دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله
(المتوفى 1399هـ / 1979م)
ترجمة وتعليق: الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)
حفلة إناطة العمائم بالمتخرجين:
دأبت المدارس العربية على إناطة العمائم بالمتخرجين فيها من قديم الزمان. كما أسلفنا ذلك في أحداث السنوات الأولى من تأسيس «دار العلوم» وصادف عام 1301هـ أحداثاً حَالت دون عقد مثل هذه الحفلات خلال ستة وعشرين عاماً سبق. فعقدت «دارالعلوم» حفلة إناطة العمائم على أوسع نطاق في رحابها هذا العامَ وامتدت على ثلاثة أيام اعتباراً من 6/ربيع الأول، ليتداركوا ما فاتهم في هذه السنوات الطوال. وهذه الحفلة الموسعة يعز مثيلها في تاريخ المدارس الهندية الإسلامية. ويكفيك لتدرك سعة هذه الحفلة أن تعلم أن عدد الحضور من الوافدين لهذه الحفلة تجاوز ثلاثين ألف نسمة، سيل منهمر؛ ولكنه سيل من البشر. فشارك فيها من كافة أنحاء البلاد ومن كافة شرائح المجتمع الإسلامي. وهذا العدد لايضم الوافدين من القصبات والقرى المجاورة لـ«ديوبند»، الذين أتوها مشاةً على أقدامهم. وتقول التقارير الدورية: «يعز مثيل السرور والفرح الذي كان يعلو وجوه المشاركين وما حملوا معهم في قلوبهم من التأثير و المفعول الطيب. فقد اصطبغ الناسُ من علمائهم وأثريائهم والسلطات العليا إلى الفلاحين والسوقة والعمال العاديين بصبغة واحدة. فلاتحدث نفسُ أحدٍ منهم عن فضله على غيره. فمقاعدهم في الحفلة على مستوى واحد، يستفيدون من المواعظ الحسنة التي تُلقى في الحفلة دون تفضيل أحد على غيره، وقد أخذ هذا المنظر الخلاب قلوب جميعهم، هائمين فيه. ونزلت بركات من الله تعالى ورحمات نزولاً واضحاً لم يدع أحدًا-ولوكان بليد الشعور وفاقده- إلا وقد أحسها واستشعر بها.
وكانت الحفلة لها شأن إسلامي عجيب، فالخيم على حافتي البركة جنوب «دارالعلوم» مد البصر، والحضور يقومون صفوفاً طويلة بعضهم وراء بعض، ولهم وهم مصطفون منظر عجيب. وتدوِّي الغابةُ بدوي الذكر والتلاوة. فكل مسرور بما يَلقى من البركة والطمانينة الروحية. ورأى بعض الصلحاء – وفعاليات الحفلة مستمرةٌ على أشدها- أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يصافح حضور الحفلة. وأمثالها من الرؤيا كثيرة رآها الناس قبل انعقاد الحفلة وخلالها».
ومن أبسط كرامة هذه الحفلة على الله تعالى أن هذا المشهد العظيم لم يقع فيه حدثٌ يسوءُ ويُقلق كما يحدث في مثل هذه المشاهد(1). ولا شكا أحد ضياع أمواله أوسرقتها. والوجبات الغذائية متوفرة للناس جميعاً. وقامت «دارالعلوم» بتوفيرها مجاناً.
وأعدفضيلة الشيخ محمد أحمد النانوتوي (1279-1347هـ /1862-1928م)– رئيس «دارالعلوم» حينئذ – في أيام الحفلة خطبة طويلة قيمة عنونها بـ: «ماضي دارالعلوم المجيد، ومستقبلها النير»، تحدث فيها عن نشأتها ونشاطاتها وخدماتها مفصلاً، وقال – وهويقارن بين الموارد والنفقات خلال خمسة وأربعين عاماً-: إن أعجب العجب –الذي يحق لدار العلوم أن تفتخر به- أنها أنفقت مال المسلمين في وجهه، ووضعته في موضعه. وقامت بهذه التكلفة اليسيرة بما لايتحقق في غيرها بإنفاق عشرات أمثالها. ألا ترى أن إجمالي نفقات «دارالعلوم» – بما فيها نفقات إنشاء مبنى المدرسة والمسجد والمكتبة وجوائز الطلاب – يبلغ ثلاث مئة ألف وخمسة آلاف وثلاث مئة وثلاثًا وخمسين روبية هندية خلال أربع وأربعين سنة. فلواستثنينا منها نفقات البناء- وهي ثمانون ألف روبية هندية- وقيمة عشرة آلاف كتاب تقدر بعشرين ألف روبية هندية لم يبق إلا مئتا ألف روبية هندية أنفقتها «دارالعلوم» ولوقسمناها على ألف طالب استفادوا من مختلف البرامج التعليمية والتربوية والتأهيلية التي تديرها «دارالعلوم» لم يتجاوز إجمالي نفقة كل طالب مئتي روبية هندية، سبحان الله، ما أشجع هذه النتائج! حيث أنفقت مئتا روبية هندية فحسب على إعداد عالم ديني متكامل: مدرس ومفتٍ وواعظ وخطيب، يجمع بين علوم المعقول والمنقول. حقاً، إنه نجاح، نجاح، نجاح عظيم. ثم إن هذا المعدل يتضاءل كثيراً ويتقلص حين تلاحظ – بجانب ذلك – أنه لم يتم إعداد ألف عالِم فحسب بهذه النفقة، وإنما أعِدَّ–كذلك – مئة حافظ للقرآن الكريم بالإضافة إلى مئات الطلاب الذين استفادوا من برنامج التجويد وقراءات القرآن الكريم، كما تلقى آلاف من المستفتين والسائلين ردودا مقنعة وشافية على تساءلاتهم واستفتاءاتهم. وبجانب هؤلاء كلهم طلابٌ استفادوا بعض الاستفادة ثم انقطع بهم سبيلها قبل أن يستكملوها. ومئات من سكان مدينة «ديوبند» استفادوا من برنامج الفارسية والرياضي(2).
