الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ «حكيم الأمة» المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
بعضُ الناس يؤخرون بعضَ أفعال الخير إلى رمضان ، فمثلاً حلّت عليـــه الـزكاة في شعبان ، فلا يؤديها وينتظر رمضان . وقد يجوز أن لا يُوَفَّقَ لأدائها في رمضان لسبب أو آخر : سُرِقَ المبلغ ، أو حدث مانع آخر ، على أن الفقراء والمساكين قد يموتون جوعًا إذا أخّرناها لرمضان وقد حلّت في شعبان . فذلك لاينبغي .
ليُعْلَمْ أن الشارع عندما رغّب في الاهتمام بفضائل رمضان ، لم يُرِد أن يؤخر فعلَ الخيرات إلى رمضان ، وإنما أراد أنه إذا تأخّر أحد إلى رمضان ولم يقم بحسنة من الحسنات ، كان القيام بها لازمًا منذ ما قبل رمضان ، فلا يؤخِّرها إلى ما بعد رمضان ، وليقم بها في كل حال . ولكن الغرض ليس هو المنع عن القيام بها في حينها الذي حلّت فيه عليه . ونشأ عن الخطأ في الفهم أن الناس بدأوا يؤخّرون الأعمالَ الواجبَ أداؤها فيما قبل رمضان، إلى رمضان ، حرصًا منهم على نيل ثواب أكثر وأجر أوفر ، لما سمعوا عن فضائله وزيادة الثواب فيه . فليُعْلَمْ أن تعجيل الخير بدوره يُنِيْلُ المُعَجِّلَ ثوابًا موفورًا ، ولئن كان في غير رمضان . وإن أداء حسنة في وقتها يُسَبِّب له أجرًا قد لايناله في رمضان إذا أدّاها مُؤَخَّرَةً . إني والله مقتنع بذلك كلَّ الاقتناع ، ومن هنا أتحدّث إليكم عن ذلك عن قناعة بالغة . إن إدخال السرور على فقير محتاج احتياجًا شديدًا بدفع مال من أموال الزكاة إليه في غير رمضان ، قد يكون سببًا في ثواب كبير لايناله المرأ إذا دفعه إليه في رمضان وقد تمّ عضُّ الجوع إيّاه بنابه فيما قبل رمضان .
لايجوز تأخير الحسنات :
وهذا الأمر مجهول لدى العامّة ؛ فَلْيُعْلَمْ أن تأخير أداء الزكاة بعد حلولها ، اختلف فيه الفقهاء فيما يتعلق بما إذا يأثم أو لا يأثم . فذهب بعضُهم إلى وجوب الأداء على الفور ، فيأثم عندهم إذا أخّر. وبعضُهم ذهب إلى وجوب الأداء على التراخي ؛ فلا يأثم لديه إذا أخّر الأداء . والأحوطُ أن لايؤَخِّرها بعد حلولها ؛ حتى يتفادى الإثمَ لدى كلا الفريقين . ثم إنه إن كان تأخير أداء الزكاة إلى رمضان موجبًا للثواب ، لكانت الشريعة تكون قد قالت في موضع ما : امنعوا أداءَ الزكاة وجميعَ الصدقات منذ ما قبل رمضان بمدة كذا ، فلمّا لم تأمر بذلك ، فإنّ عملنا به تعدٍّ وزيادة في الدين وبدعة ؛ حيث رَجَوْنَا الثوابَ في شيء لم تقل فيه بثواب . إنها معارضة لأمر شرعيّ ؛ غير أن الذي صنع ذلك جهلاً به يُرْجَىٰ أنه لن يأثم ، ولكن من يُقْدِم على ذلك بعد ما علم ، فإنه يأثم ، لأنه علم ما هو الحق .
