الفكرالإسلامي
بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)
من سُنن الله في أحوال الناس واجتماعهم أنَّهم يُحِبُّون من يُحسن إليهم، ويتولَّون من يُسدي إليهم الخير، فالإحسان إلى الناس وإسداء الخير لهم خُلق فاضل، وله تأثيركالسحرفي نفوسهم، فإذا أحسنت إليهم تستأسرهم وتملك قلوبهم، وأما إذا أحسنت إلى عدوّك فتزول عداوتُه وتصفولك محبَّتُه، وإذا هو ولي حميم.
لقد فطر الله تعالى الناس على حُبِّ من يُحسن إليهم، ويُعاملهم معاملةً حسنةً، «فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ» (الأنعام/30).
ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حُبِّ من أحسن إليها.
وقال أبو الفتح البستي:
أحْسِن إلى النَّاس تستعبدْ قلوبهم
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
فالإحسان هو الترياق النافع في مخالطة الناس ومعايشتهم، وهو يستميل القلوب، ويجذب النفوس، ويُحَوِّل العداوةَ صداقة، والبغضَ محبة.
وقد بيَّن الله تعالى هذه السنَّة في القرآن الكريم حيث قال: «لا تَسْتَوِي الحسَنَةُ ولا السيِّئة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (فصلت/35).
لقد أرشدنا الله في هاتين الآيتين إلى أنَّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخُذ بالحسنة؛ فإنها خير من أختها، يرضى عنها الله ويُثيب عليها، وأما السيئة فيكرهها ويعاقب عليها، فإذا أساء إليك أحد فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن، أن تُحسن إليه مكانَ إساءته: إن ذمَّك فتمدحه، وإن حرمك فتعطيه، وإن قطعك فتصله.
فإنَّك إن فعلت ذلك انقلب عدوّك المشاقق مثل وليك الحميم الشفيق. ولما كان هذا ممّا يصعب على النفس لا يحظى به جميع الناس، وإنما يحظى به أهل الصبر وصاحب الحظِّ العظيم (البحر المديد6/541 ملخصًا).
يقول بعض الناس: قمتُ بالإحسان إلى عدوّي؛ فما زال على عداوته، ولم أظفر بالنتيجة. يقال له: إن كانت العداوة تتمكن من قلبه فبالغِ في الإحسان إليه، ولا بُدَّ أن يكون الإحسان بقدر ما في قلبه من العداوة، حتى يقتلعها ويُزيلها.
إنَّنا نجدُ نماذج كثيرة لهذه السنَّة في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صفته صلى الله عليه وسلم «لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح».
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عمَّن ظلمه، ويُحسِنُ إلى من عاداه، حتى ملك قلوبَ أعدائه، وحلَّ منها منـزِلا كريمًا، بل أصبح أحبَّ إليهم من أنفسهم التي يحملون بين جنبيهم.
فهذا عمر بن الخطاب، فقد كانت عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه معروفة، فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم زالت عداوته، حتى قال له- صلى الله عليه وسلم- يوماً: لأنتَ أحبُّ إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ (خلاصة الشفاء في تعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض،1/81)
كذلك بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم الحسنة وخُلُقه الطيِّب زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان التي حرَّضت الكفار على القتال في غزوة أحد، والتي آذت النبي صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة رضي الله عنه أشدَّ الإيذاء، حيث مضغت كبده، إذ قالت له صلى الله عليه وسلم: ما كان أهل خِباءٍ أحبَّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك، واليومَ ما أهلُ خِباءٍ أحبَّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً ، أي وستزيدِين حباً. (السيرة النبوية لابن كثير3/603).
كما أنَّ فضالة بن عمير بن الملوِّح الليثي همَّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟، قال فضالة: نعم يا رسول الله، قال: ما كانت تحدث به نفسك؟، قال لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبّ إلي منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدَّث إليها، فقالت هلمَّ إلى الحديث فقلت: لا. وانبعث فضالة يقول:
قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا
يأبى عليك الله والإســـلام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله
بالفتح يوم تكسّر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينًا
والشرك يغشى وجهَه الإظلام
(الروض الأنف، ص :177 )
وعن جابر بن عبد الله قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غِرّة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال من يمنعك مني؟ قال: الله عزَّ وجلَّ، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ قال كن كخير آخذ، قال أتشهد أن لا إله إلا الله، قال لا! ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه، قال قد جئتكم من عند خير الناس(مسند أحمد23/193).
