إلّا الدهرُ، فالفلاح عندهم هو الفلاح الدنيوي العاجل وحده.

       ولكن العرب – الذين يؤمنون بالنبيّ العربيّ – صلى الله عليه وسلم – والجنة والنار والبعث بعد الموت – ليست لديهم العربيةُ ذات شأن تافه، وإنما هي لغةُ الإسلام والقرآن وشارحتُه، ولغة الشريعة التي عليها يتوقّف فهمُها كليًّا، واللغة التي بها تحدّث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وصحبُه، وبها تعامل – صلى الله عليه وسلم – طَوَالَ حياته، وبها بَلَّغ الرسالة وأدّى أمانةَ ربّه إلى الإنس والجنّ؛ فهي عندهم لغة الدين والدنيا، واللغة الإسلامية واللغة القوميّة؛ فلا يَرَوْنَ لها بديلًا، ولا يَبْغُون عنها حِوَلًا، ويؤمنون أنّ أيَّ لغة في الدنيا لا تَعْدِلُها في السِّعَة والشمول والاستيعاب، والدِّقَّة والإتقان والضبط؛ والتعبير الأوْفَىٰ، الأَدَلِّ الأَرْوَع، الأَجْمَل الأَثَرِّ، عن كل غرض من أغراض الدنيا والدين، والجديد والقديم؛ والإفصاح عن كل معنى وحقيقة بأكثر من لفظ وأسلوب وصياغة؛ وإعطاء ألفاظها أكثر من معنى و دلالة وإشارة.

       وإذا كان فهمُ الشريعة يَتَوَقَّف عليها، وبدون فهمها لايمكن العملُ بها، وبدون العمل بها لا يَتَمَهَّدُ الطريقُ إلى الجنة – التي من دخلها فقد فاز وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور – فاللغةُ العربيةُ طريقُ العرب ومن تَبِعَهم بإحسان من المسلمين في العالم إلى الجنّة؛ فلا غنى لهم عنها ولافكاك لهم منها، إنّها حاجتهم اللَّازِمَة المُلَازِمَة التي هم مُضْطَرُّون لقضائها شاؤوا أم أَبَوْا، كرهوا أم أحبّوا.

       إنّ عددًا لا يُعَدُّ من العرب والمسلمين في الماضي القريب والبعيد أدركوا هذه الحقيقة، فوقفوا حياتَهم على خدمتها بجميع الأشكال والنواحي، صادرين عن الإيمان الجازم بأن خدمتها هي خدمة الدين والكتاب والسنة والشريعة، والمقتضى المباشر لحبّ الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.

       وليعلم العرب أن ضياع لغتهم ضياعٌ لدينهم ودنياهم، فإقامة اللغة العربية هي مسؤولية العرب أجمعين فردًا وجماعةً وشعبًا وحكومةً. وسيُثَاب ثوابًا جزيلًا من يعمل عن جِدِّيَّة وتخطيط وكمُهِمَّة شريفة مُشَرِّفَة على إثارة الغيرة لدى العرب على لغتهم، الغيرة التي تثور لدى الرجل تُنْتهَكُ حرمتُه وتُدَاسُ كرامتُه ويُطْعَن في شرفه. وَحَبَّذَا لو نَهَضَ الغَيَارَىٰ من العرب لِيَحُثُّوا العربَ على أن لا يتحدّثوا إلّا بالعربية الفصحى، ويُعَوِّدوا أولادهم ذلك في كل من البيت والمدرسة. إن ذلك سيكون انتصارًا لكتاب الله وسنة رسوله، وإحياءً لثروة السلف الصالح، وقدوة حسنة مُتَمَثِّلَة في كسر حاجز عقدة التحدّث بالفصحى، وتحطيمًا لمحاولة وَاْدِ العربيّة في ديارها، واتنزاعها من مهدها.

(تحريرًا في الساعة الثالثة من مساء يوم الاثنين: 23/ربيع الأول 1437هـ  = 4/يناير 2016م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1437 هـ = مارس – أبريل 2016م ، العدد : 6 ، السنة : 40

Related Posts