دراسات إسلامية
دراسة علمية للكتابين: «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم»، و«متى تكون الكتابات مؤثرة»
للأديب الكبير والكاتب النابغ الشيخ نور عالم خليل الأميني حفظه الله ورعاه
بقلم: الأخ الأستاذ محمد نوشاد النوري القاسمي(*)
قرَّت أعيننا منذ أيام بكتابين قيمين، يتناولان اللغة العربية بدراسة معمقة، تكشف عن فضلها على غيرها من اللغات، وضرورة إتقانها لكل مسلم ولاسيما العلماء والدعاة إلى الله وطلبة العلوم العربية والإسلامية في المدارس والجامعات، وكيفية تعلمها وإتقانها وسبل التقدم وتنمية المهارة فيها، بالتزامن مع إيجاد الحلول الناجعة لما يشكوه الطلبة والمنشغلون بها من مشاكل وعقبات. وهما «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم» و«متى تكون الكتابات مؤثرة»، نشرتهما مؤسسة العلم والأدب، ديوبند – الهند في أبهى شكل وأقشب حلة، شأنَها في جميع المطبوعات العلمية والأدبية القيمة التي تتملك القارئَ بمظهرها قبل مخبرها، وبشكلها قبل مضمونها.
الشيء السارُّ المثير للانتباه أن الكتابين صدرا بقلم الأديب المتقن، معلم العربية الكبير، الكاتب الإسلامي النابغ الذي عَشِقَ اللغةَ العربيةَ عِشْقَ قيسٍ ليلاه، وعِشْقَ الصادي الهائم في الصحراء الماءَ العذبَ، عَشِقَها عِشْقًا فَتَّقَ طبيعته، وأذكى جذوته، واعتصر من قوته، وضنَّ بقلمه إلا أن يجري بالعربية، وأَحَبَّها حُبًّا عَمَّ وُجودَه، وَسَرَى في رُوْحِه مسرى الدم، وتركه لايفكر إلا فيما عساه يضيف إلى الرصيد العربي الأدبي الإسلامي جديدًا من الابتكار والإبداع، فاللغة العربية نديمه وجليسه، وصاحب حله وترحاله، لايهش إلا بالنظر في العربية، ولا يرتاح إلا بالكتابة فيها، فهي إذن عنوان حياته وقاعدة نشاطاته في الحياة. وهو وإن كان هندي العرق واللون، هندي الجنسية والوطنية؛ لكنه عربي الفكر والخيال، عربي الأفراح والأتراح، عربي الأدب والسليقة، عربي النزعة والاتجاه، عربي الشعور والحس، ألا وهو الشيخ الحبيب الأديب اللبيب نور عالم خليل الأميني رئيس تحرير مجلة «الداعي» العربية الشهيرة الصادرة عن الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند وأستاذ الأدب العربي فيها، ولا أدري في حاضر الهند غيرَه، يصدق عليه ما وصفتُ من دون إطراء ومبالغة، هذا ما أحسبه، ولا أزكي على الله أحدًا.
عصارة التجارب
عن الكتابين أتحدث، إن هذين الكتابين يأخذ كل منهما قيمته الحقيقية من أن ما جاء فيهما من أبحاث ودراسات هي عصارة تجارب هذا المعلم الملهَم، الذي أعطى اللغة العربية شبابه وكهوله، كأنَّ له بها عهدًا موثقًا، وأشعل مصباحها بإحراق كبده وعينيه، كأنَّ فيه متعةً له نفسيةً، فهو سائر في درب اللغة العربية منذ نحو نصف قرن، يدْرُس ويبحث، ويدرِّس ويكتب، ويجمع ويؤلف، ويُنَظِّرُ ويُطبِّق، ويؤصِّل ويفرِّع، ويتابع ويحلِّل، في عزيمةٍ مثاليةٍ لاتعرف الوهن، ومصابرةٍ لا تحفل بالكلل، إن حب العربية مغروس في قلبه، مرتكز في طبيعته، وكيف لا؟ وهو يعتقد كامل الاعتقاد أن حبها عبادة وخدمتها قربة، والسهر عليها مرضاة للرب، والغيرة عليها منجاة من النار، فبِحبِّها نما وترعرع، وعليه نشأ وشاب، وفي خدمتها وتوسيع نطاقها اكتهل وشاخ، وهنا فكر في إخراج زبدة ما توصَّل إليه من نتائج تربوية سليمة، وماترجَّح لديه من أسلوب تعليمي نافع، وما تجمَّع لديه من تجارب لغوية قيمة، ومزجها بمعانٍ أخرى لها قيمتها وإيحاءاتُها، ونَثَرَها بأسلوب عربي ساحر جذاب، فصنع الكتابين، وأطلق على أحدهما اسم «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم» – وهو قول رائع مأثور عن سيدنا عمر الفاروق – رضي الله عنه – بينما سمّى الآخر باسم مشوِّق أخاذ «متى تكون الكتابات مؤثرة».
معلمان بلاعصا
إن من أجمل ما يوصف به الكتابان أنهما معلمان، يعلِّمان الأدبَ العربي، ويبينان سرَّه، ويأخذان بالأيدي إلى الطريق الأمثل لتعلم اللغة العربية، ويَفُضَّانِ مشاكل الطريق ويُنَبِّهان على الأخطاء الشائعة ومصادرها، مع مراعاة المستوى الطلابي، ورصدِ المرحلية والانتقالية التي يمر بهاكل طالب في حياته الدراسية، ويشيران كذلك إلى الفريضة المهمة الموضوعة في عنق الأمة كافة تجاه اللغة العربية من الاهتمام البالغ بتعلمها ونشرها والتفاني في سبيلها باعتبارها حاملةَ الوحيين، وأمينةَ الرسالة الخاتمة، و وعاء الثقافة الإسلامية، وعنوانَ الهوية الدينية.
فالكتابان في الحقيقة مغنمة عظيمة، وتحفة أدبية، وهدية غالية، ووردة زاكية، وحاجة كل طالب للعربية، وزاد كل معلم لها، ودليل كل من وَلَج بابها، واقتحم دارَها، وسند كل من يريد لنفسه حظاً في الأدب، ونصيبًا في العربية.
وقفة مع كتاب «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم»
وحتى أكون أكثر وضوحًا وكلامي أكثر مصداقيةً يطيب أن أقف وقفةً قصيرةً مع الكتابين، أولهما كتاب أسماه المؤلف الأديب «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم»، وهو كتاب وقع في 211 صفحة بالقطع الصغير، مزدانًا بغلاف جميل، مكتوبًا عليه اسم الكتاب بخط عربي رشيق، في صحراء رملية تتوسطها شجرة النخيل، كرمز أصيل للهوية العربية.
والكتاب انطوى على 17 مقالاً قيمًا خرجت إلى النور، ونُشرتْ في صفحات مجلة «الداعي» العربية في مناسباتٍ مختلفةٍ وهي كلُّها تصبّ في محيط واحد، وتتلاقى في رصيف مركزي موحد، وهو زرعُ حب العربية في جنَّات القلوب، وسقيُه بذكر فضائلها ومميزاتها، وتعهُّدُه من خلال إبعاد ما لصِق بها من لهجات خاطئة، وماشوَّه وجههامن لغات عامية متفشية، وإنباتُ هذا الغِراس سليمًا قويمًا بسرد مواقف رائعة للسلف في الحفاظ على العربية والغيرة عليها، وتقويتُه بالرد على مواقف سلبية اتخذها الخلف عمومًا والعرب خصوصًا في هذه القضية المصيرية: قضية اللغة العربية، مواقف مخزية كادت تؤدي إلى ضياع اللغة العربية لولا أن خلَّدها الله بجعلها وعاء كتابه الخالد المهيمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد.