وهنا يحلو لي أن أذكر تجربة إيمانية فريدة فيما يتعلق بهده الآية الكريمة عاشها أحد كبار علماء الهند، وهو فضيلة الشيخ محمد منظور النعماني- رحمه الله- وهي صورة حيَّة، ومثال تطبيقي للآية. أدع الشيخ يحكي تجربته بنفسه:
قال: من التوجيهات القرآنية أنه إذا خاصمك أحد، وعامَلك معاملة سيئة، فكافِئْه بالخير، وجازِه على ما أساء إليك بالإحسان إليه، فلايلبث أنه يعود ولياً حميمًا.
وضُمَّ إلى هذا التوجيه أنَّه لا يُوفَّق لهذا إلا أولئك السُّعداء الذين يتحلَّون بصفة الصبر والتغلُّب على هوى النفس.
هذه فذلكة الآية الكريمة، ولاشك أنَّ من عمل بهذا التوجيه القرآنيِّ لقي نتيجته لامحالة.
أنا أعترف بأنِّي – لحدَّة طبعي وعدم تغلُّبي على هوى النفس- لم أوفَّق للعمل بهذا التوجيه القرآني إلا قليلاً، لكنَّه كلَّما أتيح لي أن أعمل به، رأيت بأمِّ عينيّ تلك النتيجة التي وعد بها القرآن الكريم، وإليكم تجربة عِشتُها في هذا الخصوص:
كان الأسبوع الأوَّل من شهر أغسطس عام 1947م، وأذكر أنه كان يوم 18/من شهر رمضان المبارك، وكنت أنا ورفقتي البالغ عددهم بضعة عشر رفيقًا نريد السفر إلى دهلي.
ولايغيبنَّ عن البال أن التوتُّر بين الهندوس والمسلمين في ذلك الحين قد بلغ ذُروته، وسبق أن وقعت الفتن الطائفية الهائلة في «كالكوتا» و «نواكهالي» و«بيهار» وما إليها، وحدث بعد أسبوع تقسيم البلاد إلى قطرين: الهند وباكستان.
في هذه الأيام أربعة قُطُر أو خمسة تغدو وتروح مباشرة بين «لكناؤ» و«دهلي»، وأما في ذلك الحين فلم يكن قطار يسير مباشرة من «لكناؤ» إلى «دهلي»، وكان لابُدّ للوصول إلى دهلي من ركوب قطار آخر في مدينة «مراد آباد» أو في مدينة «كانفور». فقررنا أن نسافر بقطار «دهره» السريع السائر على الخطوط الممتدَّة المارَّة بمدينة «مراد آباد» إلى دهلي، وكان ذلك القطاريسير من لكناؤ في الساعة السابعة مساءً. بناءً على تجاربي في السفر كنت أتوقع أن أجد المقاعد شاغرة في العربة المتصلة بالقاطرة، فوقفنا حيث كنا نتوقع وصولها، وقلت لبعض رفاقي: ما إن يقف القطار على المحطة حتى تحاولوا في خفة ونشاط أن تشغلوا المقاعد الشاغرة للرفاق، وأكّدت أن لايُؤذوا أحدًا، ولا يحدث نزاع.
وقف القطار على المحطة، ونزل عدد كبير من المسافرين من العربة وفق ما قدَّرت، فدخل أولئك الرفاق العربة في نشاط للغاية، حسب ما قرَّرنا، وشغلوا المقاعد الشاغرة ببسط الثياب عليها، ثم دخل رفاقي الآخرون، كما دخلت أنا، وجلست على مقعد بسط عليه الثوبَ أحدُ رفاقي، وجلس بجنبي رفيق لي. وهناك كان ناسك هندوسي نزل من القطار لبعض شأنه، ثم عاد، وجعل يُحاول بشكل استفزازي أن يقيمنا من المقعد دون أن ينبس ببنت شفة آخذًا بإحدى يديه عضديّ، وبأخرى عضد رفيقي. لعله لم يكن يعرف أن لي عدَّة رفاق، فلم يكد أن يفعل هذه الفِعلة حتى همَّ بعضُ رفاقي ليأخذه، فزجرتُهم بأعلى صوتي: أن مكانَكم ولاينبس أحد منكم ببنت شفة، ولا حاجة إلى التكلم، أكلمه أنا إن مسَّت الحاجة.
فقلت له في رفق ولين: قل ماذا تريد؟ فقال وهو غضبان أشدَّ الغضب: لماذا جلستم على هذا المقعد؟، وقد كنت جالسًا عليه، فقلت له: قد كنت تستطيع أن تقول ذلك في رفق ويُسر. لما نزلتَ من القطار وجد رفاقي المقعد شاغرًا، فبسطوا عليه الثوب، وجلست عليه. لوقلت في رفق: هذا المقعد لي، وكنت جالساً عليه من ذي قبل، لأخليته.