تفنيد الاحتفال بعيد ميلاد النبي ﷺ بالأدلة الأربعة :
ليُعْلَم أن التقليد المُتَّبَع باسم «عيد ميلاد النبي» سنتناوله بالحديث من جهتين : (الف) الدلائل على كونه غير مشروع في الإسلام (ب) تفنيد دلائل القائلين بعيد ميلاد النبي . ومن المعلوم أن الدلائل التي تقوم عليها الشريعة أربعة : كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع الأمة ، والقياس . وسنفرد كلاً منها بحديث :
تفنيد عيد الميلاد بالقرآن الكريم :
يقول الله تعالى : «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوْا لَهُمْ مِنَ الدِّيْنِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهِ» (الشورى/21) فَدَلّت الآية بوضوح على أن الأحكام الإلهية ، مرفوضٌ شرعُها بدون الإذن الإلهي ، أي بدون دليل شرعي. فتلك «كبرى» – في اصطلاح المنطق – «والصغرى» أن عيد الميلاد شرعوه دونما دليل ظنًّا منهم أنه حكم دينيّ . أما كونهم لايملكون دليلاً على ذلك، فهو ظاهر كلَّ الظهر ؛ حيث إنه ليس من أمور الشرع ، وإنما هو شيء مُسْتَحْدُثٌ . وقد يحتمل أن يكونوا قد أدخلوا هذا الأمرَ ضمنَ ضابط كليّ ، وهو أنهم اخترعوه لإبداء الفرح أو لإظهار عظمة الإسلام . وهذا السبب كان موجودًا في القرن الأول أي في عهد الصحابة الذين كانوا يفهمون الكتاب والسنة أكثر منا ؛ ولكنهم لم يعملوا بالاحتفال بعيد الميلاد لإبداء فرحهم أو لإبداء عظمة الإسلام والتأكيد عليها ؛ فعُلِمَ أن ذلك لا يتأتّى ضمن أي ضابط شرعي ؛ فهذا الأمر مُسْتَحْدَث ومُسْتَنْكَر في الشريعة، لايمتّ إلى الأصل الشرعي بصلة ما . ومن المعلوم أن حقيقة البدعة أن يُعْمَلَ بغير الدين باعتباره دينًا ، والمحتفلون بعيد الميلاد ، يظنونه من الدين ، فوجب تركُه . فهذا كان استدلالاً بالقرآن على بطلان عيد الميلاد .
تفنيد عيد الميلاد بالحديث :
أما الحديث ، فقد قال النبي ﷺ : «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو ردّ» (متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها) . والمراد من «الأمر المُحْدَث» ما لم يكن سببُه قديمًا ولا معمولاً به على عهد النبي ﷺ وصحابته – رضي الله عنهم – والحديث الآخر في هذا الباب ما رواه مسلم ، قال: قال رسول الله ﷺ : «لاتختصموا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولاتختصموا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلاّ أن يكون في صوم يصوم أحدكم»
فالحديث دلّ على أن التخصيص غير المنقول عن الشارع عليه السلام منهيّ عنه . غير أن علماءنا سمحوا بصيام يوم الجمعة بدليل آخر مستقل ، وقالوا : إن النهي في الحديث عن يوم الجمعة مُوَقَّت وليس نهيًا ثابتًا .
