دراسات إسلامية

بقلم:  محمد شريف راشد (*)

       إن نجاح الخلافة و الدولة لا تنحصر في الخليفة و الأمير؛ بل لا بد أن يكون حوله رجال أقوياء علماء أمناء، و إن كان تَجَمُّعُ الرجال الأقوياء في الدولة و الخلافة منحصرًا في وجود خليفة و أمير صالح عاقل عالم؛ لأن خبرة معادن الرجال تتوقف على فهم الأمير و صلاحه. ثم تحمل مثل هؤلاء الأجلاد في داخل الخلافة و الدولة أمر ثقيل لا يقدر عليه  كل أحد؛ لأن التعامل مع البازي و الأسد أصعب بكثير من التعامل مع الغراب و الثعلب، فإن الأول لا يرضى إلا بالنفيس، و الثاني يُرْضِيْهِ الخسيسُ.

       و في عصرنا الحاضر لا مكان للآساد و البِيْزانِ في الجامعات و الكليات ناهيك عن الدولة و الإمارة، فكل مكان دَنَّسَهُ القردُ و الثعلبُ، و كل غُصنٍ سَوَّدَهُ الغرابُ و الحدأة. أعاد الله للمكان مكينه، و للشرى آسادها، و للأغصان بلابله.

       و إليكم تراجم بعض من اِلْتَفَّ حول عمر:

1- رجاء بن حَيْوَة بن جرول الكندي:

       وزير عمر بن عبدالعزيز رحمهما الله ت 112هـ:

و صفه و مقامه:

       قال الذهبي: هو الإمام، القدوة، الوزير العادل، أبو نصـر الكندي، الأزدي، و يقال: الفلسطيني، الفقيه، من جلة التابعين، و لجده جرول بن الأحنف صحبة – فيما قيل -.

       حدث رجاء عن: معاذ بن جبل، و أبي الدرداء، و عبادة بن الصامت، و طائفة.

       وروى أيضا عن: عبد الله بن عمرو، و معاوية، و أبي سعيد الخدري، و جابر، و أبي أمامة الباهلي، و محمود بن الربيع، و أم الدرداء، و عبد الملك بن مروان، و أبيه  حيوة، و أبي إدريس، و خلق كثير.

       حدث عنه: مكحول، و الزهري، و قتادة، و عبد الملك بن عمير، و إبراهيم بن أبي عبلة، وابن عون، و حميد الطويل، و أشعث بن أبي الشعثاء، و محمد بن عجلان، و محمد بن جحادة، و عروة بن رويم، و رجاء بن أبي سلمة، و ثور بن يزيد، وآخرون.

       قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، فاضلا، كثير العلم.

       و قال النسائي، و غيره: ثقة.

       قال يعقوب الفسوي: كان رجاء قدم الكوفة مع بشر بن مروان، فسمع منه: أبو إسحاق، و قتادة.

       عن مطر الوراق، قال: ما رأيت شاميا أفضل من رجاء بن حيوة.

       و قال ضمرة: عن رجاء بن أبي سلمة: ما من رجل من أهل الشام أحب إلي أن أفتدي به من رجاء بن حيوة.

       و كان عبد الله بن عون إذا ذكر من يعجبه، ذكر رجاء بن حيوة.

       قـال الأصمعـي: سمعت ابن عـون يقـول: رأيت ثلاثـة ما رأيت مثلهـم: محمـد بن سيرين بالعـراق، والقـاسم بن محمد بالحجاز، و رجاء بن حيوة بالشام.

       عن ابن عون، قال: كان إبراهيم، والشعبي، والحسن يأتون بالحديث على المعاني، و كان القاسم، و ابن سيرين، ورجاء يعيدون الحديث على حروفه.

       قال مسلمة بن عبد الملك أمير السرايا: برجاء بن حيوة و بأمثاله نُنْصَرُ.

فقه الأخوة:

       و يروى عن رجاء بن حيوة أنه قال: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه، قلّ صديقه، و من لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له، دام سخطه، و من عاتب إخوانه على كل ذنب، كثر عدوه.

