إشراقة
كثيرٌ من ذوي العلم لا يُتَاحُ لهم أن يكتبوا ويُؤَلِّفُوا، أو لا يُكْثِرُون من الكتابة والتأليف؛ ولكنهم يَتَوَفَّرُون على تخريج تلاميذ ذوي مؤهلات نافعة للخلق على شتى الأصعدة، يُشَكِّلُون كتبًا ناطقة متنقلة، ويؤدون دورًا يفوق دورَ الكتب والمُؤَلَّفَات في نشر العلم والمعرفة، وتثقيف الأجيال، وتخريج الرجال، إلى جانب ما يقومون به مما ليس بوسع المؤلفات، من القيادة والخطابة، والكتابة والتدريس، والسياسة والإدارة، وأعمال الحياة التي لا يحصيها إلاّ من أحصى شعر غنم بني كلب.
وعلى ذلك يجوز أن يُصَنَّف ذووالعلم ضمن ثلاثة أقسام: 1- من يجيدون الكتابة والتأليف وإلى ذلك يجيدون إعداد الرجال وصناعة المُؤَهَّلِين. 2- من يجيدون الكتابة والتأليف؛ ولكنهم لا يعرفون تخريج الرجال وبناء الأجيال. 3- من يجيدون صنع الرجال ولا يجيدون الكتابة والتأليف. ويجوز أن يكون من ذوي العلم قسم رابع، وهو ذلك الذي يفقد أهليتي إجادة الكتابة وإجادة بناء الرجال معًا؛ ولكنه لا يعنيني ههنا.
القسم الأوّل أكثر حظًّا من السعادة؛ حيث إنه يحظى بالحسنيين؛ بل بالمفتاحين اللذين يمكنه بهما أن يفتح جميع أقفال الحياة للخلق أجمعين؛ فهو بكتاباته الدسمة ومُؤَلَّفَاته الغزيرة المعلومات ذات الأسلوب الرائع والصياغة الجذّابة والعرض الشهيّ، يفتح أمام المستفيدين بوابةً واسعةً إلى التشبّع بكل ما فيها من العلوم والمعارف والمعلومات والموادّ التي هم بسبيل تلقّيها، كما يحفظون فيها هذه الثروة الغالية والأرصدة الثمينة للأجيال الحاضرة والقادمة؛ فتظل مددًا لا ينفد لكل من يستفيد منها حالاً ومستقبلاً، كما تظلّ صدقةً جاريةً له على مدى الدهر؛ لأن له أجرَ كل من استفاد منها في عصره وبعد عصره، كما تظل داعيةً للأدعية المتصلة من ألسنة من ينتفعون بها، فيُضْطَرُّون مدفوعين بالإعجاب وعواطف الشكر إلى أن يدعوا له دعوة نابعة من ألسنة عارفة بالجميل.
أما بكتاباته ومُؤَلَّفَاته الناطقة المتمثلة في تلاميذ مؤهلين وعلماء أكفاء فإنّه يشق طريقًا أوسع مستقيمًا مباشرًا إلى الخير الجمّ والحسنات غير المحدودة للخلق؛ لأنهم يركضون في كل مجال يهم الإنسان ويهمّ بني دينهم وعقيدتهم ووطنهم – كلٌّ على مستوى تخصصه وأهليته – فيحصدون الثناءَ من الخلق ويستحقون الجزاء من الربّ. وهذا الثناء والجزاء يرجعان كذلك إلى معلمهم الذي أهّلهم لذلك؛ لأنه لولا عنايته بتربيتهم وعكوفه على تخريجهم مُزَوَّدِين بهذه الأهليّات – التي صنعوا بها ما صنعوا – لما كان لهم دورٌ يُذْكَر ولا أثرٌ يُسَجَّل.
أما الذين يحظون فقط بأهلية إجادة الكتابة والتأليف ويُحْرَمُون إجادة صنع الرجال؛ فهم أيضًا يكونون سعداء يُخَلِّفُون مؤلفات قد تبقى أبد الدهر، وتصل علومهم عن طريقها إلى أجيال متلاحقة، فتُثْنِي عليهم وتدعو لهم حسب التوفيق للدعاء، وتبقى – الكتابات والمؤلفات – صدقة جارية الأجر متصلة الثواب، فتزيد كفة الحسناوات رجحانًا يوم القيامة، على حسب ما تكون نافعة. وعلى قدر النفع تخلد و تدوم؛ حيث قال الله تعالى: «وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِيْ الأَرْض»(الرعد/17).
