دراسات إسلامية
بقلم: الدكتور معراج أحمد معراج الندوي(*)
أنجبت الهند علماء أبطالا ودعاة مصلحين كانوا عباقرة الزمان ونوابغ العصر. وقام هؤلاء العلماء ببطولات مجيدة وخدمات عظيمة. والأثار التي تركها هؤلاء العلماء الأبطال تدل على أمجادهم وخدماتهم الجليلة ومجهوداتهم الجبارة. فإن تاريخهم العملاق الحافل بالكفاح والجهاد ومواقف البطولة والقيادة، يوفر لهم من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة في جميع مضامير الحياة. ومن هذا الطراز من العلماء الأبطال كان محمود حسن الديوبندي الذي خلع عليه الشعب الهندي لقب «شيخ الهند» تقديرا لخدماته الجليلة ومجهوداته الجبارة التي بذل في تحرير الوطن وفي تحقيق الوحدة الإسلامية في الهند وخارجها. من له أدنى إلمام بتأريخ الهند الحديثة ذات الثقافات المتنوعة لا يخفى عليه أن شخصية شيخ الهند كانت متنوعة النواحي لا يوجد لها نظير في تأريخ الهند. فكان أحد القادة السياسيين والمصلحين والأبطال في معركة تحرير الوطن العزيز. وكان من أتباع الشيخ قاسم النانوتوي في التجديد وإصلاح عامة الناس. قد صاحبه ورافقه طويلا فأخذ فكرته ونظريته عن الدين والسياسة وورث منه كراهية الاستعمار الإنجليزي. ولا شك في أن الحرية والاستقلال لهما صلة وثيقة بفطرة الإنسان. ومن أجل ذلك بذل الإسلام منذ ظهوره كل ما لديه من الوسائل في القضاء على العبودية والاستعباد ، وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء الجهاد والحرية ضد العبودية. واجتهد اجتهادا متواصلا في سبيل تحرير الذين كانوا تحت العبودية.
إن تأثير الشيخ محمد قاسم النانوتوي قد أدى دورا فعالا في تكوين شخصية شيخ الهند وتقويم الفكر الجامع على المنهج الصحيح حتى أصبح خليفة له وحمل دعوته وكرس حياته للدعوة الإسلامية وإصلاح المجتمع. قام بمحاولات كثيرة في مجال الدعوة وإصلاح المجتمع وإيقاظ المسلمين من سُباتهم العميق وتوحيد صفوفهم. كان مصلحاً كبيرًا في تأريخ الهند يدعو إلى التربية؛ لأن التربية عنده لها دور كبير في صنع الأفراد وتثقيف الناس وإصلاح المجتمع. وأنه كان يعتقد أن الإصلاح يأتي بالأفراد، فإذا صلح الناس صلح المجتمع بنفسه ، وأن الإصلاح الاجتماعي هو المصدر لكل الإصلاحات مثل الإصلاح الأخلاقي والديني والسياسي. وكان العصر الذي عاش فيه شيخ الهند عصرا مليئا بالأحداث والوقائع مثيرا للخواطر. فلم يكن من شأنه أن يجلس في غرفة الدراسة منعزلا عن الدنيا وعن أحوال المسلمين. وعلى الرغم من حبه للتدريس والإفادة لم يكف عن المساهمة في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني الغاشم لتحرير البلاد. قد اتجه شيخ الهند إلى الإصلاح التربوي والثقافي والديني بعد ما رأى أن العلماء الأبرار والمجاهدين الكبار الذين أسسوا «هذه المدرسة» كمركز لمقاومة الاستعمار البريطاني لإعداد الأفراد ولإنقاذ الوطن من براثن الاستعمار قد ماتوا ولم يبق منهم إلا قليل ممن شاء الله. فبدأ يفكر في بقاء هذه المدرسة، ورأى أن المتخرجين من هذه الجامعة إذا اجتمعوا على مسرح واحد وتبنوا رسالة الجامعة وأفكارها القومية والسياسية والإصلاحية ونشروها في كل ناحية من أنحاء العالم فمن الممكن أن تحقق الجامعة أهدافها المنشودة التي من أجلها قامت. وهي الحفاظ على الحياة الإسلامية ومكافحة تيار الغرب وثقافته. فلا بد أن تكون لهؤلاء المتخرجين جمعية وندوة بواسطتها يتمكنوا من نشر العلوم الإسلامية في العالم كله، وإيقاظ المسلمين والنهوض بهم ضد الاستعمار البريطاني وجمع المسلمين الهنود على منصة واحدة.
ثمرة التربية: بدأ شيخ الهند يفكر في تأسيس جمعية تكون رابطة عظيمة الأهمية فيما بين هؤلاء المتخرجين في الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند، فعبر عما يريد لأصحابه فكل منهم اتفقوا على هذا الرأي ووعدوا أن يبذلوا كل ما في وسعهم في سبيلها. فدخل على أستاذه الشيخ محمد قاسم النانوتوي وأخبره عن فكرته ففرح أستاذه بهذه الفكرة وسمى بنفسه هذه الجمعية «ثمرة التربية» نظرا إلى هذه الأفكار التي كان يريد أن يغرسها في قلوب الطلاب والشبان المتخرجين الذين هم ثمرة لجهوده ومحاولته، كما كان يحلم بذلك منذ ثورة عام 1857م. فهذه الجمعية كانت أول ثمرة أثمرتها الشجرةُ التي غرسها هو. فلم يمض أكثر من أسبوع حتى خرجت جمعية «ثمرة التربية» من حيز التفكير إلى حقيقة الوجود تحت زعامة شيخ الهند وعاونه الشبان المتخرجون من الجامعة كأعضاء وهم ثمانية عشر. ومن الأهداف الهامة لهذه الجمعية هي التعاون المالي للجامعة عند الحاجة والمساهمة في ارتقاءها وتطورها وكذلك إبلاغ رسالتها إلى كل طائفة من السلمين الهنود. ومن الناحية الفكرية هذه الجمعية تهدف إلى إعداد الأفراد لمقاومة الاستعمار البريطاني لتكون تلافيا لثورة عام 1857م(1).