مكانته عند الخلفاء:

       قال ربيعة بن يزيد القصير: وقف عبد الملك بن مروان في قراءته، فقال لرجاء بن حيوة: ألا فتحت علي؟!

       عن رجاء بن أبي سلمة، قال:كان يزيد بن عبد الملك يُجري على رجاء بن حيوة ثلاثين دينارا في كل شهر، فلما ولي هشام الخلافة، قال: ما هذا برأي. فقطعها، فرأى هشام أباه في النوم، فعاتبه في ذلك، فأجراها. قلت: كان في نفس هشام منه شيء ؛ لكونه عمل على تأخيره وقت وفاة أخيه سليمان، وعقد الخلافة لابن عمه عمر بن عبد العزيز. قلت: كان رجاء كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك، و عند عمر بن عبد العزيز، و أجرى الله على يديه الخيرات، ثم إنه بعد ذلك أُخِّرَ، فأقبل على شأنه. فعن ابن عون، قال: قيل لرجاء: إنك كنت تأتي السلطان، فتركتهم! فقال: يكفيني الذي أدعهم له.

إخفاء السهر:

       قال رجاء بن أبي سلمة: نظر رجاء بن حيوة إلى رجل ينعس بعد الصبح، فقال: انتبه، لا يظنون أن ذا عن سهر.

الوحي بالصلاح:

       عن رجاء بن حيوة، قال: كنت واقفا على باب سليمان، إذ أتاني آت لم أره قبل و لا بعد، فقال: يا رجاء! إنك قد ابتليت بهذا، و ابتلي بك، و في قربه الوتغ، فعليك بالمعروف و عون الضعيف.

       يا رجاء! من كانت له منزلة من سلطان، فرفع حاجة ضعيف لا يستطيع رفعها، لقي الله و قد شد قدميه للحساب بين يديه.

إنزال الكل منزله:

       عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال:كنا نجلس إلى عطاء الخراساني، فكان يدعو بعد الصبح بدعوات، فغاب، فتكلم رجل من المؤذنين، فأنكر رجاء بن حيوة صوته، فقال: من هذا؟ قال: أنا يا أبا المقدام. قال: اسكت، فإنا نكره أن نسمع الخير إلا من أهله.

التيقظ للجواسيس في المجلس:

       عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة. و خلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: و لا أمير المؤمنين؟ فقلنا: و ما ذكر أمير المؤمنين هنا! و إنما هو رجل من الناس. قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء، فلم يره، فقال: أُتِيْتُمْ من صاحب الكساء، فإن دُعِيْتُمْ فاستُحْلِفْتُمْ، فاحلِفُوا.

       قال: فما علمنا إلا بِحَرَسي قد أقبل عليه، قال: هيه يا رجاء، يذكر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟! قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: و لا أمير المؤمنين؟ فقلتَ: أمير المؤمنين رجل من الناس. فقلتُ: لم يكن ذلك. قال: آلله؟ قلت: آلله.

       قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضُرِب سبعين سَوطا، فخرجتُ  وهو متلوِّث بدمه، فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة؟

       قلت: سبعين سوطا في ظهرك، خير من دم مؤمن.

       قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول، و يتلفت: اِحذروا صاحب الكساء.

       قال يحيى بن معين: أدرك رجاء بن حيوة معاوية، ومات في أول إمرة هشام، و قال أبو عبيد، و خليفة بن خياط: مات سنة اثنتي عشرة و مئة(1).

       و قال ابن كثير: هو تابعي جليل، كبير القدر، ثقة فاضل عادل، وزير صدق لخلفاء بني أمية، وكان مكحول إذا سئل يقول: سلوا شيخنا و سيدنا رجاء بن حيوة، و قد أثنى عليه غير واحد من الأئمة و وثقوه في الرواية، و له روايات و كلام حسن رحمه الله(2).

2- ميمون بن مهران الجزري:

قاضي الجزيرة و صاحب خراجها:40هـ – 117هـ.