يقول الشيخ المؤلف نور عالم خليل الأميني – وهو يتحدث عن المقالات المضمومة إلى هذا الكتاب –: «والقاسم المشترك لهذه المقالات الطويلةوالقصيرة كلِّها أنها تحبِّب اللغةَ العربيةَ إلى النشء الإسلامي، وتُثيرُ في قلبه الغيرةَ عليها والرغبةَ الجامحة في حُبِّها واحتضانها والانقطاع إلى دراستها وتعلمهاوالتفرغ لخدمتها؛ والإيمان بأن ذلك هو خدمة صميمة للدين يقتضيها منه الإيمان بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – نبيًا؛ وتؤكد له وتُثَبِّتُ في قلبه وتُرَسِّخُ في ذهنه أن شأن اللغة العربية لدى المسلمين ليس كشأن عامة اللغات غير المعدودة التي خلقها الله عز وجل؛ وإنماهي عندهم تحتل القداسة وتحمل المكانة العظمى التي لن ترتقي إليها أي لغة مهما تغير الزمان والمكان؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فالحفاظ عليها وتعلمها وتعليمها فريضة دينية وواجب شرعي؛ لأن فهم الدين وتفهيمه يتوقفان عليها، ومالايتم الواجب إلا به فهو واجب»(1).
حسن الاستهلال
بُدِئ الكتاب – ونعمت البداية – بقول أمير المؤمنين سيدنا عمر الفاروق: تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وهو قول بألف قول، ويأمُل المؤلف أن يحظى الكتاب – بإذن الله – بقبول وانتشار ببركة هذا القول المبارك، وقد يكون تسمية الكتاب بهذا الاسم من الدوافع القوية للحرص على العربية والترامي في حضنها تعلمًا وإتقانًا، وتلته مجموعة من الآيات البينات في القرآن الكريم، ترمز إلى أهم خصيصة انفردت بها اللغة العربية من بين لغات العالم وهي كونها لغة القرآن الكريم، ثم خُصَّت صفحتان من الكتاب بذكر طائفة من الأحاديث والآثار، بينت فضل اللغة العربية وتأريخها وأصلها وفضل العرب بفضل العربية، والآثار معزيَّة إلى أصحابها، مُحالة على الكتب التي أخرجتها، وهي منهجية جديرة بالإشادة.
المدخل إلى الكتاب
ثم كتب المؤلف مقدمة بعنوان «المدخل إلى الكتاب» في وجازة؛ ولكن في غاية الروعة والجذابية، أوضح رؤيته الأصيلة إزاء هذه اللغة العربية، والعوامل التي دفعته إلى كتابة هذه المقالات، والمبادئ التي يصدر عنها ويرتكز عليها، والغاية التي ينشدهاوراء جمع هذه المقالات في كتاب كهذا، ومن أروع ما سجله المؤلف هنا أن غرسَ حب اللغة العربية في قلوب النشء وإبراز قيمتها الدينية أمامهم هو أقوى الأسباب التي تدفعهم دفعًا إلى اللغة العربية واحتضانها والتهافت عليها، ويجب أن تسبق عمليةُ غرس الحب وإثارته تدريسَ اللغة ومبادئها، وهو قول حكيم، يجب أن يعَضَّ عليه بالنواجذ معلمو العربية وأساتذتُها، فليغرسوا في قلوب الطلبة في أول الأمر وبداية المشوار هذا الحبَّ الذي يصنع العجائب، ويأتي بالمعجزات قبل تسليط المبادئ النحوية والصرفية النظرية عليهم رغم الأنوف، وسوقِهم إلى تلك سوقًا قسريًا، فليضعوا في الاعتبار هذه النصيحة القيمة؛ حتى يرغب الطلبة – بشوق وحب واندفاع – في اللغة العربية، ويبرز منهم خادمون أوفياء لهذه اللغة الحبيبة.
وبالمناسبة ذكر المؤلف أن هذه المقالات كيف تثير في قلب القارئ حبَّ هذه اللغة العظيمة، مشيرًا إلى ما للحب من قيمة كبيرة في التعليم والتربية.
المقال الأول الضافي
ثم تلته سلسلة البحوث والمقالات، تصدَّرها مقال ضاف مشبع، يُعَدُّ – بِحَقٍّ – واسطة العقد وبيت القصيد في هذا الكتاب، أسماه صاحبه الكاتب القدير «تعلم اللغة العربية وتعليمها فريضة دينية»، وهو مقال امتد من ص16 حتى ص66، أي على خمسين صفحة، تناول فيه المؤلف اللغة العربية من الناحية الدينية تناولاً يغنيك عن المزيد، ويروع فؤادَ القارئ هنا عجبًا، ويملك حسَّه طربًا ما فاض به قلم المؤلف من جودة سبك، وكثرة افتنان، وشمول معنى، ودقة تعبير؛ فلم يغادر جانبًا له شأن من جوانب الموضوع إلا أتاه، فبدأ الحديث بحكمة الله تعالى في اختيار اللغة العربية وعاءً لكتابه، وصرَّح بأن هذا ما جاء بعفوية بريئة؛ وإنما يكتنفه الكثير من الأسرار والحكم؛ فإن هذا من صنع الله الذي أتقن كل شيء، فلابد أنه أودع اللغة العربية من المزايا مالم يودعه غيرها من اللغات، ثم فصَّل بعض مزاياها النادرة، ثم استطرد إلى ضرورة اللغة العربية من ناحية الدين، فبين أن فهم الدين متوقف عليها، ومن هذا المنطلق صدر العلماء وتحمسوا لخدمة العربية، واستعرض – المؤلف – الجهودَ المبذولة في خدمتها والحفاظ عليها، والعلومَ والفنونَ التي لم تُنشأ إلا لتؤدي دورها في صيانة هذه اللغة، فمن طائفة أنشأت علمي النحو والصرف بوضع أصول وقوانين، تعصمها – اللغة العربية – عن الزلل والخلل والتشويه واللحن، إلى أخرى صاغت علم البلاغة بعلومها الثلاثة: المعاني والبيان والبديع لإبراز الجانب الجمالي والحسن التعبيري ومدارك القوة والبيان في الكلام العربي، إلى طائفة ثالثة وضعت المعاجم والقواميس مابين صغير وكبير جمعًا للمفردات والكلمات العربية والأمثال والحكم العربية السائرة، وحمايةً لكل كلمة من كلماتها من التلف والضياع، إلى جماعة رابعة أخذت على نفسها إثراء الأدب العربي بإنجازات مدهشة ومعطيات حضارية، ورصدت الخدمات الأدبية، فميزت الأصيل من الدخيل، والصحيح من الفاسد، وهي جماعة علماء الأدب وفرسان البيان، وفي كل طائفة من الطوائف أئمة وأعلام، وعباقرة ونوابغ. وذكر المؤلف أشهر الأسماء في كل علم وفن، فتم بذلك التعريف الوجيز بهذه العلوم تبعًا ضمن شخصياتها المحترمة، كما أنه لم يفُتْهُ التنبيهُ على ما أسْداه علماءُ الهند من خدماتٍ جسامٍ في علوم الشريعة واللغة والأدب، ثم عاد ليغرس حبَّ اللغة العربية بأكثرَ من أسلوب.
ويقيني أن القارئ لا يخرج من هذا المقال إلا أنه قد مُلِئَ علمًا بكثير مما لابد من معرفته، وحُشِيَ قلبه حبًا للعربية واجتذابًا إليها.
أهمية اللغة العربية دوليًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا
وفي مقال أخر يلي الأولَ، عنونه المؤلف بـ«اللغة العربية: تعريفها اللغوي وأهميتها الدولية ودورها في تعزيز العلاقات العربية الأجنبية وتحسين الاقتصاد»، تناول اللغة العربية من الناحية الدنيوية، وأعطى بذلك صورة متكاملة الأبعاد عن العربية، وأكد المؤلف على أن اللغة العربية ليست لغةً نظريةً بحتةً، كل فضائلها أنها لغة القرآن الكريم والدين الإسلامي – وإن كان هذا هو تاج رأسها وأم فضائلها – ؛ وإنما هي – مع كل هذا – لغة حية بكل ما في الكلمة من دلالات، ولغة عالمية بكل المقايس، فيها من المرونة والشمول والأساليب والعذوبة ما يجعلها ربما تفوق كل لغة عالمية في الدنيا مشارقها ومغاربها، وفيها من سمات القوة والثبات والتغلب ما يجعل كل المكائد والدسائس التي تستهدف كيانها تذهب أدراج الرياح.
