دراسات إسلامية

بقلم:  الأستاذ آس محمد القاسمي المظفر نغري(*)

يعتقد كثير من الناس أن الفرح والابتهاج لا علاقة له با لإسلام والمسلمين، وأن الإسلام يخاصم الدنيا، ويتخذ موقفًا سلبيًا منها ومما فيها من زينة ومتا ع وبهجة. ويحسبون أن التقوى – المطلوب في الإسلام – إنما هو بلبس الرث من الثياب، والتبطل عن الأعمال، وتأديب النفس لحد القسوة.

       ذلك أن من عقائد الإسلام عقيد ة الدار الآخرة  تمثل نقطةً أساسيةً في عقل المسلم بما فيها من حساب، وعدل، وجزاء، وجنة، ودار خلود، ونعيم مقيم، وانتصاف للمظلومين والمحرومين. كما أن الإسلام يحث الإنسان على الجهاد طوال الوقت، سواء اتصل ذلك الجهاد بالنفس وبحملها على المكاره ومنعها عما تحب، أو بالأعداء ودفعهم عن الظلم والفساد في الأرض، فهذه كلها تعزز تلك الفكرة.

       والواقع أنهم تعرضوا لسوء الفهم في تاريخ الفكر الإسلاميّ؛ لأن الإسلام كما هو يُوَجِّه المسلم إلى الآخرة، ويجعل قلبه معلقا بها، فهو أيضًا يشتبك مع الدنيا، ويتفاعل معها إبداعًا واستمتاعًا في توازن ووسطية تمثل معلما بارزًا من معالم الإسلام تجاه القضايا المتعددة.

       فحين نلقي النظر على كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- و ننظر في النصوص يتجلى لنا أن بعضها واردة بشأن ذم الدنيا، والزهد فيها، والتخفف عنها، والأخرى تدعو للتمتع بالطيبات، وعدم نسيان نصيب الإنسان منها، وتستنكر تحريم «زينة الله». منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿يٰبَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰمَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف:32) وقوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا اٰتٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:77) و قد وردت هذه الآية الكريمة في سياق قصة «قارون» مع قومه حينما خرج عليهم في زينته مختالا فرحًا؛ فقال له قومه: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ (القصص:76) أي لا تبطر بما أنت فيه من الأ موال. قال ابن عباس – رضي الله عنهما – يعني المرحين.(1)

قراءة في معنى الفرح:

       الفرح لغة: مصدر من فرح يفرح يدل على خلاف الحزن. واصطلاحًا: انفتاح القلب بما يتلذذ به. وقيل هو «لذة القلب لنيل المشتهى». وهو أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته. و الفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه. والفرح بالشّيء فوق الرّضا به. فإنّ الرّضا طمأنينة وسكون وانشراح. والفرح لذّة وبهجة وسرور(2).

أنواع الفرح:

       من الفرح ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود. وقد ورد في القرآن والسنة على النوعين كليهما. والفرح المحمود هو الفرح بتحقيق طاعة الله أو بالحصول على نعمة من نعمه التي لاتحصى، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس:58) وقد جاءت في حال الشهداء حين يطالعون ما أعد الله لهم من جزاء ونعيم: ﴿فَرِحِينَ بِمَا اٰتٰهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(آل عمران:170) أما الفرح المذموم فهو الفرح بمتاع الحياة الدنيا، والاغترار به، ونسيان صاحب الفضل والإحسان، قال تعالى عن هؤلاء المنشغلين بما آتاهم الله من نعم: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ (الروم:36) وقال: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ (الرعد:26). وقال أيضا: ﴿إنه لفرح فخور﴾ (هود:10) فاتضح أن الفرح ليس له حكم بذاته، إنما يتحدد حكمه بما يرتبط به من أسباب، وما يترتب عليه من نتائج.

نماذج من حياة النبي- عليه السلام-:

       حين ننظر في حياة النبي- عليه ألف ألف تحية وسلام- نجد أنه- عليه السلام- كان حريصا على أن يملأ حياته با لبهجة والفرح والاستبشار، إلى جانب كونها حافلة بالغزوات والجهاد حتى كانت نموذجا عمليا لحسن التعامل مع الطيبات، ومع ما يدخل السعادة على النفس وعلى الآخرين.

