الفكرالإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

          دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة والحشود المؤمنة متزاحمة لاستقبال خير البرية -صلى الله عليه وسلم-، فكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حَبْقُوق: «إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران».

       ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت.

       ومكث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما – النبي وأبا بكر الصديق- بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم.

       وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس – يوم الجمعة – ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار – أخواله – فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مئة رجل(1).

       ثم سار النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الجمعة حتى دخل يثرب في يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة النبوية، وكان عمره 53 عامًا كاملًا، حيث مضى على نبوته 13 عامًا، ومن ذلك اليوم الذي دخل فيه نور النبوة المدينة، سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويعبر عنها بالمدينة مختصرًا.

       وفي صحيح الإمام البخاري- رحمه الله-: «لما سمع الْـمُسْلِمُونَ بِالْـمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ(2) الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْـمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ»(3).

       وكان يوم دخول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- المدينة يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت وارتفعت الأصوات بالحمد والتسبيح والتكبير، وعم الفرح والسرور والبهجة المدينة وتبسم ثغرها، وهي ترفُل في حلل الفخر والاعتزاز، واستقبله زهاء خمس مئة من الأنصار، وتغنت النساء والصبيان والولائد بالدفوف ويقلن:

«طَلَعَ البَــدْرُ علينا  =  مَـن ثَنيَّاتِ الــوَدَاعِ

وجبَ الشُّكرُ علينا  =  مَــا دعــــا للهِ داعِ

أيها المبعــوث فيـنا  =  جئت بالأمر المطاع»(4).

       فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْـمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَـــهُ فَسَـارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَــرَكَتْ عِنْــدَ مَسْجِــدِ الرَّسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْـمَدِينَــةِ، وَهْــوَ يُصَلِّي فِيــهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِـرْبَدًا(5)  لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَــالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْـمَنْزِلُ» فدَعَا الْغُلاَمَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْـمِـرْبَدِ لِيَتَّخِــذَهُ مَسْجِــدًا، فَقَالاَ: لاَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ بَنَــاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:

«هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ

هَــذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَـــرْ».

       وَيَقُولُ:

«اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَة

فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْـمُهَاجِرَة»(6).

       عن أنس – رضي الله عنه- قال: «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء»(7).

       وعن البراء بن عازب – رضي الله عنه- قال: «مَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْـمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-»(8).

حلت الأنوار ببيت أبي أبوب الأنصاري – رضي الله عنه–:

       لم يكن الأنصار – رضي الله عنهم- من الموسرين؛ لكن كل واحد منهم يحب أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ضيافته، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمر بناقته على صف من صفوف الناس إلا ويدعونه للإقامة عندهم، وهو يقول لهم: «دعوها؛ فإنها مأمورة» ولما مَرَّ بِبَعْضِ الْـمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِجَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِدُفِّهِنَّ وَيَتَغَنَّيْنَ وَيَقُلْنَ:

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ

يَا حَبَّــذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَــارِ

       فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «يَعْلَمُ اللهُ إِنِّي لأُحِبُّكُنَّ»(9).

       حتى بركت الناقة في محل من محلات بني النجار أخوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعند باب أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد النجاري الخزرجي، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه-،  ندعه يحكي لنا قصة نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته، يقول رضي الله عنه: «إنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَزَلَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، -قَالَ- فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَـةً فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «السُّفْلُ أَرْفَقُ». فَقَالَ: لاَ أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا. فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْعُلْوِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ». قَالَ: «فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ»(10).

*  *  *

الهوامش:

(1)        سيرة ابن هشام، 2/361-362. الرحيق المختوم، المباركفوري، 154-156.

(2)        جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون.

(3)        صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة – رضي الله عنهم-، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ح3694.

(4)        دلائل النبوة للبيهقي، باب تلقي الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ح2019.

(5)        المربد: الموضع الذي يجفف فيه التمر.

(6)        صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة – رضي الله عنهم-، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ح3694.

(7)        سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته -صلى الله عليه وسلم-،  ح1631.

(8)        صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه – رضي الله عنهم-، ح3710.

(9)        سنن ابن ماجه، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه-، كتاب النكاح، باب الغناء والدف، ح1899.

(10)      صحيح مسلم، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه-، كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار أكله، ح2053.

*  *  *


(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1437 هـ = يناير – فبراير 2016م ، العدد : 4 ، السنة : 40

Related Posts