       قال الذهبي: ميمون بن مهران الجزري، الإمام، الحجة، عالم الجزيرة، و مفتيها، أبو أيوب الجزري، الرقي، أعتقته امرأة من بني نصر بن معاوية بالكوفة، فنشأ بها، ثم سكن الرقة.

       حدث عن: أبي هريـرة، و عائشـة، و ابن عباس، و ابن عمـر، و الضحاك بن قيس الفهـري الأمــير، و أم الدرداء، و عمر بن عبد العزيز، و نافع، و مِقْسَمٍ، وعـدة. و أرسـل عـن: عمـر، و الـزبـير. روى عنه: ابنـه  عمـرو، و أبو بشر جعفر بن إياس، و حُمَيْدٌ الطويل، و سليمان الأعمش، و حجاج بن أرطاة، و خُصَيْفٌ، و جعفر بن برقان، و الأوزاعي، و خلق سواهم.

       قيل: إن مولده عام موت علي – رضي الله عنه- سنة أربعين، و قال ابن سعد و أبو عروبة و غيرهما: توفي سنة سبع عشرة و مئة، و قال أبو عروبة: نزل الرَّقَّة، و بها عَقِبُه. وَثَّقَه: جماعة. وقال أحمد بن حنبل: هو أوثق من عكرمة. قال الإمام أبو الحسن الميموني: قال لي أحمد ابن حنبل: إني لَأُشَبِّهُ ورعَ جَدك بورع ابن سيرين. عن سليمان بن موسى، قال: هؤلاء الأربعة علماء الناس في زمن هشام بن عبد الملك: مكحول، و الحسن، و الزهري، و ميمون بن مهران. قال ميمون: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فلما قمت، قال: إذا ذهب هذا و ضُرباؤه، صار الناس بعده رِجْرَاجَةً.

       قال أبو المليح: ما رأيت رجلا أفضل من ميمون بن مهران. قال أحمد العجلي، والنسائي: ميمون ثقة(3).

       هذا، و نذكر هنا طرفا من دروس حياة الشيخ و أقواله التي ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء: 9/78 – 85، ثم نُتبِعُها ما ذكرها ابن كثير رحمه الله.

كراهية الإمارة:

       روى حبيب بن أبي مرزوق، عن ميمون: وددت أن عيني ذهبت، وبقيت الأخرى أتمتع بها، وأني لم ألِ عملا قط. قلت له: ولا لعمر بن عبد العزيز؟ قال: لا لعمر، و لا لغيره.

       روى عمـرو بن ميمون بن مهران، قال: إني وددت أن أصبعي قطعت من ها هنا، و أني لم أَلِ لعمر ابن عبد العزيز، ولا لغيره. و قال ميمون: وددت أن إحدى عيني ذهبت، و أني لم أَلِ عملا قط، لا خير في العمل لعمر بن عبد العزيز، و لا لغيره. عن هارون البربري، قال: كتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز: إني شيخ كبير رقيق، كَلَّفْتَني أن أقضي بين الناس.

       وكان على الخراج و القضاء بالجزيرة، فكتب إليه:

       إني لم أكلفك ما يعنيك، اجب الطيب من الخراج، و اقض بما استبان لك، فإذا لبس عليك شيء، فارفعه إلي، فإن الناس لو كان إذا كَبُرَ عليهم أمر تركوه، لم يقم دين و لا دنيا.

احترام الصحابة، و ترك الكلام في القدر و النجوم:

       عنه قال: لا تجالسوا أهل القدر، و لا تَسُبُّوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، و لا تَعَلَّموا النجوم.

       و خاصمه رجل في الإرجاء، فبينما هما على ذلك، إذ سمعا امرأة تُغَنِّيْ، فقال ميمون: أين إيمان هذه من إيمان مريم بنت عمران؟!

       فانصرف الرجل، و لم يَرُدَّ عليه.