       كان النبي – عليه الصلاة و السلام – يحب التفاؤل والتيامن، ويكره التشاؤم والتطير. ويدعو إلى الرفق في كل شيءٍ، «ما خير رسول الله – ﷺ- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما؛ فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه»(3). ويحث على إ سعاد الآخرين، ويجعل ذلك قربة يتقرب بها الإنسان لربه الكريم، ويجيب عندما يسأل عن أحب الأعمال: «سرور تدخله  على مسلم»(4). بل ربما كان – عليه السلام – يمزح مع أصحابه لإيناس المصاحبين ولإدخال السرور على المخاطبين؛ ولكن لا يقول إلا الحق كما قال – عليه السلام -: «إني لأمزح، ولا أقول إلا حقا»(5). ويحذر من العنف والقسوة، ويقول للأعرابي الذي استنكر تقبيل الصبيان: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»(6). ويعلن لأصحابه فى غير خجل: «حبّب إليّ من الدنيا النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة»(7).

       فكل من هذه الأقوال والأ فعال – وغيرها كثير- يحيطنا علماً بأنه – عليه السلام – كان على حظٍ وافرٍ من نِعم الله – عز وجل-، ويدعو الآخرين إليه أيضًا، وليست هذه الأقوال والأفعال متعارضة مع جهاده أومع تبتّله وعبوديّته. بل الواقع أنه – عليه السلام – كان يعطي لكل وقت حقه، ولكل حال حقه.

       إذن البهجة زاد للنفس الطيبة، وهي من طيب الحياة التي ارتضاه الله لأهل الإيمان، لاتصرفهم عن العبادة، ولاتنسيهم الآخرة، وتربطهم مع الكون.

من فوائد الفرح:

       1- الفرح بنعم الله يستتبع الشكر ومزيد الفضل.

       2- الفرح بآلاء الله علامة الإيمان به، وكونه المصدر الحقيقيّ له.

       3- الفرح بفضل الله يشيع المودّة بين المؤمنين.

       4- الفرح بالابتلاء دليل القرب من الله والرّضا بقضائه.

       5- إن الله يفرح بتوبة عبده وهذا باعث إلى المسارعة بها وإقلاع العبد عن المعصية.

       6- فرح المرء باستقامة الآخرين يشيع الحبّ في المجتمع. ويجلب القرب من الله تعالى.

       7- الفرح بفضل الله ثمرة الرّضا من الله على العبد(8).

الختام:

       فيحسن للإنسان أن يتعامل مع نفسه في أطوارها وسياقاتها المتنوعة تعاملا رفيقا، ويجعل توازنها وعافيتها من أهم المقاصد والغايات؛ لأن ذلك سبيلها لحسن القيام بالتكليف والعيش الطيب الذى هو مرضيّ عند الله لعباده، و أن يقبل على الطيبات وعلى «زينة الله» يشبع منها رغبات نفسه بلا إسراف ومغالاة، متذكرًا أنه في كل حا لاته ينبغي أن يكون عبدًا لله لا تستثني حالة من تلك، سواء كان في محراب المسجد أو في ساحات الحياة؛ لأن المؤمن ينشد سعادة الدنيا والآخرة كليهما، فهو في لحظات السعادة لا يغتر بالفرح، وهو عند نقصانها مع تقلب أحوال العيش من الصابرين الشاكرين. وبا لجملة التيسير والرفق هو منهج الإسلام، والفرح والابتهاج في حياة الإنسان هو مرضاة الرحمن مالم يبلغ العصيان.

*  *  *

الهوامش:

(1)       تفسير ابن كثير، ج:6 ص:228، ط: دار الكتب العلمية، بيروت.

(2)       نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ج:7 ص : 93- 3094  لعدد من المختصين بإشراف الشيخ صالح بن عبدالله إمام وخطيب الحرم المكي، ط: دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة.

(3)      مسند أحمد، رقم الحديث: 26262.

(4)       المعجم الكبير للطبراني، رقم الحديث: 13646.

(5)       المعجمم الأوسط للطبراني، رقم الحديث: 7322.

(6)       شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث: 10502.

(7)       مسند أحمد، رقم الحديث: 14037.

(8)       نضرة النعيم المذكور، ج:7 ص: 3106.

* * *


(*)      أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/حيدر آباد، الهند.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1436 هـ = أبريل – مايو 2015م ، العدد : 7 ، السنة : 39

Related Posts