وهذا المقال أشبه ببحث علمي موضوعي، بُدِئَ بتعريف اللغة العربية مفردًا ومجموعًا، حتى طرق موضوع أهمية اللغة العربية دوليًا في مختلف المجالات، واستوعب الموضوع من خلال النواحي التالية:
1- كونها لغة العلوم والفنون: يوصف العالَم المعاصر بأنه عالم يسوده العلم والحضارة والاكتشافات، فكون اللغة عالمية إن كان يتطلب مدى قدرتها على مصطلحات العلوم والفنون واحتوائها على المعطيات الحضارية كافة، فاللغة العربية ظلّ لها في القدرة على الاحتواء والاستيعاب لواءٌ معقودٌ وظِلٌّ ممدودٌ، فأحاطت – من غير عي وحصر – بالعلوم الإنسانية والكونية وألوان المعارف ودقائق الفلسفات التي شهدها العالم في حضارات ما قبل الإسلام والحضارة الإسلامية وغيرها(2).
2- كون دول الخليج سوقًا عالمية ومحط أنظار العالم: إن من الأسباب الطبيعية التي أتاحت للغة العربية أن تفرض نفسها على العالم بشكل أكثر هو كون الدول العربية تحتضن أكبر قوة اقتصادية في العالم المعاصر، وهي النفط، فعادت بذلك محط أنظار العالم كله ومنتجع الإخصائيين في كل فن، ومن هنا أصبحت اللغة العربية حاجة العالم كله للتواصل مع هذه الدول وأبنائها، واضطرت الدنياإلى إعطائها ما تستحقه من عناية ومكانة؛ حتى اعتمدتها الأمم المتحدة كلغة رسمية ضمن اللغات الرسمية الكبرى لديها، وذلك في عام 1973م.
3- دورها في تعزيز العلاقات العربية الهندية: العلاقات العربية الهندية شهدت في الأيام المتأخرة تطورًا وازدهارًا، مما جعل الحكومة الهندية تهتم باللغة العربية، وأنشأت قسمًا خاصًا باللغة العربية في كثير من الجامعات الهندية وأصدرت مجلة «ثقافة الهند»الشهيرة، وما إليها من المظاهر التي ساعدت في توسيع نطاق العربية في هذه الديار، ذكرها المؤلف بتفصيل رائع.
4- كون اللغة العربية مصدر رزق وخير كثير: أكد المؤلف على أن اللغة العربية تضمن لمن أجادها ونبغ فيها معيشة جيدة وحياة وظيفية طيبة بإذن الله، في حين ضاع الكثير من المختصين باللغات الأخرى وأصبحوا رجال شوارع وطرقات، بهذه وغيرها من الأسباب كسبت اللغة العربية صبغة عالمية وقوة دولية لايستهان بها.
الطريق الأفضل إلى إتقان اللغة العربية وتنمية المهارات فيها
بعد إثبات ما للغة العربية من أصل كريم ونسب عريق وشرف ديني وفضل دنيوي تحدث المؤلف الفاضل في المقال القيم الضافي الحامل اسم «كيفية تنمية المهارات اللغوية العربية» عن جانب من جوانب العربية، هو موضوع حياته وإملاء تجاربه وإيحاء دراسته وخبرته الطويلة في المشوار التعليمي والتربوي، وهو رسمُ المنهج الأفضل والطريق الأخصر لتعليم اللغة العربية وتعلمها وإتقانها، وهذا ثاني المقالات في الكتاب في كثرة النفع وغزارة العلم، وقد أبدع المؤلف هنا؛ حيث نبَّه في البداية على أن اللغة – أية لغة كانت – تُتلقى على الصعيدين: الصعيد الشفهي والصعيد الكتابي مع الإعراب عما يحمل كل منهما من فوائد وميزات، تفضل كلاًّ منهما على الآخر، ثم طرق موضوعًا، هو في غاية الأهمية، وهو تحديد المشوار البدائي كتابيًا، أي من أين يجب أن يبدأ طالب يريد تعلم اللغة العربية كتابيًا، فرسم المؤلف الخبير للكتابة خمس مراحل، من مرحلة الصفر إلى مرحلة النضج والاكتمال، فالطالب في المرحلة الأولى – وهي مرحلة الصفر – يجب تحفيظه الكلمات والمفردات الخفيفة واستعمالها في جملة قصيرة، كأمثال: هذا صغير وذلك كبير، ويجب أن يكون هذا في جو بعيد عن سلطان القواعد النحوية والصرفية التي يستصعبها الطالب في هذه المرحلة كأنها ألغاز شديدة التعمية. وبعد التمكن من الجمل القصيرة السهلة تأتي المرحلة الثانية، وهي تمكين الطلاب من صياغة الجمل الكبيرة فإلى فقرةصغيرة ففقرة كبيرة، وقد شرح المؤلف طريقة التنقل من الجمل الصغيرة إلى الجمل الكبيرة فإلى فقرةفإلى فكرة كاملة، وفي هذه المرحلة لايضير الطالبَ ربطُه قليلا بالقواعد النحوية والصرفية، ثم ذكر المؤلف الحكيم ما المراد بالقدر القليل وكيف السبيل إلى تطبيقه؟ ومن هنا تبدأ المرحلة الثالثة إذا كان الطلبة تمكنوا من التصرف في الجمل والتعبير عما في الضمير وحفظ الألفاظ الكثيرة ومعرفة بعض القواعد النحوية والصرفية، وفي المرحلة الثالثة يجب تدريس علم النحو وعلم الصرف بشكل مستقل؛ بشرط أن يبقى الاعتماد الكبير على انتقاء التعابير والأساليب المختارة ومحاكاتها في الكتابة، وقد فصل المؤلف هذه المرحلة ونشاطاتها بأسلوب رشيق، لايُرتشف رُضابه إلا بمراجعة الكتاب، ثم تأتي مرحلتان رابعة وخامسة، ولكل منهما أعمال تخصها وممارسات تميزها عن الأخرى، وقد ألم بهما المؤلف إلمامةً، هي فوق الوصف والبيان، وقد وضع المؤلف في آخر المقال ملحقًا قيمًا يضم مجموعة من الآداب التي يجب أن يتقيد بها كل كاتب، منها ما يتصل بآداب الإملاء، ومنها ما يرتبط بعلامات الترقيم، ومنها ما يتعلق بصحة النطق وسلامة أداء الكلمات، ومنها ما يؤكد على اختيار اللهجة العربية الأصيلة.
إن الناظر في هذا المقال يدرك أنه أقرب إلى وصفة دواء، وصفها طبيب نطاسي، يُلزِم المريضَ تناولَ الدواء بقدر مناسب ووقت مناسب وكيفية ملائمة، ويحذره من المخالفة، ويبشره بالخير مادام راعى الأمر وصدر عن التوجيه، ولايسعه إلا أن يفيض لسانه بثناء عاطر على من رزقه الله هذا الحس المرهف والخبرة القيمة التي لاتُثمَّن: مؤلف الكتاب الذي لا يضَنُّ بعلمه، ويرتاح بنشره وتبليغه إلى غيره، يا ليتنا انتفعنا به حق الانتفاع.
والكتاب يضم بين دفتيه مقالات أخرى قيمة، يعمل بعضها في تحبيب اللغة العربية إلى قلوب الطلبة بسرد ما ضربه سلفنا من أروع الأمثلة وأندر النماذج لحب العربية وخدمتها والغيرة عليها، ثم يقارن بينهم وبين ما توصل إليه طلبة اليوم من تكاسل وتقاعد مع كثرة العوامل والدوافع، ويشير المؤلف في بعض المقالات إلى تقصير العرب في إعارة العربية أهمية تليق بشأنها ويؤنبهم على هذا أشد التأنيب، ويضرب لهم مثلاً اليهود الذين أحيوا لغتهم الميتة وكل قوم وأمة في الدنيا، عندهم إقبال عجيب على إحياء لغتهم وتطويرها، وفعلا رسم المؤلف الخطوط الهامة من الأمور التي يستطيع العرب أن ينجزوها وبأدنى اهتمام وعناية، وهي بضعة أمور مسرودة بشكل سار في صلب الكتاب، كما أن مما دعا إليه الأستاذ المؤلف بقوة بيان هو التغلب على اللغة العامية الشائعة على حساب الفصحى؛ فإن اللغة العامية – كما يعتقد المؤلف – «أحد العوامل المفرقة بين الإخوان أبناء دين واحد وكتاب واحد وأصحاب هموم وآلام واحدة وأهداف عدو واحد»(3)، بينما ركز المؤلف الفاضل في أكثر من مقال على ما لمسه من إقبال الهنود على اللغة العربية، وأبدى ارتياحه لهذه العملية التي تبشر بعاقبة محمودة، إن شاء الله.