التسابق في الجهاد:

       عن عبد الملك بن زائدة، قال: ضُرِبَ على أهل الرَّقَّةَ بعثٌ، فجهز فيه ميمون بن مهران بِنِبَالٍ، فقال مسلمة: لقد أصبح أبو أيوب في طاعتنا شَمَّرِيًّا. (الشَّمَّرِيُّ: الأشد مضاءً في أمره)

محاسبة النفس:

       و عن ميمون قال: لا يكون الرجل تقيا، حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، و حتى يعلم من أين ملبسُه و مطعمُه و مشربُه.

التقشف:

       عن الحسن بن حبيب، قال: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه، فقلت له: ما هذا؟ قال: نعم، فلا تخبر به أحدا.

أداء الأمانة والعهد و الرحم:

       و قال جامع بن أبي راشد: سمعت ميمون بن مهران يقول: ثلاثة تؤدى إلى البر و الفاجر: الأمانة، و العهد، و صلة الرحم.

من فقهه في خِطبة البنات:

       قال أبو المليح: جاء رجل إلى ميمون بن مهران يخطب بنته، فقال: لا أرضاها لك. قال: ولم؟ قال: لأنها تحب الحُلِيَّ و الْحُلَلَ. قال: فعندي من هذا ما تريد. قال: الآن لا أرضاك لها.

التواضع و رد المادحين:

       قال أبو المليح: قال رجل لميمون: يا أبا أيوب! ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال: أَقبِل على شأنك! ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم.

الرضاء بالقضاء:

       عن  يونس بن عبيد، قال:كتبت إلى ميمون بن مهران بعد طاعون كان ببلادهم أسأله عن أهله؟

       فكتب إلي: بلغني كتابك، و إنه مات من أهلي و خاصتي سبعة عشر إنسانا، وإني أَكْرَهُ البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر، لم يَسُرَّنِيْ أنه لم يكن.

       و زاد ابن كثير في روايته: وأما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد بهتوا عنه – يعني أيسوا – واختاروا الأحاديث، أحاديث الرجال، و إياك و المراء في الدين.

فقه التوبة:

       وعن ميمون: من أساء سرا، فليتب سرا، و من أساء علانية، فليتب علانية، فإن الناس يُعَيِّرُون و لا يغفرون، و الله يغفر و لا يُعَيِّرُ.

تمكين أصحابه من النصح له:

       عن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر! قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

بيوت الرحمن:

       عبد الله بن جعفر: عن أبي المليح، قال: قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان، فاحتجب عنه، فليأت بيوت الرحمن، فإنها مُفَتَّحَةٌ، فليصل ركعتين، و ليسأل حاجته.

الاستغناء:

       و قال ميمون: قال محمد بن مروان بن الحكم: ما يمنعك أن تكتب في الديوان، فيكون لك سهم في الإسلام؟ قلت: إني لأرجو أن يكون لي سهام في الإسلام. قال: من أين  و لست في الديوان؟! فقلت: شهادة أن لا إله إلا الله سهم، و الصلاة سهم، و الزكاة سهم، و صيام رمضان سهم، و الحج سهم. قال: ما كنت أظن أن لأحد في الإسلام سهما إلا من كان في الديوان. قلت: هذا ابن عمك حكيم بن حزام لم يأخذ ديوانا قط، و ذلك أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة، فقال: «استعف يا حكيم خير لك». قال: و منك يا رسول الله؟ قال: «و مني». قال: لا جرم لا أسألك و لا غيرك شيئا أبدا، و لكن ادع الله لي أن يبارك لي في صفقتي – يعني: التجارة-.

تغير أعمال المسلمين:

       قال فرات: سمعت ميمونا يقول: لو نشر فيكم رجل من السلف، ما عرف إلا قبلتكم.

التصدق بعد الممات:

       قال أبو المليح: سمعت ميمون بن مهران، و أتاه رجل، فقال: إن زوجة هشام ماتت، و أعتقت كل مملوك لها. فقال: يَعْصُون الله مرتين، يبخلون به، و قد أُمِرُوا أن ينفقوه، فإذا صار لغيرهم، أسرفوا فيه.

