دراسات إسلامية
بقلم: سعادة الدكتور/ علي بن جابر وادع الثبيتي (*)
المقدمة:
جاءت الشريعة الإسلامية بصلاح القلوب والأبدان ففروض الشريعة وسننها ومستحباتها و أوامرها ونواهيها أسس صحيحة، يقول «سان جيورجيو دوريلانو» عنها: «إن الفروض والواجبات والسنن والمستحبات التي كلف بها المسلمون ترمي إلى إصابة هدفين وتحقيق غايتين في آن واحد: غاية دينية و غاية صحية».
ويقول «رونة ساند» في كتابه «نحو الطب الاجتماعي»: «إن تعاليم الإسلام الدينية تحافظ على الصحة وتحسنها؛ لأنها تدعو إلى الاعتدال في الأكل والشرب وتفرض النظافة والاغتسال بالماء الطاهر خمس مرات في اليوم وقبل كل صلاة».
هذه الأسس والفوائد الصحية منها ما كشف الطب الحديث عنه ومنها ما زال بحاجة إلى بحث قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيٰتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[فصلت: الآية53].
وليس هذا فحسب؛ بل الإسلام وضع أسس الوقاية الصحية من الأمراض النفسية التي أشار إليها الإسلام وجالت في ساحات الغرب، وتولد عنها الانتحار والاكتئاب، الأمر الذي عجز عنه الطب الحديث.
العناية الصحية بالبدن:
خلق الله الخلق بحكمته وقدرته فهو أعلم بما يصلح لهم في حياتهم، فما شرعه من أحكام تعبدية تحقق الألوهية والعبودية لله سبحانه، وفي ذاتها منافع صحية كشف الطب الحديث عن بعض منها.
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-: «كيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية، قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه»(1).
فالله خلق الإنسان وخلق له حواس وأعضاء لم يتركها من غير عناية؛ بل شرع لها من العبادات ما هو تعبدي في ظاهره مشتمل في باطنه على أسرار العناية الصحية بهذه الأعضاء، فما من عضو من أعضاء الإنسان إلا ومن الأحكام التعبدية ما يحقق له السلامة والأداء الأمثل. نقف عليها على سبيل التمثيل للدلالة على سر الإعجاز الإلهي المبطن بالأوامر التعبدية ومن ذلك:
1 – الوضوء المحقق لغسل الأعضاء المعرضة للتلوث، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْـمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾[المائدة: الآية6].
فغسل الأعضاء المذكورة في الآية يحقق لها النظافة والتخلص من الجراثيم، يقول الدكتور الطبيب «حامد الغوابي»: «الأمراض تنتقل للإنسان بإحدى طرق ثلاث إما عن طريق الفم أو الاستنشاق، أو عن طريق الجلد، وما الوضوء إلا الطريق الذي يطهر هذه المواضع كلها»(2).
ولهذا رغب الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الوضوء فيما أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: إني سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل»(3).
وكما رغبهم عليه السلام في الوضوء بين لهم صفته، أخرج البخاري بسنده من طريق حمران مولى عثمان: أنه «رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار، إلى الكعبين ثم قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه»(4).
يقول الطبيب د. غريب جمعة: «غسل الوجه واليدين ومسح الأذنين من أهم أسباب وقايتها من الأمراض الجلدية حيث إن كثيرا من الميكروبات وطفيليات بعض الديدان والفطريات يصيب الإنسان عن طريق التسلخات الموجودة بالجلد الناجمة عن الهرش بسبب عدم النظافة»(5). وسنأتي إلى تفصيل ذلك وبيان الفائدة التي تتحقق لكل عضو من جراء الوضوء.
2 – الغسل: أوجب الإسلام الغسل في حال الجنابة، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَوٰةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لـٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾[سورة النساء: الآية 43].
كما أوجب الغسل من الحيض، قال تعالى: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْـمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْـمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ﴾[ سورة البقرة: الآية 222].
وأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال يوم الجمعة، أخرج مسلم بسنده من طريق أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»(6).
وأخرج مسلم أيضا بسنده من طريق عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال – وهو قائم على المنبر-: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل»(7).
وكان للأمر بهذا الغسل أسباب بينتها أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- وهو ما ينتاب الناس من العرق والروائح.
أخرج ذلك مسلم في صحيحه بسنده من طريق عمرة – رضي الله عنها – عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة. فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم: لو اغتسلتم يوم الجمعة»(8).
ولم يقتصر الإسلام على ذلك؛ بل أمر المسلم بالغسل في العيدين، فالغسل سياج منيع بإذن الله يحفظ للإنسان الوقاية من الميكروبات والطفيليات التي تعيش وتتواجد نتيجة العرق والغبار وغير ذلك، فالغسل يزيل ذلك كله بالإضافة إلى ما يحقق من شعور بالراحة وتنشيط للدورة الدموية، يقول الطبيب الأستاذ الدكتور زكي سويدان: «تراكم القاذورات على الجلد من تماسك الأتربة والعرق وقشور الجلد وجزئيات الجراثيم الدقيقة والملابس بإفرازات الجلد الدهنية يؤدي إلى انسداد مسام العرق، لهذا يجب إزالتها بالماء والصابون بعمل حمام على الأقل مرة يوميا في الجو الحار كما يجب غسل أجزاء الجسم المعرضة للأتربة وهي الوجه واليدان والقدمان عدة مرات يوميا وهو ما يشمله الوضوء»(9).