ومما يُلاحَظ في مجموع المقالات أن الأستاذ المؤلف لايغلو في التأنيب والتبكيت، ولايغلو في التيه والفخار؛ بل يعيش حالة النقد المميز والتشخيص الدقيق لما عليه الأمة العربية والإسلامية فيما يتعلق بلغتها العزيزة من بواعث السرور وعوامل الحزن، ووصف ما يجب عليه أن تكون، فيأتي بما يراه يعالج المشكلة ويحقق الغرض ويدفع النشء إلى سلوك الدرب العلمي اللغوي السليم، في اتزان واعتدال.
أهمية إتقان اللغة بالنسبة إلى الداعية
هذا عنوان مقال خُتم به الكتاب، ليكون مسك الختام، أكد فيه المؤلف الفاضل الأديب على ضرورة تسلح الداعية بالرصيد اللغوي، فالداعية البصير بمساوئ الكلام ومحاسنه، الخبير بالتفنن في الكلام وضروب التعبير وأفانين البيان هو الداعية الناجح في مهمته، الموفق في وظيفته؛ بينما الداعية الجاهل بالكلام، يفشل في دعوته فشلاً ذريعًا، وفي مثل هذا قال الشيخ القرضاوي: «وإذا كانت الثقافة الدينية لازمة للداعية في الدرجة الأولى، فإن الثقافة الأدبية واللغوية لازمة له كذلك؛ ولكن الأولى تلزمه لزوم المقاصد والغايات، والثانية تلزمه لزوم الوسائل والأدوات»(4).
وقد أكد المؤلف على هذا المبدإ بقوة لامزيد عليها وبأسلوب أدبي يأخذ بالألباب، يقول في هذا الصدد: «انتقاءُ الكلمات، واختيار الأسلوب اللبق الأمثل، الأنفذ في قلب المخاطب، الخاطب لوده، الكاسب لقلبه، الآخذ بلبه مطلوب في الشريعة الإسلامية، والداعية المتعامل مع هذا المنهج هو الداعية الناجح، الداعية البصير بضرورات الدعوة، العامل بالآلية الدعوية الفاعلة في المجتمع الإنساني، أما الداعية الجاهل بذلك، المتغافل عن المقتضيات الدعوية الأرضيةالحقيقية، فهو الفاشل في مهنته الدعوية، مهما ظن أنه يكسب النجاح»(5).
وقفة مع كتاب «متى تكون الكتابات مؤثرة»:
وهذا هو ثاني الكتابين، ويعادل الأولَ في جمال الظاهر ورشاقة المنظر، إلى عمق المعنى وشفافية المدلول، الكتاب الذي اختير له هذا الاسم الرائع الذي له أثر في النفس وروعة في القلب، وهو كتاب قيم، خفيف الحمل، وسيط الحجم، كبير الفائدة، ومن أجمل الكتب التي تناولت هذا الموضوع، فَوَافَتْهُ بالبحث، وأَثْرَتْهُ بالبيان والتوجيه.
يقع الكتاب في ثلاثة مائة وأربع صفحات، من القطع الكبير، وهو كتاب معلم، وكتاب مبدئي ونهائي معًا في تربية الكتابة والإنشاء، أما كونه مبدئيا فلأنه يبحث الموضوع من المرحلة البدائية، ويرسم الآثار التي يجب اتباعها قبل الكتابة، ثم يأتي بالأمور القيمة التي يجب على الطالب أن يلاحظها، وهو يريد التقدم في الإنشاء، وهكذا يسلك بالطالب خطوة إثر خطوةٍ المشوارَ الكتابي الإنشائي، ويأبي فراقَه إلا أن يعطيه من الإرشاد والتوجيه ما يضمن له تحقيق ما يصبو إليه ويريد، أما كونه نهائيًّا فلأنه يحتضن من المقالات ما لايستغني عنه حتى المتقدمون في الإنشاء، ثم أنواع الأسلوب الأدبي العربي وتراجم أعلام الأدب العربي أصحاب المدارس الأدبية التي ورد بيانها في الكتاب لا تَعني المبتدئين في الإنشاء بقدر ما تَعْنِي وتُهِمُّ المعنيين بالأدب العربي.
عنوان الكتاب ليس إلا سؤالاً مطروحًا، وليس هذا سؤالاً من الأسئلة الكثيرة التي لاينفع العلم بجوابها ولايضر الجهل به، وإنما هو يمثل عقبةً كؤودًا وصخرةً صماءَ، تعترض طريق كل كاتب حريص على أن تأتي كتاباته مؤثرةً، وعامة الكتاب لايجدون من القوة والحيلة والتدبير ما يتغلبون به على هذه المشكلة، ويذللون هذه العقبة؛ حتى يمضوا في طريق الإنشاء هادئين وادعين، وهنا يستغيثون – وقد بلغ بهم العجز والإعياء كل مبلغ -: هل من مغيث ينجينا من هذا الكابوس؟ وهل من خبير محنك يفيدنا بتجربته في التغلب على هذا العدو القوي، ويقودنا إلى غايتنا المنشودة؟ وأراني أن الكتاب جاء تلبيةً لنداء الطلب ذلك، جاء ليقوم معلمًا أمام هؤلاء الكتاب الأشقياء، ويشرح لهم الخطط النافدة الأثر، والحيل السريعة المفعول، فليس الكتاب إلا جوابًا عن ذلك السؤال الملح.
بدئ الكتاب بكلام قوي جدا، سجله المؤلف في إحدى مقالاته داخل الكتاب؛ ولكنه نقله هنا ليدعو الطالب إلى إصلاح نيته وملاحظة أمر هام، قد يكون غاب عن خاطره، وهو بيان أن مصدر القوة والجمال والتأثير في الكتابات ليس الكلماتِ المجردةَ ولا الجمل الرنانة الطنانة ولا الأساليب البيانية القوية؛ وإنما مصدر القوة وتيار التأثير هو الاعتقاد بأنه مسؤول أمام الله عما يكتب، فعليه أن يصدر في كتاباته عن وحي من ضميره واعتقاد في قلبه، ويكتب كأن فيه مزاجًا من دمه وكبده، وجاء هذا بأسلوب رشيق معهود من المؤلف الفاضل، وتلاه قول مختار من أقوال الأديب المصري الكبير أحمد أمين، الذي يذكر فيه المعيار السليم لنقد الأسلوب والكلام، وهو من القوة والروعة مايفوق الوصف.
ويتوزع الكتاب بين مقدمة وثلاثة أبواب، كل باب منها في طول حجمه وغزارة نفعه ككتاب مستقل، أما المقدمة – التي أسماها المؤلف الفاضل بـ«كلمة لابد منها»(6) – فجاءت صورة إجمالية متكاملة عن الكتاب، شرحها فيه المؤلف طبيعة المكتوب، ومدى ما ينفع الطالب في تحسين الكتابة، وكيفية الاستفادة من الكتاب، وقدرة الكتاب للإجابة عن السؤال المطروح: متى تكون الكتابات مؤثرة؟، وأشار كذلك إلى مغزى الكتاب ومحتوى الأبواب.
أما الباب الأول – وقد عنونه المؤلف الفاضل بـ«كيف تسلك الطريق إلى الكتابة؟ – فهو منهج شامل للكتابة باللغة العربية، موزع على سبعة فصول، وكأن المؤلف بطالب عازم على إتقان كتابته، ولم ينزل من بعد في ساحته، فأخذ بيده إلى المنهج السليم للكتابة، وبيَّن له أخصر طريق إليها، وأحسن الأستاذ المؤلف عندما قال تعريفًا بهذا الباب: «وهو مقال ذو جدوى كبيرة وأهمية قصوى، لاغنى عنه لأي إنسان يريد أن يخطو على طريق، فتسقيم قدماه عليه ويعود يسرع عليه في تماسك وثبات وثقة»(7).