عام 1328هـ ، وتدشين المطبخ لطلاب دارالعلوم:
أنشئت «دار العلوم» وكانت الوجبات الغذائية لبعض الطلاب الوافدين يتكفلها سكان «ديوبند» فكانوا يكفلون طالبا أو طالبين، كلٌ حسب طاقته و وسعه المادي، بينما كانت «دارالعلوم» تمنح بعض الطلبة منحاً نقدية ينفقونها على الوجبات الغذائية التي يتولون إعدادها بأنفسهم. و هذا الوجه الثاني سبَّبَ لهم حرجا ومشقة. وكانت «دارالعلوم» تدرس منذ مدة غير يسيرة وتشعر بحاجة شديدة ماسة إلى توفير الوجبات الغذائية الجاهزة للطلّاب داخل حرمها. وفعلاً بدأ الناس يقدمون إليها معونات عينية متمثلة في القمح وغيره من المديريات المتاخمة لمدينة «ديوبند». فتم تدشين المطبخ للطلاب اعتباراً من شهر محرم الحرام عام1328هـ. فذلل تدشينه صعوبات الطلاب الذين كانوا يتلقون المنح النقدية من المدرسة، بل استفاد منه الطلاب الذين كانوايتكفلون نفقاتهِم كذلك، حيث تيسرلهم شراء الوجبات الغذائية من المطبخ الذي يوفرها لهم مقابلَ مبلغ يسير وبصورة أحسن على المواعيد المحددة لها.
تدشين قسم الدعوة والإرشاد:
من أبرز أهداف نشأة «دارالعلوم/ ديوبند» الدعوة إلى الإسلام، والذود عن بيضة الدين والدفاع عنه، وقامت «دارالعلوم» بهذه المسؤولية الجسيمة منذ عمرها المبكر، دون أن تتقيد هذه النشاطات بضوابط وقيود تلتزمها. كما أنها كانت منحصرة في الأوساط الإسلامية وبشكل الدعوة الهجومية. وكان أساتذتها وطلابها يقومون بدورهم بذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً. وشهد عام 1325هـ نشاطات استفزازية غيرعادية قامت بها حركة «آريه سماج»(3) فمست الحاجة إلى إنشاء قسم برأسه يقوم بأعباء الدعوة والإرشاد ويوسع نطاقها بما يفي بحاجاتها كما استهدف هذا القسم إعداد كوادر مؤهلة من طلبة الجامعة يقومون في وجه الطاعنين في الإسلام في ساحة المناظرات والمباحثات الدينية بجانب القيام بمسؤولية الدعوة والإرشاد بين المسلمين. وجاء تدشين هذا القسم تحقيقاً لهذه الأهداف كلها، و لتزويد الطلبة بالعلم الكافي بأديان العالم ومذاهبه المختلفة. وعمل في هذا القسم مدة مديدة علماء بارعون في اللغة السنسكريتية.
عام 1329،30هـ وبناء دارالحديث:
كما تمتاز «دارالعلوم ديوبند» بأنها أول مدرسة أقيمت في طول الهند وعرضها بعد ما أفل نجم العلوم فيها، وعلى تبرعات المسلمين الشعبية. كذلك تمتاز بأنها شهد رحابُها أولَ بناية تسمى بـ«دارالحديث». ولا شك أن المدارس كانت متناثرة في الهند في عهدها الإسلامي، وكانت كل ذرة من ترابها مضيئة بنور العلم. ورغم هذه الكثرة الكاثرة من المدارس لم تشهد الهند بناءً يسمى «دارالحديث» من قبلُ. فكان بناء هذه الدار يمثل أول خطة لبناء مبنى يسمى بهذا الاسم.
