إشراقة
في الماضي كان المُعَلِّم يُسَمَّىٰ «المُؤَدِّب» لأن التعليم والتأديب كانا مُتَلاَزِمَيْن لا يفارق أحدهما الآخر ولا يُتَصَوَّر الفراق بينهما. وكذلك المتعلم كان لا يُدْعَىٰ «تلميذًا» أو «متعلمًا» وإنما كان يُطْلَق عليه «الصاحب» لأنه كان يصاحب مُعَلِّمَه دائمًا، فكان لا يَتَلَقَّىٰ منه العلم وحده، وإنما كان يَتَشَرَّب خُلُقَه وأدبَه وسيرتَه وسلوكَه ومنهجَ تعامله مع الحياة إلى جانب العلم والمعرفة. إن مُجَرَّدَ التعليم لم يكن شيئًا في الماضي؛ فكان لا يعرفه أحد؛ وإنما كان المتعلمُ يتعلم إلى العلم الأدبَ وكلَّ ما يبني في الإنسان المتعلم إنسانيته ويُهَذِّبه ويصوغه في القالب الإنساني بنحو يجعله يقدر كلَّ القدرة على «تأديب» المجتمع كله الذي كان يكون هو فردًا فيه؛ فالمُتَخَرِّج الواحد على «المُعَلِّم المُؤَدِّب» كان يكون بوسعه أن يُصْلِح المجتمعَ الواسعَ الكبيرَ الإصلاحَ الكاملَ الشامل. وكان لا يقوم بهذه المهمة الجليلة المُشَرِّفَة بلسانه وقلمه بمثلما كان يقوم بها بأخلاقه وسيرته المَرْضِيَّة، التي كانت تُحَبِّبه إلى أعضاء المجتمع كلهم، الذين كانوا يَتَرَامَوْن عليه تراميَ الفراش على النور، وكانوا يظلّون طَوْعَ أمره وَرِهْنَ إشارته، وكانوا يحترمونه احترامَ الولد البارّ الرشيد لأبويه، فكانوا يَتَأدَّبُون بأدبه ويَتَخَلَّقُون بأخلاقه ويَتَأَسَّوْن بسيرته وَيَنْصَاغُون في قالب كل دقيق وجليل من أعماله، ويُحَاوِلُون أن يكونوا نسخةً منه طِبْقَ الأصل في التعامل اليومي العامّ المُتَّصِل بالله وخلقه.
فكان المتعلم يَسْعَد بمُعَلِّمِه بأوسع وأوفى معاني الكلمة ودلالاتها وإشاراتها، كما كان المُعَلِّم المُؤَدِّب يَسْعَد بمتعلمه المُتَأَدِّب؛ إذ استطاع أن يُخَرِّجَه تخريجًا أرضاه وأَقَرَّ عَيْنَيْه وأَثْلَجَ صدرَه، وسيُرْضي الله تعالى – إن شاء الله – فكان يكون المتعلم صدقةً جاريةً لمعلمه المُؤَدِّب مثلما كان يكون لوالديه. وكان يَسْعَد بمثل هذا المتعلم المُتَأَدِّب المجتمع البشريّ ويَصْلُح به أبناؤه وتَعْمُرُ به الأرض ويرتفع به الفسادُ ويَعُمُّ به الصلاح، فيعود هذا الكون – ولاسيّما الجزء الذي كان يسكنه هذا المتعلم المتأدب – قابلاً بشكل أحسن وأكثر لسكنى الإنسان الذي كانت لا تُحَدِّثُه نفسُه أن يغادره إلى كوكب سماويّ نجاةً بنفسه من الفساد والدمار الشامل الذي يلاحقه اليوم رغمَ جميع مزاعم ومظاهر التقدم. أجل كان هذا المتعلمُ الخيرَ كلَّه لنفسه ولأهله ولوالديه ولمجتمعه الواسع ولوطنه – في معنى مواطنته الصادقــة – ولدينه وعقيدتـه ولربّه وخلقه والكون كله بعلمه الغزير الدقيق، ودراسته الواسعة العميقة، وبصلاحه وتقواه، وبخلقه الإسلامي النزيه الجدير بالمحاكاة والتقليد، وسيرته الطاهرة، وسلوكه الجميل الذي كان يَسْتَرِقّ حتى الأعداءَ فضلاً عن الأصدقاء، وبروحه الدعوية، وعاطفته الإصلاحيّة، وحرصه على صلاح جميع بني جنسه البشر، وحبّه الخيرَ لهم جميعًا على اختلاف الألوان والأوطان، والأعراق والأجناس، والديانات والاتّجاهات؛ لأنه كان يكون إنسانًا نَوَّرَه العلمُ النافع، وهَذَّبَه التأديبُ الصالح، ونَحَتَتْه التربيةُ الشاملة الكاملة إنسانًا سويًّا منشودًا لدى الخلق مرضيًّا لدى الله.