وهذا يبدو بالنظرة الأولى للفصول السبعة، فالفصل الأول تحدث عن أمور تجب ملاحظتها قبل البدء في إعداد الجمل، وبيَّن بكل وضوح أن اللغة ثلاث: لغة التفكير ولغة الحديث ولغة الكتابة، ولغة التفكير هي السابقة، ويجب أن تسبق شقيقتيها حتى يأتي الكلام مغسولا معتدلاً، ثم وقف مع كل من لغة الحديث ولغة الكتابة، يقارن بينهما بالتفضيل، ففضَّل تارة الحديث على الكتابة بوجوه معقولة، وأخرى فضل الكتابة على الحديث بأسباب قد يتفق عليها الجميع، وخرج بنصيحة رائعة تمثلت في قوله: «إن لغة الكتابة هي أكمل صورة لها – للغة – فلابد أن تستوفي العناصر التي تتكامل بها، فتكون خاضعة لقواعد النحو التي وضعت لضبط اللغة، وتكون تامة المعنى، بحيث ينبغي أن يعرف الكاتب قيمة كل لفظة ووظيفتها في إيضاح الفكرة التي تتضمنها كل جملة من جمل الكتابة، وتكون واضحة تقوم بتوصيل أفكار الكاتب إلى القارئ دونما عناء»(8).
وفي الفصل الثاني تحت عنوان «إعمال الدقة في اختيار اللفظة»، تحدث عن اللفظة وقيمتها في الكلام، ومزايا اللفظة الجيدة وشروطها، وحسن استخدامها، كما أفصح عن أسباب عدم الدقة في اختيار اللفظة المناسبة، وأرجعها إلى سببين هامين: 1- عدم قدرة الكاتب على التمييز بين المترادفات اللفظية وعلى معرفة ما بينهما من الفرق الدقيق في الدلالة. 2- وعدم معرفته بسياق اللفظة المناسبة،وهنا جرى قلمه وبكل تدفق بموضوع الترادف وما يحمل الترادف اللفظي في اللغة العربية من مزايا ومحاسن فاقت بها غيرها من اللغات، ثم شرح الأستاذ المؤلف ما بين الكلمات المترادفة من فروق خفية يجب تبيُّنها وتحديد مدلولها، وجاء بعدة أمثلة لها في الأسماء والأفعال والصفات، ومن خلال الأمثلة أثبت أن عماد الكلام البليغ في الحقيقة دقة في اختيار الكلمات ووضع كل كلمة في موضعها الصحيح.
وكما قلت سابقًا: إن الكتاب راعى المرحلية والتدرج أكمل المراعاة، فقد جاء الفصل الثالث – الذي عُنوِن بـ«استخدام الألفاظ صحيحة سليمة» بحثًا ضافيًا شاملاً ليجوب هذا المشوار اللفظي ويبلغ به النهايةَ فأكد أولاً على المؤهلات التي يجب توافرها في الكاتب ليكون كاتبًا دقيقًا سليم الكلام بليغ البيان، وشرح هنا مواقع الخطأ ومواضع الخلل في اختيار الألفاظ السليمة، التي يتورط فيها الناشئون في صناعة الإنشاء عامة، وهي توجيهات قيمة لايقدُرها حق القدر إلا من سار هذا المسير وجرَّب متاعبه وواجه صعابه.
وأعجبني جدا في هذا الفصل ضمن تحديد المصاعب الكتابية حل تلك المشكلة الكبرىٰ التي تشوك كل طالب للعربية في شبه القارة الهندية، فإن اللغة الأردية: لغة المسلمين في شبه القارة الهندية تشتمل على كثير من الكلمات العربية؛ بيد أن معناها في الأردية – على الأكثر – غير معناها في العربية، وهنا تحدث مشكلة كبرى؛ فإن الطلبة لايعلمون هذا الفرق فيُحمِّلون الكلماتِ العربيةَ المعانيَ التي هي منها براء، وتذليلاً لهذه الصعوبة ألحق المؤلف الفاضل مسرد الكلمات العربية التي شاع استعمالها في اللغة الأردية، مع بيان ما بين هاتين اللغتين من فرق في دلالات هذه الكلمات، وهي مائتان وأربع كلمات، كلها كلمة شائعة في الحاجات اليومية، وفي هذا الصدد دعا المؤلف الفاضل إلى الاعتناء الخاص بالكتب النحوية والصرفية، والأدبية مع بيان ضرورتها وكيفية الاستفادة منها، وهو فصل رائع ذوقيمة كبيرة.
وفي الفصل الرابع خطا المؤلف بالقارئ خطوة أخرى متقدمة، بَيَّنَ فيها طريقة إعداد الجمل، فتناول الجملة وبنيتها الظاهرية والمعنوية ببيان لامزيد عليه، أما من الناحية الظاهرية فقد أبان أن الجملة كيف تتكون وكيف تطول وتقصر، وكيف تتكون فقرة من مجموع جمل عدة، وما هي العلوم التي تقيه الخطأ في الكتابة وصياغة الجمل والفقرة، ولم ينته المؤلف المفضال إلا بعد الإشارة إلى الأخطاء الشائعة لدى الناشئين، وهنا ألحق أيضا مُلحقًا قيمًا لتمييز الصحيح من السقيم، والصالح من الفاسد، كما أن الناحية المعنوية للجملة أخذت قسطًا في الفصل، شرح فيها المؤلف السُّبُل التي تجعل الجمل مؤثرة نافذة في القلوب، وهكذا ضمَّن الفصلَ الرابع كغيره من الفصول معاني رائعة ومعلومات ميدانية ذات جدوى وخطورة.
و وُضِعَ الفصلُ الخامسُ ليتحدث عن طريقة إعداد الفقرة أو المقطع، انظر في هذه المرحلية الرائعة، وتأمل كم هو – المؤلف – حريص على تحبيب اللغة العربية وتيسير الكتابة فيها إلى القلوب، وعلى كل فقد جرى في الفصل مجرى، يتدفق فيه حنان المعلم وشفقة الأب وخبرة المحنك، فبدأ بتعريف الفقرة وأهم مميزاتها، وكيف تطول وتقصر، وتترابط وتتسلسل، وفي الوصف الترابطي التسلسلي للفقرة حدد المؤلف الفاضل ملامح خمسة لتفي الفقرة بشروط الترابط والتسلسل، وهي مراعاة الحركة الزمانية والحركة المكانية، والانتقال من التخصيص إلى التعميم، والانتقال من التعميم إلى التخصيص، والانتقال من السؤال إلى الجواب، ذكرها مشروحة شرحًا وافيًا جامعًا بين الإمتاع والإقناع.
وتلاه الفصل السادس بعنوان «طريقة كتابة المقال»، فكأنَّ المؤلف بعد أن جال بالقارئ الجولةَ الممتعةَ في سكك وطرقات جميلة عُلّقت فيها لافتات علمية قيمة تشرح مبادئ الكتابة وخطواتها ومشاكلها، عَمَدَ فَأَقْحَمَه في صميم الغمار الكتابي والحديقة البلاغية الفائحة العبير، وفي هذا الفصل قام المؤلف بتعريف المقال المصطلح والبحث عن أصالته في الأدب العربي، ثم شرح الخطوات المرحلية في كتابة المقال، فالخطوة الأولى عند المؤلف هي اختيار الموضوع، واختيار الموضوع لم يكن ليتم بطريقة عشوائية؛ بل هو أمر هام جدًا، ينسجه ما عند الكاتب من دراسة وخبرة، وأراد المؤلف تيسير هذه المرحلة من خلال سرد المواضيع الهامة – وبلغ عددها ستين – التي يمكن تحديدها والكتابة عنها بكل يسر؛ حتى للناشئين، والخطوة الثانية هي تحديد الهدف ووضوحه من المقال، والخطوة الثالثة هي دقة في اختيار العنوان؛ فإن العنوان أكثر ما يجذب القارئ وأول ما يثير في نفسه الرغبة في دراسة الكتاب، فلابد أن يكون كامل الجذابية والدلالة على محتوى الكتاب، وقد ساق المؤلف المنهج الأمثل لتحديد العناوين، والخطوة الرابعة وضعُ خطة شاملة لكتابة المقال، فإن عملية التصميم والتخطيط لها شأن أيما شأن في إجادة الكتابة وإخراجها بشكل يثور قوة، وينبض بالحيوية والتأثير، وبعد هذا انتقل المؤلف إلى تحديد الأجزاء الرئيسة التي يتكون منها مقال، ووضع ملامحها، وبعد كل هذا كشف عن حقيقة، هي الأساس أولا وآخرًا في مثل هذه الأمور وكل إنتاج بشري، وهي أن هذه القواعد المرعية والخطوط المترابطة في كتابة المقال ليست إلا شعاعًا على الطريق، ومنارةً في عُرض البحر؛ وإنما أصل الأصول وضابطة الضوابط هو الذوق السليم والحب الطبيعي للمضي في أي علم وفن؛ وفي حياة مؤلف الكتاب أسوة في هذا الشأن؛ حيث هو! نعم، ذلك الرجل الأديب معلم الجيل لم يتخرج في مدرسة القواعد الكتابية؛ وإنما أتقن الكتابة وبرع فيها بفضل موهبته ونزعته الطبيعية؛ حتى غدا يكتب فيتلقفه الزمان، ويسجل فتسير به الركبان، وفي هذا الفصل أكد المؤلف على كتابة اليوميات والذكريات، وبيَّن عظيم فائدتها وجسيم نفعها، هكذا جاء الفصل كثير الفوائد، متناسق الأجزاء، وكل سطر فيه يضيف جديدًا من المعلومات إلى ثقافة القارئ.