ألف ركعة في اليوم:

       عن إبراهيم بن محمد السمري: أن ميمون بن مهران صلى في سبعة عشر يوما سبعة عشر ألف ركعة، فلما كان في اليوم الثامن عشر، انقطع في جوفه شيء، فمات.

       عبد الله بن جعفر: حدثنا أبو المليح، عن ميمون، قال: أدركت من لم يكن يملأ عينيه من السماء فرقا من ربه -عز وجل-. وعنه، قال: أدركت من كنت أستحيي أن أتكلم عنده.

الدخول على السلطان للنصح و المرأة للتعليم:

       عن ميمون بن مهران، قال: ثلاث لا تَبْلُوَنَّ نفسك بهن: لا تدخل على السلطان، و إن قلت: آمره بطاعة الله، و لا تُصْغِيَنَّ بسمعك إلى هَوَىً ، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، و لا تدخل على امرأة، و لو قلت: أُعَلِّمُهَا كتابَ الله. قال أبو المليح، سمعت ميمونا يقول: لَأَنْ أُؤْتَمَنَ على بيت مال، أحب إلي من أن أؤتمن على امرأة.

فقه عقوبة المملوك و غيره:

       و عنه قال: لا تضرب المملوك في كل ذنب، و لكن احفظ له، فإذا عصى الله، فعاقبه على المعصية، و ذكره الذنوب التي بينك و بينه.

الصبر:

       و عنه قال: ما نال رجل من جسيم الخير – نبي و لا غيره – إلا بالصبر(4).

       و قال ابن كثير: ميمون بن مهران  من أجلاء علماء التابعين و زهادهم و عبادهم و أئمتهم،كان  إمام أهل الجزيرة، روى عن جماعة من الصحابة، و كان يسكن الرقة، رحمه الله تعالى. و نذكر طرفا من دروسه، مما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية:9/365 – 371، في حوادث سنة السابعة العشرة بعد المئة.

فقه التعامل مع الإخوان:

       قيل له: مالك لا يفارقك أخ لك عن قِلًى؟ قال: لاني لا أماريه و لا أشاريه.

كراهية المعاصي:

       قال عمر بن ميمون: ما كان أبي يكثر الصلاة و لا الصيام، و لكن كان يكره أن يعصى الله عزوجل.

ضر المزاح:

       وروى ابن أبي عدي عن يونس عنه قال: لا تمارين عالما و لا جاهلا، فإنك إن ماريت عالما خزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلا خشن بصدرك.

لقاء بينه و بين الحسن:

       و قال عمر بن ميمون: خرجت بأبي أقوده في بعض سِكَكِ البصرة، فمررنا بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده.

       ثم دفعنا إلى منزل الحسن، فطرقت الباب، فخرجتْ إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب  عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم!  قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء؟  قال: فبكى الشيخ، فسمع الحسن بكاءه، فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد! إني قد آنَسْتُ من قلبي غِلظة، فاستكن لي منه. فقرأ الحسن: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ  ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ  مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾(الشعراء:205-207) فسقط الشيخ مغشيا عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا. ثم جاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا! فأخذت بيد أبي فخرجت، فقلت: يا أبت أهذا هو الحسن؟ قال: نعم. قلت: قد كنت أحسب في نفسي أنه أكبر من هذا! فوكز في صدري و كزة ثم قال: يا بُنَيَّ! لقد قرأ علينا آية لو فهمتَها بقلبك لألفيتَ لها فيه كلوما.

المرصاد:

       و روى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: ﴿إنَّ جَهَنَّم كانَتْ مِرْصَادًا﴾ (النبأ:21) و ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: 14) فقال: التمسوا لهذين المرصادين جوازا.

تعزية للمظلوم:

       و قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِـمُوْن﴾ (إبراهيم:42) فيها وعيد شديد للظالم، و تعزية للمظلوم.

       وقال: لو أن أهل القرآن صلحوا لصلح الناس.