كانت الحالُ على هذا المِنْوَال عَبْرَ القرون الطويلة التي كان العالَم خلالها تحت وصاية الإسلام، وكانت العُمْلَة الإسلامية هي المُتَدَاوَلَة في سوق العالم التي كان لا يعرف غيرها، وكانت الإنسانية إليه – الإسلام – ترجع في علاج جميع أمراضها الصغيرة والكبيرة؛ لأن طبيعتها لم تفسد لحدّ أن لا تُفَرِّق بين الخير والشرّ والصلاح والفساد بل الحقّ والباطل.
ثم تغيّرت الحالُ وانقلب الميزانُ عندما اغتصبتْ أوربّا من أيدي أبناء الإسلام عن غير جدارة واستحقاق قيادةَ العالم وتجديف سفينة الإنسانيّة، فانفصل التعليم من التأديب والتربية، وتأكّدت العقيدة بإفادية مُجَرَّد العلم بدون التأديب والتربية؛ بل عمّ الإيمان بأن التركيز على مُجَرَّد العلم والدراسة في غياب عن التربية والتأديب هو الأنفع؛ لأن التربية والتأديب خلال التعليم – كما زعمت أوربّا – يُضْعفَانِ شخصيةَ المتعلم، ويحولان دون انهماكه في الدراسة فإتقانه للعلم فكونه مُؤَهَّلاً تأهيلاً لائقًا لأداء دوره في الحياة في إطار نوعيَة العلم الذي هو بصدد تحصيله. إن التربية مع التعليم تُتْعِب فكرَ المتعلم، وتُجْهِد نفسيته، وتُقَيِّد انطلاقتَه، وتقصّ جناحيه فيعود عاجزًا عن التحديق في العلياء والفضاء الأوسع الأرحب للعلم والمعرفة.
فتَخَرَّجَ المتعلمُ وهو لا يعرف لمعَلِّمِه حرمةً، ولا لأبويه عظمةً، ولا لمجتمعه حقًّا عليه، ولا للحياة آدابًا، ولا لشخصه قيمةً من حيث كونه إنسانًا أكرمه الله بالعقل والشعور، ومَيَّزَه عن البهائم التي لا تعرف سوى الاعتلاف، وممارسة الشهوات الجنسيّة بعشوائية.
تَخَرَّجَ أنانيًّا مُغْرِضًا مُتَهَالِكاً على المادَّة وإشباع المعدة، متعودًا الجرائمَ الخلقيةَ، أَخْرَقَ في التعامل مع الحياة وأعضاء الجنس البشري، لا وعيَ لديه بالمسؤوليات التي تعود عليه تجاههم، وإنما يعرف أغراضَه الشخصيةَ وأهدافَه الماديّةَ، وحريّةَ الرأي والقول والفعل، وممارستَها بلا حدود ولا قيود؛ فعندما تُسْنَد إليه مسؤوليةٌ يُؤَدِّيها أداءً سَيِّئًا؛ لأنّه قد تَخَرَّجَ أنانيًّا مُغْرِضًا لم تُهَذِّبه تربيةٌ ولم يصنعه تأديبٌ ولم تمسَّه يدُ إصلاح.
وزاد الطينَ بَلَّةً دعوةُ الغرب القويّةُ المُتَّصِله إلى «تحرير» المرأة وتسويتها مع الرجل في كل مجال، وإطلاقها من يد الرجل الغلاّبة، وإخراجها من ظلمة داخل جدران البيت إلى ضوء المجالس والنوادي، إلى الفضاء الرحب الفسيح، إلى الشوارع والأسواق، إلى المكاتب والمصانع، وأمكنة العمل المتنوع في الحياة، من المحلات التجارية، والصحافة والإعلام، والإعلانات والأفلام وما إلى ذلك مما لا يُعَدّ ولا يُحْصَىٰ.