وخُصَّ الفصل السابع ببيان أنواع المقال، وسرد بإيجاز تسعة أنواع من المقال، وهي المقال السردي والوصفي والمقال الإنشائي والمقال الإبداعي والمقال الوظيفي والمقال الصحفي والمقال التوضيحي والمقال التحليلي والمقال التقويمي والمقال التقريري، ووضع بعض المعالم البارزة لكل الأنواع، المميزة بينها، وهي معلومات قيمة، لا يستغني عنها أي كاتب.
الباب الثاني: متى تكون الكتابات مؤثرة؟
وهذا عنوان الباب الثاني في الكتاب، الذي سُمِّيَ به الكتاب كله، هذا الباب يتضمن مقالات قيمة، وهي مقالات ملؤها القوة والتأثير والجذابية والروعة، وهي من شأنها أن تجيب عن السؤال المذكور أعلاه؛ فإنهامهما اختلفت عناوينها وتباعدت أعضاؤها اتسقت معانيها وترابطت مضامينها وتركزت على المحور الرئيس: الكتابة: حقيقتها ومحاسنها ومساوئها ومصدر القوة والتاثير فيها، فهي كما قال الشاعر:
إن يختلف الاسم فالموضوع متحد
مهمـا تلـونت الألفاظ ألــوانا(9)
يقول الأستاذ مؤلف الكتاب: «وبعد فهذا الكتاب يتضمن مقالات، كنا كتبناها في شتى المناسبات، ونشرناها في مجلتنا «الداعي» العربية الشهرية، قاسمها المشترك أن مضامينها تُجيب عن التساؤل الذي يتردد عادة على ألسنة المبتدئين والناشئين من الكتاب، وهو: متى تكون الكتابات مؤثرة؟ والمقالات معظمها إجابة جميلة مقنعة عنه، وبما أنها تثير معاني لطيفة، وحقائق وعواطف نبيلة، يحتاج إليها كل كاتب يود أن يكون كاتبًا بأصح وأبلغ معاني الكلمة، رأينا أن ننشرها كتابًا يستفيد منه جيل اليوم وجيل الغد، والقاصي والداني من الذين يمسكون بيمينهم بالقلم؛ ليخطّوا به حرفا، أو يدونوا به معلومة، أو يسجلوا به حقيقة، ويضعوا به مايشكل لبنة أساسية في بناء صرح المجتمع الإنساني السعيد بأصدق مفاهيم السعادة»(10).
احتضن هذا الباب عشرة(11) مقالات، كلها تتدفق حيوية وإثارة، تصقُل المواهب، وتفتِق الطبيعة، وتحرِّك الوجدان، وتهزُّ المشاعر، وتحدد الهدف، وتجلى المحجة، وتعيِّن الاتجاه، وتقوِّم الخطأ، وتسدِّد الزلل، ويضع أمام القارئ الخطوط الهامة والملامح البارزة التي مراعاتها تضمن للكتابة أن تبقى وتقوى، وتؤثِّر وتنفُذَ وتأتي بنتائج مرجوة، وتحقق الغاية المنشودة، كما أن المؤلف أوضح في هذه المقالات أمورًا، من شأنها أن تسلب الكتاباتِ قوتَها وأثرها، وتجعلها جثة هامدة بلاروح، وحروفًا مجردة عن المعاني، وهذا الباب روح هذا الكتاب وجوهره؛ بل هو الكتاب كله، كما يظهر من عبارة المؤلف المسرودة أعلاه؛ فقد قال: «فهذا الكتاب يتضمن مقالات، كنا كتبناها في شتى المناسبات، ونشرناها في مجلتنا «الداعي» العربية الشهرية الخ»، فالمنشور في مجلة «الداعي»ليس إلا ما جاء في هذا الباب، وقد جعله المؤلف الكتاب كله، وبذلك بدا أن ما سبقه ولحقه من الأبواب جاء تتميمًا لفائدة الكتاب وعموم نفعه، وشملت هذه المقالات من الروائع والبدائع ما لو أخذتُه واحدًا واحدًا لكان أحمدَ عقبى وأبينَ معنى، ولَذَاق قارئُ هذه السطورِ أَلذَّ طعم وأحلى مذاق؛ ولكن تفاديًا من طول الكلام آثرت أن لا أخوض في غمار المقالات، ألتقط دررها وأجمع فرائدها، عساني أعجز عن تفضيل بعض على بعض، وأحرص على أخذ الجميع فيفوتني الجميع؛ ولكن لا أقل من أن أسرد عناوينها، فإنها تحمل من الروعة والجذابية ما يشبع الذوق، ويمتع النفس، وهي في رشاقة اللفظ ووضوح الدلالة على المراد ثوبٌ شفٌ للمعنى، ومرآة مصقولة لما تحتضنه من مضامين مُنِيفَة، ومعانٍ شريفة، ومدلولات بالغة التاثير، وهي كالآتي:
1- الكتابة ماهي.
2- العامل الحقيقي وراء إجادة الكتابة.
3- بين الكتابات القوية الجميلة والكتابات الضعيفة القبيحة.
4- كل كاتب قد يجوز أن يكون كاتبين أو أكثر.
5- الكتابات عند ما تتصف بالتألم والرقة.
6- حين يحتاج القارئ أن يقرأ أولاً خلفيات الكاتب.
7- القلم هو ذاك الذي علم الله به الإنسان.
8- يأخذني العجب من أديب وكاتب يضل الطريق.
9- نوع غريب من التفكير والكتابة والتجريح.
10- دراسة في أسلوب الجاحظ.
الباب الثالث: ترجمة للأعلام من الكتاب والأدباء والشعراء
إن الناظر في الكتاب لايرجع إلا بيقين أنّ المؤلف أشد الناسَ حرصًا على موافاة الموضوع بجميع جوانبه، وإعطاء الناشئين من طلاب العربية كل ما هم في حاجة إليه، والإنارة أمامهم سبيل الكتابة وطريق الأدب، فبعد أن تناول الكتابة نظريةً وتطبيقًا، وفصَّلها كل التفصيل، أفرد الباب الثالث بذكر نماذج رائعة للكتابة القوية الباقية بقاء الدهر، وهي تمثلت في أعلام الأدب وفرسان البيان، وهو أطْولُ باب في الكتاب، استغرق أكثر من 150 صفحةً.
إن هذا الباب توزع على فصلين، الفصل الأول اختص بذكر الأدباء والكتاب القدامى؛ بينما الفصل الثاني حملت دفَّتاه تراجم الكتاب والشعراء ورجال النهضة الأدبية الحديثة.