لذا أرشد النبي –صلى الله عليه وسلم- أمته إلى خمس خصال عدها من الفطرة وذلك فيما أخرجه مسلم بسنده من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان و الاستحداد، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقص الشارب»(10).
هذا فيما يتلخص في العناية العامة بالبدن وتفصيل ذلك في المباحث التالية:
المبحث الأول: العناية الصحية باليدين:
اليد أكثر الأعضاء ملامسة للأشياء فهي آلة الإنسان التي يمسك ويأكل ويحمل ويصافح بها فهي أكثر الأعضاء عرضة للجراثيم والغبار وكذلك الرجلان فهي آلة الإنسان في حركته وتنقله. فالوضوء يحقق نظافتهما وطهارتهما وإزالة ما بهما، قال تعالى في آية الوضوء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْـمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾[سورة المائدة الآية6](11) .
وجاءت الأحاديث النبوية مؤكدة على هذا المعنى، يقول عليه السلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط»(12).
وبهذا الغسل المتمثل في الوضوء تتخلص الأطراف من الجراثيم والميكروبات بل إن غسلهما يساعد على تنشيط الدورة الدموية(13).
كما أمر الإسلام بتقليم أظافرهما، فالظفر مجمع للأوساخ والجراثيم حيث تجد تلك الجراثيم طريقا سهلا إلى المعدة خاصة عن طريق أظافر اليد فعن طريقها تنتقل الجراثيم المسببة لالتهاب المعدة والنزلات المعوية الجرثومية وحمى التيفوئيد وغيرها.
لذا يقول – عليه السلام- فيما أخرجه مسلم بسنده من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، و قص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، يعني: الاستنجاء، قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة»(14).
وخص الإسلام اليد بالغسل عند الأكل وقاية للإنسان من التلوث بل كان ذلك فعله –صلى الله عليه وسلم-، أخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يأكل أو يشرب قالت: يغسل يديه ثم يأكل ويشرب»(15).
وأخرج ابن ماجه في سننه بسنده من طريق أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداؤه وإذا رفع»(16).
وخص النبي صلى الله عليه وسلم الأكل باليمين وقاية للإنسان، أخرج البخاري ومسلم بسندهما عن طريق وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت في حجر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك»(17).
يقول الطبيب الدكتور غريب جمعة: «إذ إن اليد اليسرى قد تكون ملوثة بالميكروبات أو بويضات بعض الطفيليات نتيجة ملامستها وقت الاستنجاء»(18).
كما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بغسل اليدين ثلاثا عند الاستيقاظ من النوم جاء ذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما فإنه لا يدري أين باتت يده»(19).
كما أمر عليه السلام بغسل اليد بعد قضاء الحاجة، جاء ذلك فيما أخرجه الترمذي بسنده من طريق بسرة بنت صفوان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ»(20).
وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يبالغ في نظافة يده عند الغسل من الجنابة، أخرج مسلم في صحيحه بسنده من طريق ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: حدثتني ميمونة قالت: «أدنيت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكهما دلكا شديدا، ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات الحديث»(21). وبهذا يتجلى لنا العناية الفائقة التي اختصت بها اليد كطريق من طرق الوقاية الصحية.
* * *
الهوامش:
(1) زاد المعاد، 2/ 198.
(2) بين الطب والإسلام، ص99.
(3) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، 1/ 43.
(4) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، 1/48.
(5) الطب في وضوء الإسلام، دكتور غريب جمعة، ص50.
(6) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، 2/580.
(7) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، 2/581.
(8) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال، 2/581.
(9) الصلاة صحة ووقاية وعلاج، ص47.
(10) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، 1/221.
(11) الطب الوقائي بين العلم والدين د. نضال سميح عيسى، ص 22.
(12) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، 1/182.
(13) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، 1/223، والإمام أحمد في مسنده، 1/137.
(14) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب السواك من الفطرة، 1/61 من طريق عمار بن ياسر.
(15) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب الوضوء عند الطعام، 2/1085، والبيهقي في سننه، 7/275.
(16) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين 6/196، ومسلم في صحيحه، كتاب (الأشربة)، باب (آداب الطعام والشراب وأحكامهما)، 3/1599.
(17) الطب في ضوء الإسلام، ص 53.
(18) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلهما ثلاثا، 1/193.
(19) أخرجه الترمذي في كتاب (الطهارة)، باب (الوضوء من مس الذكر)، 1/55.
(20) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة 1/210.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40
(*) أستاذ مساعد بقسم الدراسات الإسلامية، بكلية المعلمين بمكة المكرمة.