وعقدت «دارالعلوم ديوبند» حفلةً في20من ربيع الآخر عام 1330هـ لتأسيس «دارالحديث»، حضرها جم غفير من الناس من أنحاء البلاد. وتولى الطلاب حفر الأساس مصرين عليه برغبةٍ وحب عميقين. وقام كل من شيخ الهند محمود حسن الديوبندي (1268-1339هـ/1851-1920م) والشيخ خليل أحمد السهارن فوري(1279-1346هـ/1862-1927م)، والشيخ عبد الرحيم الرائ فوري بوضع حجر الأساس. وقال الشيخ العلامة أشرف علي التهانوي(1280-1362هـ)–المعروف بحكيم الأمة-: لِيَضَع كل واحد منكم طوباً أوطوبين، فلا ندري من يقبل الله تعالى عمله، فتشرف الحضورُ كلهم بذلك.
همم الطلاب المخلصة في تأسيس «دار الحديث»:
والجهود المخلصة والرغبة والحماس التي بذلها وأبداها الطلاب في حفر أساس «دارالحديث» قصةٌ من حياتهم لاتنسى أبد الدهر. فتقول التقارير الدورية لهذا العام: «وضع أساس «دارالحديث» يوم الحفلة التي أقيمت بهذه المناسبة إلا أن إقامة البناء عليه كانت تتطلب شدخ الأحجار فيه، كما بقي عليهم حفر جانب من الأساس. فما إن شرعوا في شدخ الأحجار حتى جاءت ريح عاصف ونزل المطر كأفواه القرب، وبلغت البركة القريبة منها القريَ وطمَّت. وامتلأت أسسها ماءً، فإن هذا الموقع كان جزءاً من البركة تم ملؤها عام 1328هـ، ولم يكن التراب قد استقر وتمكن فانهار، وعاد الأساس وحلاً يسوخ فيه الأقدام. كما خافوا انهيار الأبنية المقامة من قبلُ، بوصول الماء إلى الفصول الدراسية. هذا في جانب، وفي جانب آخر لَقوا جهداً في استقدام العمال وشُحاً في أعدادهم، وذلك وسط سقوط أمطار متواصلةً، فقدوا معها كل أملٍ في نشف الأرض ماءها، فألقوا فيها الدلاء لينزحوا ماءها. فلم يتمكنوا منه إلا قليلاً حتى أمسوا. فشمر الطلاب ذيلهم عن ساقيهم ونشطوا بعد صلاة العصر فنزلوا في الماء وبأيدهم الدلاء فنزحوا ما فيها من الماء، ليُقِلُّوها إلى البركة. فإذا هم بمرحلة عويصة أخرى حيث إن الحفائر عادت وحلاً إلى منتصف قامة المرء. فلاتسأل حينئذ عن جهد المدرسين و الطلبة من ذلك، فقام مئة من الطلاب صفا صفاً يملؤون الدلاء بالوحل وينتشلونها إلى البركة كلمح بالبصر، وهم يرتجزون الأشعار، ويتنافسون فيها، مما زاد حماساً ولذةً. فتوزع الطلاب على فئتين ووزعوا الأعمال بينهما، فقام الطلاب في يومين بما يعزّ أن يقوم به العمال في شهر واحدٍ. كما ساهم الطلاب في شدخ الأحجار مما قد لايفرغ منه البناؤون والعمال في شهرٍ إذا ما استبدوا به وتولوه لوحدهم. فتولى الطلاب نقل الأحجار والأطواب والنورة بجهودهم المضنية التي يسَّرت الفراغَ من هذا العمل خلال أسبوع واحدٍ، وارتفعت القواعد. والحاصل أن هذا البناء المبارك أقيم بأيدي مباركة مثله، وتحققت أمنية الطلاب في حفر الحفائر لدارالحديث مع شيء زائد عليه».
ودُور الحديث التي شهدها العالم الإسلامي في الماضي أقامها الملوك والسلاطين، وامتازت «دارالحديث» هذه بأنها قام بها الشعب الكادح، وظهر للوجود هذا البناء الشامخ بمعوناتهم ومساعداتهم البسيطة.
* * *
الهوامش:
(1) فكان الناس يخرجون من رحالهم وصناديقُ أغراضهم (TRUNK ) مفتوحة لايخافون عليها، ويمر عليها عمال النظافة وغيرها فيقومون بما عليهم خير قيام دون أن يمسوها بسوء.
(2) راجع: ماضي المدرسة الإسلامية العربية ديوبند، المجيد ومستقبلها النيرص 30.
(3) «آريه سماج» (Arya Samaj): حركة تجديدية هندوكية،أنشأها «سوامي ديانند سرسوتي» (Svami Dayananda Sorasvati) (ت1824م/1883م) أحد القساوسة الهندوس، وكان لها زعماء بارزون وعلماء ينطقون بلسانها، وقد كثرت المناظرات بينها وبين خصومها وخاصة علماء الإسلام وكان الصراع على أشده بينهم وبينها. وللاستزادة منه راجع http://en.wikipedia.org/wiki/MainPage.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1436 هـ = يناير-فبراير 2015م ، العدد : 4 ، السنة : 39
(*) أستاذ التفسير والأدب العربي بالجامعة.