خير الدنيا:

       و عنه قال: لا خير في الدينا إلا رجلين، رجل تائب – أو قال: يتوب – من الخطيئات، و رجل يعمل في الدرجات، فلا خير في العيش و البقاء في الدنيا إلا لهذين الرجلين، رجل يعمل في الكفارات، و رجل يعمل في الدرجات، و بقاء ما سواهما وبال عليه.

الإقبال على القرآن و العلم النافع:

       و قال جعفر بن برقان: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن هذا القرآن قد خَلِقَ في صدور كثير من الناس فالتَمَسُوا ما سواه من الأحاديث. وإن فيمن يتبع هذا العلم قوما يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا، و منهم من يريد أن يمارى به، و خيرهم من يتعلمه و يطيع الله عزوجل به. وقال: من اتبع القرآن قاده القرآن حتى يحل به الجنة، و من ترك القرآن لم يدعه القرآن يتبعه حتى يقذفه في النار.

معرفة المنزلة عندالله:

       و قال ميمون: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله – فلينظر في عمله، فإنه قادم عليه كائنا ما كان.

ذم الكتان:

       عن أبي المليح قال: حدثنا بعض أصحابي قال: كنت أمشي مع ميمون فنظر فرأى علي ثوب كتان فقال: أَمَا بلغك أنه لا يلبس الكتان إلا غني أو غاو؟ و قال: لا يلبس الكتان إلا غني أو غوي.

الزهد:

       قال ميمون: ما أحب أن لي ما بين باب الرها إلى حوران بخمسة دراهم.

ذم العيابين:

       وقال: شر الناس العيابون.

فقه التوكل:

       وقال ميمون: يقول أحدهم: اجلس في بيتك و اغلق عليك بابك، و انظر هل يأتيك رزقك؟ نعم! والله لو كان له مثل يقين مريم و إبراهيم عليهما السلام، و أغلق عليه بابه، و أرخى عليه ستره – لجاءه رزقه.

الحث على الكسب:

       وقال: لو أن كل إنسان منا يتعاهد كسبه فلم يكسب إلا طيبا، فأخرج ما عليه، ما احتيج إلى الأغنياء، و لا احتاج الفقراء.

فقه التعامل مع الناس:

       و عنه قال: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط، إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلي من تخفيفه عليه، فإن قال: لم أقل، كان قوله: لم أقل أحب إلي من ثمانية يشهدون عليه، فإن قال: قلت و لم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته.

       و قال: سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، و إن كان دوني لم أحفِل به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فإن أرض الله واسعة.

فقه الصداقة:

       وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: من طلب مرضاة الإخوان بلا شيء فليصادق أهل القبور.

       وقال جعفر بن برقان: قلت لميمون بن مهران: إن فلانا يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة في القلوب فلا بأس وإن طال المكث.

نصيحته للغازي:

       و قال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أُوَدِّعُه، فما يزيدني على كلمتين: اتق الله، و لا يغرنك طمع و لا غضب.

مجالسة العلماء:

       وعنه قال: العلماء هم ضالتي في كل بلدة، و هم أحبتي في كل مصر، و وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.

التصدق في الحياة:

       وقال: لأن أتصدق بدرهم في حياتي أحب إلي من أن أتصدق بمئة درهم بعد موتي.

ذكر الله عند المعصية:

       و قال: كان يقال: الذكر ذكران: ذكر الله باللسان،  و أفضل من ذلك أن تذكره عندما أحل وحرم، و عند المعصية فتكف عنها و قد أشرفتَ.

آثار الذنوب:

       عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، و أما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نُكِتَتْ في قلبه نكتة سوداء، حتى يَسْوَدَّ قلبه، فلا يبصر الشيطان من أين يأتيه.

كلمة حق عند جائر:

       و قال ميمون: ما من صدقة أفضل من كلمة حق عند إمام جائر.

مثال الفاسق بين المسلمين:

       عن ميمون قال: الفاسق بمنزلة السبع، فإذا كلمتَ فيه فخليت سبيله، فقد خليت سبُعًا على المسلمين.