على كلٍ فقد تركت المقعد قائلا: إن كنت جالسًا عليه فاجلس. وقد غاظ رفاقي فِعْلتُه التي فعلها مرة أخرى، فقلت لهم: ليس لكم من الأمر شيء، إن كان جالسًا من ذي قبلُ فله الحق في الجلوس عليه، وانتهى الأمر. فأخذت بيده وأجلسته على المقعد.
ثم أخذت أوجِّه إلى رفاقي الإرشادات بصفتي أميرًا في القافلة، وأزوِّدهم بآداب السفر والأدعية، وكُنَّا صائمين، وما إن سار القطار إلا دقائق، حتى غربت الشمس. قلت لزميل لنا قد جاء إلى المحطة ليُوَدِّعنَا: اشترِ لنا نحو ثلاثة كيلوجرامات من الثلج، إن كان يوجد في المحطة، فخرج يلتمس.
نزل الناسك هو الآخر من العربة، ولم يرجع زميلي بالثلج بعدُ حتى جاء الناسك بنحو ثلاثة كيلوجرامات من الثلج، ووضع بين يديَّ، ودموعُ النَّدم ترقرق في عينيه، وألحّ عليَّ أن أقبله، فقلت له: على الرأس والعين، غير أنه كثير، فخُذ ثمنه، فلم يرضَ بقبول ثمنه بصورة أوأخرى.
ثم سار القطار من محطة لكناؤ، وكنت جالسًا على مقعدٍ يتباعد عن مقعده بعضَ التباعد، فنهض من مقعده واقترب مني قائلا: لقد ارتكبت خطيئة كبرى واجلس أنت على ذلك المقعد الذي كنت جلست عليه، فقلت له: إنِّي جالس هنا في راحة وطمأنينة، واجلس أنت على مقعدك دونما تكلف، فلم يرضَ بذلك وقال: إن لم تفعل فلن أجلس، وإنما أظلُّ واقفًا، حتى اضطررت إلى الجلوس في ذلك المقعد، ثم إنَّنا لما استيقنّا بغروب الشمس أفطرنا، وصلينا مع الجماعة في القطار، وظل الناسك وافقًا في أدب ووقار، ريثما صلَّينا بالجماعة، ولم يجلس على مقعده، فلما سلَّمت ألححت عليه بالجلوس، فظل جالسًا في أدب ما دمُنا متشاغلين بالنوافل، ثم تعشَّينا، وبعد قليل كان وقت العشاء فصلينا العشاء مع الجماعة، كما صلينا التراويح عشرين ركعة. جلس الناسك خلال هذه الفترة في أدب وسكينة، كأنَّه معنا في الصلاة.
لم يكن في العربة متسع لينام فيه أحد منَّا، وكانت المقاعد العليا مبسوطة عليها فرُشُ المسافرين الذين ركبوا من ذي قبل، وكان من بينها فراش لذلك الناسك، وقد لجأ المسافرون سواه إلى مضاجعهم، فأشار إلى فراشه قائلا: هذا فراشي فاسترح عليه، فقلت: لا! إنما أنت أحق بالاستراحة عليه، فقال: إن لم تسترح عليه، فلايزال طول الليل خاليًا، فلمّا رأيت منه الجِدَّ والإلحاح، قلت له: خيِّر بين أن أنام عليه أو ينام أحد رفاقي، ففعل. كان من بين رفاقي الأخ نصيرالدين الذي كانت صحته قد انحرفت لحادث مروري، كأنَّما كان دائم المرض، قلت له: استرح على هذا الفراش، فاعتذر إلىَّ أولا، فقلت له: إني آمرك بصفتي أميرًا، فنام عليه.
وكان لنا أن نركب قطارًا آخر في مراد آباد، وقد وصل إليها القطار في نحو الثانية ليلا، فجلعنا ننزل من القطار، وأما الناسك فقد جعل يُوَدِّعنا وَداعَه أعزَّ أقربائه وأحبائه. ولسلوك الناسك أثر عميق في نفسي لحد اليوم.
إن التوجيه القرآني المذكور أعلاه، إن وُفِّقنا نحن المسلمين للعمل به عشنا مثل هذه التجارب كل يوم، وانفتحت لنا أبواب من الدين والدنيا مغلقة. لم يكن الصحابة رضي الله عنهم بارعين في الفلسفة القرآنية كثيرًا، وإنما كان من سعادتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّاهم على القرآن، حتى صار القرآن نفسه حياتهم وظاهرهم وباطنهم.
هذه نماذج لهذه السنة من السيرة النبوية ومن تجارب أحد كبار علماء الهند، فإذا نظرنا إلى واقع حياتنا نجد لها أمثلة لا تُعدُّ ولا تُحصى.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1436 هـ = يناير-فبراير 2015م ، العدد : 4 ، السنة : 39
(*) أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)
sajidqasmideoband@gmail.com