ومن محاسن الكتب والمُؤَلَّفَات أنها تبقى لدهر لا تبقى له الرجال، وتصل إلى أجيال بعيدة لا يصل إليها الرجال، فمنافعها أخلد وأبقى من منافع الرجال؛ ولكن هذه الأخرى – منافع الرجال – أيضًا قد تتسلسل وتتصل عن طريق الرجال المتخرجين على المعلم الأوّل، فالمتخرجين عليهم، فالمتخرجين عليهم، فالمتخرجين عليهم، فـ …؛ ولكنه على كل حال يأتي زمان يمّحى أثرهم وذكرهم شيئًا فشيئًا إلاّ في علم الله عز وجل الذي يعلم السرَّ وأخفى ويعلم لكل ذي فضل فضله.
أمّا القسم الثالث الذي يصنع الرجال ولا يصنع المُؤَلَّفَات، فهو كذلك يكون زارعًا للخير حاصدًا للثناء مستحقًا للجزاء؛ لأنه يعكف فقط على جانب واحد من جوانب العمل والنشاط. والعاكفُ على عمل واحد، يأتي إنتاجه أكثر إثمارًا من الذي يتوزّع نشاطه على جوانب عديدة. وقد جرّبنا كثيرًا من رجال هذا النوع فوجدناهم أنهم رَبَّوا الرجال بعناية أوفر وأقوى من عناية أحدنا بأولاده وأفلاذ أكباده، فانتشروا في الأرض علماء ومثقفين، وأساتذة ومدرسين، وكتابًا وخطباء، وساسة وقادة، وأطباء ومهندسين، وإعلاميين وصحفيين، وخطّاطين وإداريين، ومن إلى ذلك، وتركوا بصمات واضحة ثابتة على كل عمل مارسوه، وكل مجال خاضوه، وكل قضية عالجوها، وتركو الألسنة تتغنى بثنائهم وثناء أستاذهم – الذي صنعهم على هذا النحو الجميل البارع – وتركو الناس يدعون لهم ولمعلمهم مخلصين ملحين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
إنّ الجديرين بالرثاء إنما هم أولئك الرجال من ذوي العلم الذين لايمكن أن يُصَنَّفُوا ضمن أي جدول من الجداول الثلاثة، فهم حصلوا على العلم في أي معهد تعليمي بشكل رسمي نظامي، وبقوا يتشاغلون بأعمال نفعتهم هم أو اعضاء أسرتهم، ولم تنفع غيرهم في قليل أو كثير؛ فبقوا منطوين على أنفسهم، ولم يصنعوا شيئًا إلا أنهم – إذا حالفهم التوفيق – عاشوا حياة الصلاح، وحاولوا العمل بأحكام الدين، أو اهتمّوا – إذا رعتهم عناية الله – بكسب الحلال وجمع الرزق الطيب لهم ولأولادهم ولمن يعولونهم. وبذلك كسبوا ما أمكنهم من الخير الذي يتوق إليه كل مسلم صالح مُوَفَّق؛ ولكنهم على كل حال لم ينزلوا على مستوى رجال الأقسام الثلاثة السالفة الذكر، الذين أتيح لهم أن ينفعوا أنفسهم وينفعوا غيرهم، وصنعوا لهم عاملاً ثابتًا من عوامل الثناء والجزاء والذكر.
بقي أن أذكر أن في ذوي العلم من يميلون إلى امتهان الخطابة التي تساعدهم على إصلاح المجتمع ودعوة الناس إلى الخير وتبليغ دين الله القريبين والبعيدين. وإلى ذلك يمتهنها البعض لجمع المال والثروة وتحقيق الوسائل المادية؛ لأن الخطابة وسيلة فعّاله سريعة إلى استمالة الناس وكسب قلوبهم وخطب ودّهم، وفيهم من يملكون الخير الكثير ويميلون إلى فعل الخير مع من يحتاج إليه أو يرغب فيه؛ فالممتهنون للخطابة لكسب المادة وجمع المال ينتفعون بها ماديًّا بنحو قد يفوق التصوّر.