ودعوتُه الصارخةُ المرأةَ إلى خلع الحجاب والتجرّد من الحشمة؛ لأنه – كما زعم ولا يزال – ظل يعوقها عن التقدم والتنوّر والتكاتف مع الرجل في ساحة الحياة؛ فعادت المرأة مع الزمن تتجرد من الثياب، وتَتَعَرَّىٰ كليًّا إلاّ من خرق منتشرة على جسمها، تزيدها فتنةً للرجال، وتُمَثِّل عوراتها، وتُبْرِز مفاتنَها الجماليّة التي تُغْرِي بها الرجالَ، حتى صارت اليوم سلعةً تجاريّة، فيُتَّجَر بجسمها وأعضائها، وبصورها وتماثيلها، وتُتَّخَذ ذريعةً قويّةً لتصريف السلع التجارية، وترويج السوق، وتحريك الأعمال لدى كسادها.
ودعوتُه المُؤَكَّدَة الضاغطةُ إلى التعليم المختلط، التي فتحت الأبواب واسعةً للفتنة العمياء الناتجة عن الاختلاط الواسع دونما قيد بين الجنسين منذ نعومة الأظفار إلى مرحلة الشباب الناضج فإلى الرجولة؛ فجعل المتعلم والمتعلمة يتشرَّبانِ الحبَّ الحرامَ، ويمارسانه في حرّية، ويَتَخَطَّيَانِ في ذلك جميعَ الحدود. وقد يَتَعَدَّىٰ هذا الحبّ إلى المُعَلِّم والمُتَعَلِّمة، أو المُتَعَلِّم والمُعَلِّمة، وكثرت قصص هذا الحبّ في العهد الأخير، واطَّرَدَت حوادث الغرام الحرام هذا، وصارت حديث النوادي، وطفحت بها وسائل الإعلام، ثم صارت شيئًا عاديًّا لا يسترعي انتباهًا، ولا يستغربها المجتمعُ الذي فَسَدَ مُعْظَمُه؛ بل لا يَتَقَزَّز منها؛ لأنه يرى هذا الغرام المُتَبَادَل بين الجنسين من عوامل النهضة وأسباب التقدم ووسائل «التنوّر» الذي حُرِم إيَّاه – التنور – الإنسانُ طَوَالَ الفترة التي كانت فيها قيادة المجتمع البشري بيد الإسلام.
ففَسَدَ التعليمُ وأَفْسَدَ، وخَرَّجَ أجيالاً متلاحقةً لا تتأدب مع المعلمين، بل تُسِيء إليهم بأساليب كثيرة، وتُعَامِلُهم معاملة الندّ للندّ؛ بل تتجرأ عليهم، وتحسبهم أصغرَ من نفسها، وكثيرًا ما تتناولهم بالضرب والإهانة حتى الاغتيال، وربما تنشر وسائلُ الإعلام أنباءً بذلك مخزيةً لهذا المجتمع «المُتَنَوِّر» الذي اجتهد الغرب في إنشائه.
فلم تعد هذه الأجيال المتعلمة المتخرجة في المدارس والجامعات المختلطة تنفع الإنسانية وتخدمها في الجهة الصحيحة؛ لأنّها تَلَقَّت مجردَ العلم والمعرفة – إذا كانت قد أحسنت التلقّي بمنجاة من عدوى الفتنة الناتجة عن الاختلاط بين الجنسين – ولم تكن قد تلقت الأدبَ والتربيةَ، ولم تتمكن من تهذيب سيرتها وسلوكها؛ فعاد مُعْظَمُها بهيميًّا شهوانيًّا أنانيًّا يُؤَدِّي دورَه في الحياة كالبهيمة، ولم يعرف دورَه في الحياة كالإنسان.
وقد بقي التعليم بمنجاة من هذه المصائب والمفاسد كلها لحد كبير في تلك الكتاتيب والمدارس والجامعات الإسلامية الأهلية التي تنتشر شبكتُها في هذه القارة الواسعة: شبه القارة الهندية التي لا تعرف التعليمَ المختلطَ، وَحرَّمته على نفسها تحريمًا قاطعًا، فلا يزال فيها المعلمون «مُؤَدِّبين» ولا يزال التلاميذ «متأدبين» و لايزالون لحد كبير «أصحابًا» لمعلميهم يلازمونهم ويَتَسَقَّطُون العلم والتربية معًا منهم. والحاجةُ ماسّة إلى أن تُحَاكِي المدارس والجامعات العصريّة هذه المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية لتصلح منها ما فسد.
(تحريرًا في الساعة الواحدة من ظهر يوم الثلاثاء: 13/4/1436هـ = 3/2/2015م)
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأخرى 1436 هـ = مارس – أبريل 2015م ، العدد : 6 ، السنة : 39