فالضابط أن التخصيص غير المنقول عن الشارع غير جائز في الدين . فإذا نظرنا إلى تخصيص الاحتفال بيوم الميلاد ، وجدنا أنه غير منقول عن الشارع ، وليس هو نابعًا من العادة ؛ لأنهم يرونه من الدين ؛ حيث يلومون تاركَه أي الذي لايحتفل به ، ويحسبونه سَيِّءَ الدين أو مارقًا منه . ولوكان التخصيص نابعًا من العادة لما تناولوه بالملام والاتهام بسوء الدين . كما إذا تعوّد أحد لبسَ نوع من الثياب و وجد غيره لا يتقيّد به ، فلا يلومه . على كل فإنهم يحسبون الاحتفالَ بعيد الميلاد من الدين، فهذا التخصيص تخصيصٌ في الدين وهو غير منقول عن الشارع ؛ فعُلِم أنه غير جائز . بل إذا تأملنا وجدناه أشدّ نهيًا من صيام يوم الجمعة ؛ لأن يوم الجمعة فضائله مذكورة في الحديث صراحة ، أما يوم ولادة النبي ، فلم يذكر حديث فضيلة صريحة له ، وإن كان يوم ولادته مبعثَ خير وبركة ومطلعَ نور وهداية يقول به المسلمون . ولا يوجد في المسلمين من لايؤمن بذلك ، يقول السيوطي أو الملا علي القارئ في فضيلة شهر ميلاده ﷺ :
لِهَذا الشَّهْر فِي الإسلامِ فَضْلٌ
ومَنْقَبَــةٌ تَفُــوْقُ عَلى الشُّهُــورِ
ربيــــعٌ في ربيــــــعٍ في ربيـــــعٍ
ونــــورٌ فـــوقَ نـورٍ فوقَ نـور
فالفضيلة مطلقًا لاتُنْكَر ، وإنما الكلام في أن فضائله غير واردة بشكل صريح في الحديث . كفضائل يوم الجمعة التي ذُكِرَت بوضوح . فالأمر الذي لم تكن فضائله منصوصًا عليها ، كيف لايكون تخصيصه منهيًّا عنه . وقد زعم بعض الناس أن يوم الولادة فضيلته هي الأخرى مذكورة في الحديث ؛ فقد ورد أنه ﷺ كان يصوم يوم الاثنين، سُئِلَ عن ذلك . فقال : «ذلك يوم وُلِدْتُ فيه». (رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه) وسنجيب عن هذا التعقيب في معرض تفنيد دلائل المعارضين إن شاء الله.
الحديث الثالث في الردّ على القائلين بالاحتفال بعيد الميلاد :
روى أبوداؤود : قال رسول الله ﷺ : «لاتجعلوا قبري عيدًا ، وصَلُّوا عليَّ ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». (رواه أبوداؤود في كتاب المناسك)
نهى الحديث عن اتخاذ غير العيد عيدًا . وقد يشكّ أحد أن قبره يجتمع الزائرون لديه كثيرًا . والجواب أن النهي واردٌ عن الاجتماع على قبره بتحديد اليوم والتداعي أي أن يحمل بعضُهم بعضًا على الاجتماع ، أما الاجتماع الواقع على قبره ﷺ، فلا يكون بتحديد يوم معين أو عن طريق التداعي، كما يحصل في الأعياد . والاجتماعُ غيرُ الموَقَّت لم يُنْهَ عنه ؛ فالزائر لقبره الشريف لا يمارس أيًّا من الأمرين ، حيث لا يحدّد اليوم ولا يقوم بالتداعي . فالزوّار يزورونه كيف ما يتيسّر لهم ذلك ، لايهتمون بحيث لايرون الاجتماع أو الزيارة ضروريًا كأمور الدين .
فاحديث ينهى عن اتخاذ قبره عيدًا . أما القول بأن جملة «صَلُّوا عَلَيَّ ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثُ كنتم» دالّة على عدم جواز مجرد الاجتماع على قبره ﷺ ؛ فإن شرّاح الحديث أوّلوا الحديث تأويلات عديدة ، وأقربُها لديّ أن المبتدعين كان لهم أن يقولوا : إنما نجتمع على قبره كالعيد لنصلي عليه ﷺ ، والصلوةُ عليه مأمورٌبها ، فاجتماعُنا على قبره مأموربه . فكان الردّ عليهم من قبله ﷺ بأن الصلاة عليّ تبلغني حيث كنتم ، ولايلزمكم حضورُ قبري للصلاة عليّ . فهذا الحديثُ يُسْتَنبط منه حكم هامٌّ في الشريعة ، وهو أن الصلاة عليه ﷺ، التي يراها البعضُ مندوبة ، ويراها البعضُ واجبةً ، والبعضُ فريضة ، إذا لم يجز الاجتماع على قبره كالعيد جائزًا من أجلها ، فكيف يجوز لغيره من الأغراض المخترعة . ولايشك أحد أن ذلك يعني أنه يجوز الاجتماع على قبره لزيارته والسلام عليه ؛ لأن الزائر إنما ينوي الزيارة أصلاً ولا ينوى الصلاة كغرض مقصود ، والزيارة لا تتأتى بدون حضور القبر ، أما الصلاة فقراءتُها عليه تتأتّى بالحضور وبدون الحضور .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.