ولكن الخطابة بما أنها لا يدوم نفعها دوام نفع الكتابة وصنع الرجال، فلم أتعرض لها في فقرتنا الأولى التمهيدية؛ لأن الحديث المنطوق عاجل المفعول سريع الامّحاء. والدليل على ذلك أن الخطيب مهما كان مِصْقَعًا مُفَوَّهًا لايبقى ذكره طويلاً بعد موته؛ حيث إن الناس ينسونه على مرّ الأيام. وكذلك الحال بالنسبة إلى الصحفيين الذين سريعًا ما ينسى الناس ذكرهم، مهما اشتهروا في حياتهم وطبّق صيتُهم الشرقَ والغرب.
على كل فإن ذوي العلم الجامعين بين التأليف وبناء الرجال هم أسعد الأنواع الثلاثة من ذوي العلم، ويليهم المتفرد بأهلية التأليف، ويليه الحَظِيّ بأهلية صنع الرجال. وفي الحضيض من يخلو من هذه الأهليّات كليًّا.
وقد أَعْجَبَ كاتبَ السطور من رَكَّزَ من ذوي العلم على صناعة الرجال مائلاً عن الكتابة والتأليف، رغم أنه كان يمتلك أهلية التأليف الفائقة؛ لأنه قد رأى أن الساعة تقتضيه أن يُرَكِّز على تخريج الرجال الذين يحملون عنه شتى الأهليات التي يحملها هو وحده دون الكثيرين من المعاصرين والأقران. وقد علم الخبراء أن صناعة الإنسان أشقُّ من صناعة الكتاب أو ممارسة الخطابة؛ لأنّ الإنسان كائن مُعَقَّد؛ فإصلاحه وتربيته وإعادة بناء ما فسد منه وانهدم، شيء صعب للغاية لايقدر عليه إلا الصابر المحتسب الذي يحتمل بنفسه الكبيرة أن يتجرّع الحلو والمرّ؛ لأن الإنسان حين يتعرض للهدم ليُبْنَى، وللتحطيم ليُصْنع، وللتشذيب ليُهَذَّب، لا يحتمل ذلك دائمًا عن طيب نفس ورضا قلب؛ بل قد يحمله هذا الموقفُ أن يبغض من يودّ بناءه وصنعه وتهذيبه عن طريق الهدم والتحطيم والتشذيب. وقد رأيتُ عددًا من صانعي الرجال أبغضهم عددٌ من الذين تصدّى لصنعهم، وظنّ أنه عدوّ له لا يحترم آدميته وأنّه قاس في معاملته معه لا يرقّ لحاله.
إنّ المريض المراد إجراء العملية الجراحية في جسمه لايحتمل ذلك بسهولة. كثيرًا ما يحدث أنه يرفض أن يخضع للعمليّة، ويعيش مع المرض، ويحتمل الأذى الذي يُسَبِّبه له المرض؛ فالمتصدى لصنع الرجال كالطبيب القائم بإجراء العملية الجراحيّة، الذي ربّما يُبْغَضُ – إجراءُ العملية – من قبل المريض. وكذلك صانع الرجال قد يُبْغَض ويتعرض للعداء وتداعياته من قبل الذين يودّ أن يصنعهم. إن صانع الرجال كثيرًا ما يضطر أن تشوكه الأشواك، ويُثَبِّطُه المُثَبِّطات، ويحول دون عمله النبيل عوائق وحواجز.
ولذلك كان صانع الرجال أكثر الأنواع الثلاثة جدارة بالشكر والذكر، وتخليد الاسم؛ لأنه صنع ما لا يقدر عليه إلاّ الكبار النفس ذووالعزيمة التي تسخر الجبال وتهزم العواصف. وهنيئًا لجميع فاعلي الخير وصانعي المعروف. والله وحده الموفق للخير.
(تحريرًا في الساعة 2 من مساء يوم السبت: 29/جمادى الأولى 1436هـ = 21/مارس 2015م)
أبو أسامة نور
nooralamamini@gmail.com
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1436 هـ = أبريل – مايو 2015م ، العدد : 7 ، السنة : 39