إن الفصل الأوَّل من هذا الباب احتضن تسعة عشر أديبًا عربيًا فذًا، بدءًا بعبد الحميد الكاتب (المتوفى عام 132هـ) وانتهاء بالإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1114-1176هـ)، نحا المؤلف في هذا منحى الزركلي في الأعلام، وأحمد حسن الزيات في تاريخ الأدب العربي، يؤثر الإيجاز على الإطناب، ويفضل الإجمال على التفصيل؛ ولكنه يحاول جهده في نَحْتِ صورةٍ كاملةٍ عن شخصية الـمُتَرْجَم، تصف سيرته ونشأته، وتتحدث عن مواهبه وخصائصه، وتبرز منهجه في الكتابة وأسلوبه في الإنشاء، وتحدد مكانته الصحيحة من بين النابهين من الكتاب والشعراء، إلى جانب الإشارة العابرة إلى مؤلفاته في العلم والأدب، والنهل من مورده العذب بسوق فقرة أو فقرات من كتبه، فلا يتحكمها إيجاز مخل ولا استعراض منقوص؛ وإنما هي نظرة فاحصة في عمق الباحث وتفكير العاقل المتدبر، ولايقول المؤلف إلا ما صدقه الواقع وجربته الأجيال ووعته ذاكرة الأدب.
ويروق الجميعَ هنا إدراج الإمام الشاه ولي الله الدهلوي – رحمه الله – في قائمة الأدباء أصحاب الأسلوب المتميز والمدارس الكتابية؛ فإن هذا شيء جديد في الكتب التي تتناول تاريخ الأدب العربي وأعلامه عبر القرون؛ والإمام أحق بأن يُعتنى بأسلوبه الأدبي الماتع، فهو من الكتاب القلائل الذين ثاروا على الأدب المتكلف المنتشر انتشارًا مروعًا في القرون الوسطى، والذي طغى فيه التطبع على الطبع، والتكلف على السجية، فهو في كتاباته يجمع بين الأسلوب العلمي الذي يهدف إلى أداء الأفكار أداء واضحا، لالبس فيه ولاغموض، وبين الأسلوب الأدبي الذي لا تفارقه الناحية الجمالية في الكلام، وقد أشار الأستاذ المؤلف إلى مميزات الأسلوب الكتابي لدى الإمام الدهلوي، فأفاد وأجاد.
وفي الفصل الثاني قدم تراجم 29 من الأدباء الجدد وكتاب النهضة الحديثة، أولهم رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290هـ)، وآخرهم شوقي ضيف (1328-1426هـ).
وقف الأستاذ المؤلف مع هؤلاء الأدباء وقفة أطول منها مع الأدباء القدامى الأولين، فيضيف هنا في الغالب قبسات ذات قيمة وتأثير من كتبهم، تقيم لرأي المؤلف وزنًا، وتؤيد ما ادعاه مما يتعلق بأصحاب التراجم.
ويُذكر أن المؤلف الفاضل – بحكم كونه يمثل الأدب العالي الإسلامي الشفاف دون الأدب الانحلالي الهابط – ركَّز التركيز الأكثر على الأدباء الذين لم يتكسبوا بالأدب، ولم يمتهنوه، ولم يتذرعوا به إلى تحقيق مآربهم التافهة في الدنيا من المال والجاه، وهذه وجهة نظر سليمة في دراسة الأدب العربي، تربط الأدب بالاجتماع والدين والقيم الفاضلة، وتخلق منه وسيلة قوية لتحقيق أهداف سامية، ولا تجعل منه غاية منفصلة عن الدين والقيم، تتيه في واديها الألفاظ، ويضيع في مجراها الوشي والتنميق؛ ومن هنا لانجد في هذه القائمة إلا كأمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والرافعي وأرسلان والعقاد وسيد قطب والندوي وأمثالهم؛ ولكن هذا لم يذهب به مذهب التعسف والشطط؛ حيث لم يبخس حق الأدباء الذين وإن لم يصدروا عن النظرة الإسلامية في الأدب؛ لكن رأياتهم في الأدب خافقة، وعملاتهم في هذه السوق نافقة، كأمثال طه حسين وجورجي زيدان المسيحي وأحمد أمين وغيرهم.
القيمة العلمية لهذا الباب
إن هذا الباب له قيمة علمية كبيرة، فهو يعرِّف القارئَ بأعلام، وقفوا حياتهم على الأدب العربي، وأثروا برَوحهم ورُوْحهم المكتبات الإسلامية، وطوَّرُوا الأدبَ العربيَّ تطويرًا، نقله من عالم فسيح إلى عالم أفسح، كما يُعرِّفه بمؤلفاتهم الأدبية وقيمتها الكبيرة، لتكون زاده في رحلة الأدب، ورفيقه في حياة العلم والثقافة، وهو إرشاد في محله؛ فإن الجهل بالمصادر الصحيحة لأي علم وفن يجعل الطالب يهيم في واد إلى واد، ويرد من مورد إلى مورد، دون أن يستقيم له المنزل، أو تلوح له الغاية، فينفق عمره فيما لاتُحمد عقباه، وقد أشار إلى هذا الأستاذ المؤلف بأسلوبه المتين فقال: «كما ارتأينا أن ألحق بالكتاب تراجم لأدباء وكتاب قدامى وجدد مع ذكر أهم إنتاجاتهم العلمية والفكرية والأدبية التي هي نماذج إنشائية سامية إلى جانب كونهاتحتوي علومًا جمة تدل على كونهم ذوي علم غزير، إلى جانب كونهم أدباء وكُتابًا لايجوز لكل أحد أن يشق غبارهم أو لايمكنه أن يدرك آثارهم بسهولة، ولاسيما إذا كان من الطاعنين الكاسدين والكسالى المهملين.
وذلك لأن المبتدئين والمتعلمين كثيرًا ما يتساءلون: ماذا يقرؤون ومن يقرؤون؟ ويبحثون عن الكتب الأدبية الكتابية الإنشائية التي يتشبعون بها، ويصدرون عنها في كتاباتهم، ويُثرُون بها لغتهم وأدبهم وينضجون بها أسلوبهم، ويتخرجون في ضوئها الساطع المضيئ كتابًا بإذن الله تعالى، وسيكون هذا الباب هو الأخر نافعًا جدًّا جدًّا لهؤلاء وجميع الناشئين من الكُتَّاب إن شاء الله تعالى»(12).
ما يجدر بالذكر
عرفت الأوساط العلمية والأدبية في داخل الهند وخارجها منذ مدة بعيدة الشيخ نور عالم خليل الأميني كاتبًا إسلاميًا كبيرًا، وأديبا مترسلاً له أسلوب ومنهج عُرفا به وعرف هو بهما؛ ولكن قل من علمه ناشرًا عالي الذوق، لطيف المزاج، فهو يأبى إلا أن تُطبع كُتُبه على طراز عالي المستوى، يَسُرُّ الناظرَ بظاهره قبل باطنه، وبمظهره قبل مخبره، فجاء هذا الكتاب – هو الآخر – على المستوى المأمول من حسن الطباعة وجمال الديباجة بغلافه الخلاب وأوراقه البيضاء الناعمة الغالية؛ مع مراعاة كاملة لعلامات الترقيم ورموز الوقف.
وبعد:
فمن العجائب أن يتجرأ رجل – مثلي – مجهول الاسم، خامل الذكر على التعريف بكتاب، ألفه أشهر كاتب إسلامي وأبرز أديب عربي في حاضر الهند، فقد كتبت ونفسي في تساؤل مستمر: هل يزيد الثريا علوًا مدحُ سكان الثرى؟ وهل إراءةُ الشمسِ المصباحَ الكهربائي تجعلها أكثر ضياءً وأسطع شعاعًا؟ كانت في طرح هذا السؤال على حق، فمن أنا حتى أعرِّف بالكتاب وأعدِّد محاسنه، وأدعو غيري إلى التملؤ من نميره الفائض؟ فقد كفى باسم الشيخ الأميني دلالةً على قيمة الكتاب وجزالة لفظه وسهولة معناه وعلو أدبه وجدة أسلوبه.