آفات المال:

       قال ميمون: في المال ثلاث آفات، إن نجا صاحبه من واحدة لم ينج من اثنتين، و إن نجا من اثنتين كان قَمِينًا (أي: جديرا) أن لا ينجو من الثالثة. ينبغي أن يكون حلالا طيبا، فأيكم الذي يَسْلَم كسبُه فلم يدخله إلا طيبا؟ فإن سَلِمَ من هذه فينبغي أن يؤدي الحقوق التي تلزمه في ماله، فإن سلم من هذه، فينبغي أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر.

لقاء مع مكحول:

       و قال عمر بن ميمون: كنت مع أبي و نحن نطوف بالكعبة فلقي أبي شيخ فعانقه، و مع الشيخ فتى نحو مني. فقال له أبي: من هذا؟ قال: ابني. فقال: كيف رضاك عنه؟ فقال: ما بقيت خصلة – يا أبا أيوب – من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه، إلا واحدة. قال: وما هي؟ قال: أن يموت فأوجر فيه – أو قال فأحتسبه – ثم فارقه أبي، فقلت: من هذا الشيخ؟ فقال: مكحول.

خفف حقوق الناس عن ظهرك:

       و روى الإمام أحمد عنه قال: يا بن آدم! خفف عن ظهرك، فإن ظهرك لا يطيق كل هذا الذي يحمل، من ظلم هذا، و أكل مال هذا، و غشم هذا، و كل هذا على ظهرك تحمله، فخفف عن ظهرك.

الإخلاص:

       وقال: إن أعمالكم قليلة فأخلصوا هذا القليل.

هلاك الأقوام بالذنوب:

       و قال: ما أتى قوم في ناديهم المنكر إلا حق هلاكهم.

بكاء من ذكر الحشر:

       وروى عبد الله بن أحمد عنه أنه قرأ ﴿وَ امْتَازُوْا اليَوْمَ أَيُّهَا الْـمُجْرِمُوْن﴾ (يس:59) ثم فارق حتى بكى، ثم قال: ما سمع الخلائق بنعت قط أشد منه.

الصحابة الكرام:

       عن حصين بن عبد الرحمن عن ميمون قال: أربع لا تكلم فيهم:  علي، و عثمان، و القدر، و النجوم. فرات ابن السائب قال: سألت ميمون: أعلي أفضل عندك أم أبو بكر و عمر؟ فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنتُ أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما غيرهما، إنهما كانا رداءي الإسلام، و رأس الاسلام، و رأس الجماعة. فقلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي؟ فقال: والله لقد آمن  أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بُحَيْرَا الراهب حين مر به، و كان أبو بكر هو الذي يختلف بينه و بين خديجة حتى أنكحها إياه. و ذلك كله قبل أن يولد علي (رضي الله عنه و كرم وجهه) وكان صاحبه وصديقه قبل ذلك.

ترك غير الإسلام:

       وقال: احذروا كل هوى يسمى بغير الإسلام.

قلة الدرهم الحلال و الصديق المخلص في آخر الزمان:

       وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَلَّ مَا يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به».

عموم وزر الظلم:

       وقال ميمون: القاتل والآمر والمأمور و الظالم والراضي بالظلم، كلهم في الوزر سواء.

كفارة الظلم:

       وقال: من ظلم أحدا، ففاته أن يَخْرُج من مظلمته، فَاستَغَفَرَ له دبر كل صلاة – خرج من مظلمته. و هذا إن شاء الله يدخل فيه الأعراض و الأموال و سائر المظالم.

الصبر على الطاعة:

       وقال: أفضل الصبر الصبر على ما تكره نفسك، من طاعة الله عزوجل(5).

*  *  *

الهوامش:

  • سير أعلام النبلاء: 127-131، مؤسسة الرسالة.
  • البداية والنهاية: 9/253.
  • سير أعلام النبلاء: 9/78-85.
  • سير أعلام النبلاء: 9/78-85.
  • البداية والنهاية: 9/365-371.

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39


(*)      طالب قسم التخصص في الحديث/جامعة العلوم الإسلامية بنوري تاون كراتشي.

Related Posts