بيد أنَّ عزائي في هذه السطور أن عِشتُ برهةً من الزمن في ظلال هذا الأدب العالي والمعلومات الثرة القيمة، أتنسم أزكى روائح الأدب، وأجني أينع ثمار البيان، وأغذي عقلي بنفحات الخيال البكر والمعاني الرائعة، فإني مذ نظرت في الكتاب أردد قول الشاعر:
عاشرتــه فأَراني كل مكرمـــة
له عليَّ – رعاه الله – إحسانُ(13)
ثم وددت لو شاركني غيري من المعنيين باللغة العربية في هذه المتعة النفسية والأدبية، فكتبت ما كتبت، إن أصبت فيه بإذن الله فهو ما قصدتُ، وإن قصَّرتُ فَحَسْبِيَ سلامةُ النية وحسنُ القصد.
الشيخ نور عالم خليل الأميني مؤلف الكتاب في سطور
هو العالم الجليل، الأديب الإسلامي الكبير الشيخ نور عالم الأميني ابن الشيخ خليل أحمد بن الشيخ رشيد أحمد بن الشيخ محمد فاضل، ولد في قرية «هربور بيشي» – وهي خؤولته – بمديرية مظفربور بولاية بيهار – الهند، صبيحة يوم الخميس 18 من ديسمبر عام 1952م الموافق 28 من ربيع الثاني عام 1372هـ.
بدأ حياته الدراسية في قريته، ثم انتقل المدرسة الإمدادية بمدينة «دربنجه» بولاية «بيهار» فإلى دارالعلوم مئو، ومكث هناك سنواتٍ، ثم التحق بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، وتلقى العلوم الإسلامية والأدب العربي من أساتذتها الكبار، ولازم الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي من أئمة اللغة العربية في شبه القارة الهندية وصاحب عدد من القواميس والمعاجم العربية – الأردية، فتخرج عليه في الأدب العربي، ثم التحق بالمدرسة الأمينية بدهلي وتخرج فيها حائزًا شهادة الفضيلة في العلوم الشرعية عام 1972م.
أتاح له حظه السعيد – وهو يافع في ريعان شبابه – فرصة الالتقاء بالداعية الإسلامي الكبير الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، فتفرس فيه معالم النبوغ ومخايل العبقرية، فماكان منه إلا أن أفسح له طريق التدريس في دارالعلوم التابعة لندوة العلماء لكناؤ، الهند، فطاب له المقام وهنأ له العيش هناك، ودرَّس عشر سنوات، كما أن حبه البالغ للغة العربية وملازمة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي ومرافقة الشيخ الندوي عادت كل هذه العوامل تعمل عملها في إيقاظ شعوره اللغوي وحسه الأدبي، وتثير فيه الغيرة على الدين والتألم لما تمر به الأمة الإسلامية من تحديات ومشاكل، فبرز في ساحة الصحافة العربية في الهند عن جدارة وبصيرة، ثم دُعي أستاذًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، وفُوِّضت إليه رئاسة تحرير مجلة «الداعي» الشهرية(14) الصادرة عن الجامعة، ومنذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا ربط نفسه بالصحافة العربية الإسلامية ربطًا موثقًا، لم يفتر له عزم ولم تلن له قناة، يتابع الأحداث التي تتعرض لها الأمة الإسلامية في كل مكان بدقة، فيحللها ويعلق عليها ويدلي برأيه الناضج، وقد عُرفت منه مواقفه الكتابية الشجاعة من القضية الفلسطينية وحرب الخليج والعدوان الصليبي الصهيوني على كل من أفغانستان والعراق وثورات الربيع العربي وما إليها من القضايا التي تُهِمُّ المسلمين في كل مكان.
الشيخ يعمل حاليًا أستاذًا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، ورئيس تحرير لمجلة «الداعي» العربية، وله مشاركات فعالة في الندوات والمؤتمرات الإسلامية والأدبية داخل الهند وخارجها، وقد صدرت له كتب كثيرة، كلها حظيَّةٌ بالقبول والانتشار، فمن مؤلفاته بالعربية:
- الصحابة ومكانتهم في الإسلام.
- مجتمعاتنا المعاصرة والطريق إلى الإسلام.
- المسلمون في الهند.
- الدعوة الإسلامية بين الأمس واليوم.
- مفتاح العربية: جزءان، وهو كتاب مُدْرَج في المقررات الدراسية في الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند وغيرها من المدارس.
- العالم الهندي الفريد الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي رحمه الله.
- فلسطين في انتظار صلاح دين.
- تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم.
- متى تكون الكتابات مؤثرة، وكلها مطبوعة، وهناك كتب أخرى مازالت تحت التجهيز.
ومن مؤلفاته باللغة الأردية:
- وه كوه كن كى بات (حديث عن مغامر).
- حرف شيرين (الحرف الحلو).
- خط رقعه كيوں اور كیسے سیكھیں؟ (كيف ولماذا نتعلم خط الرقعة).
- كیا اسلام پسپا ہورہا ہے؟ (هل الإسلام ينهزم).
- موجودہ صلیبی صہیونی جنگ (الحرب الصليبية الصهيونية المعاصرة).
- فلسطین كسی صلاح الدین كے انتظار میں.
- پس مرگ زندہ (الأحياء بعد الممات).
بارك الله في عمره، وأضفى عليه مسحة طيبة من الصحة والعافية، وأبقاه ذخرا للأمة الإسلامية، ووفقه لتقديم المزيد المزيد من المنجزات والمعطيات القيمة المباركة، وتقبل منه كل جهوده وجهاده في خدمة العلم والأدب… آمين يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
الهوامش:
- الأميني، نور عالم خليل، «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم» (الهند: مؤسسة العلم والأدب، ديوبند، ط1، عام 1436هـ/2015م) ص10.
- وصدق شاعر النيل حافظ إبراهيم عند ما قال على لسان اللغة العربية:
وسعتُ كتاب الله لفظا وغايـــة * وماضقت عن آي بـه وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة * وتنسيق أسمـاء لمختـرعـات
(انظر: العقاد، عباس محمود، أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، د.ت، د. ط. (ص83) وديوان حافظ إبراهيم (القاهرة: الهيئة العامة للشباب، ط3، 1987)، ص253.
- الأميني، نور عالم خليل، «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم»، ص161.
- القرضاوي، يوسف، «ثقافة الداعية» (القاهرة: مكتبةوهبة، ط10، 1416هـ)، ص98.
- الأميني، نور عالم خليل، «تعلموا العربية؛ فإنهامن دينكم»، ص203.
- الطريف أنه إذا كان لابد لكل كتاب من فاتحة، ففاتحة هذا الكتاب هو «كلمة لابد منها».
- الأميني، نور عالم خليل، «متى تكون الكتابات مؤثرة» (الهند: مؤسسة العلم والأدب، ديوبند، ط1، 1436هـ/2015م)، ص7.
- المصدر السابق، ص19.
- الشاعر هو الشيخ يوسف القرضاوي، والشعر جزء من القصيدة التي نظَّمها الشيخ العلامة في ذكرى المولد النبوي الشريف عام 1370هـ/1950م في القاهرة، وقد نشرت في مجلة الدعوة التي كانت تصدر في القاهرة، ومطلع القصيدة:
هو الرسول فكن في الشعر حسّانا * وصغ من القلب في ذكراه ألحانا
المصدر: موسوعة الشعر الإسلامي الإلكترونية، وموقع ستار تائمس، وفي الشعر تغيير يسير.
- الأميني، نور عالم خليل، «متى تكون الكتابات مؤثرة؟»، ص7.
- العشرة بالتأنيث هو الصحيح هنا؛ فإن العبرة في تذكير العدد وتأنيثه في هذا الموضع للواحد دون الجمع، والمقالات واحدها مقال بالتذكير، فصح ذكر العشرة مؤنثًا حسب القاعدة النحوية.
- الأميني نور عالم خليل، «متى تكون الكتابات مؤثرة؟»، ص8.
- القرني، عائض بن عبد الله، «مقامات القرني» (الإمارات: مكتبة الصحابة، الشارقة، ط1، 1420هـ/2000م) ص285.
- كانت مجلة الداعي تصدر في البداية نصفَ شهرية، ثم تحولت مجلةً شهرية.
* * *
(*) أستاذ الأدب العربي بدارالعلوم وقف ديوبند – الهند.
E-mail: naushadnoori1985@gmail.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40