كان شيخ الهند يريد أن يربي المسلمين على دينهم وثقافتهم ويوحدهم في صف واحد. وكان يريد أن يربي هذه الجماعة من المثقفين تربية خاصة ويغرس فيهم روح الدين وحب الجهاد؛ لأنه رأى أن التربية هي الوسيلة الوحيدة للنهضة واليقظة. فملأ شيخ الهند قلوبهم بحب الوطن وحب الجهاد ضد الإنجليز الذين يحكمون وطنهم حكما جائرا ورفع صوته ضد الاستعمار ودعاهم إلى الوعي القومي ومكافحة الظلم والطغيان. وبدأ ينفخ روح الحب للحرية في نفوس الناس؛ ولكن مع الأسف الشديد أن عمر هذه الجمعية كان قصيرا؛ فإنها تفككت سريعا عندما توفي عميدها الشيخ محمد قاسم النانوتوي وانتشر أعضاؤها في مختلف الأماكن واشتغلوا بالمشاغل الأخرى. بدأت جمعية «ثمرة التربية» تضمحل ثم توقفت أخيرا في الهند فيما بعد؛ ولكن نشاطاتها كانت تجري في مناطق السند. ومن المعلوم أن الطلاب من هذه المناطق يقصدون دار العلوم ديوبند للحصول على العلم والتربية ويتأثرون بشيخ الهند وبأفكاره الملية والإسلامية والسياسية تأثيرا كبيرا. وبعد تخرجهم في دار العلوم ديوبند يرجعون إلى مناطقهم ويقومون بإنشاء المدارس والمكاتب والمراكز الإسلامية. وكان لهذه المدارس والمراكز فضل كبير في نشر الدين والدعوة الإسلامية وبقاء الثقافة الإسلامية في هذه المناطق. وإن هؤلاء الشبان المثقفين حاملي رسالة الإسلام ودعوة الحرية انتشروا في كل ناحية من هذه المناطق وبدأوا يدعون الناس إلى دينهم ويوحدون ويوقظون المسلمين وينفخون في قلوبهم روح الدين وحب الوطن وحثوهم على الجهاد ضد الاستعمار البريطاني وقاموا بحركة الجهاد في السند وعلى رأسهم غلام محمد الدين بوري وربطوا صلاتها بشيخ الهند. وعندما تخرج الشيخ عبيد الله السندي رجع إلى وطنه وانضمَّ إلى هذه الحركة حتى أصبحت قوة سياسية في منطقة السند. وله فضل كبير في تحريض الناس على الجهاد فتبلورت فكرة الجهاد ضد العدو المغتصب. وقد اجتمع حوله بعض المخلصين الشجعان الذين لم يعرفوا اليأس والخوف. فامتلأت قلوب الناس بحرارة الإيمان.
جمعية الأنصار: وفي عام 1909م أسس شيخ الهند جمعية أخرى تمثل المتخرجين من دار العلوم ديوبند باسم «جمعية الأنصار» وذلك لمواصلة حركته السرية لتحرير الوطن. وكلف أحد تلاميذه الأبرار الشيخ عبيد الله السندي تنظيم شؤونها. يقول الشيخ عبيد الله السندي في هذا الصدد: «وفي عام 1909م طلبني شيخ الهند إلى ديوبند فأخبرته بكل ما كان يجري من نشاطات المجاهدين في السند، فأمرني أن أقيم معه في ديوبند وأتولى أمور السند منها. هكذا كنت مشغولا في أمور جمعية الأنصار لأربع سنوات تقريبا»(2). وكانت هذه الجمعية لعامة الناس. أراد شيخ الهند أن يعرف بها العلماء الكبار والمسلمين الهنود ويفهمهم حاجتها وأهميتها؛ لأنه كان يعتقد أن جمعية الأنصار خير وسيلة تنهض بالشعب المسلم الهندي وترفعهم إلى مستوى الأمم الناهضة مع الاهتمام بالتعليم الديني. رأى شيخ الهند أن ضعف المسلمين في الدين هو سبب جمودهم وتدهورهم وتخلفهم؛ لأنهم ابتعدوا عن تعاليم الإسلام التي نص عليها القرآن الكريم؛ لأنهم أخذوا اسما واكتفوا به علما ورسما وورثوا عن الآباء والأمهات صور عبادات لا تحرك بصدرهم شيئا من معناها، وأن المسلمين فقدوا الثقة بأنفسهم ولم يوجد لديهم أمل في نهوض بلادهم. فلما تسرب ضعف العقيدة والجهل بالدين إلى صفوف المسلمين على اختلاف طبقاتهم إلا من عصم الله انطفأ مصباح العقل. فلا يعرفون رابطة يرتبطون بها ولا يهتدون إلى حركة أو جامعة يلجأون إليها. ففي هذه الظروف والأحوال أراد شيخ الهندأن يعرف بهذه الجمعية المسلمين عامة والعلماء خاصة؛ لتكون مسرحا وندوة. ولأجل ذلك فكر أن يعقد الجلسة السنوية لدار العلوم التي توقفت منذ سنين لأسباب شتى. ومن الجدير بالذكر أن قائد حركة التحرير الشيخ غلام محمد الدين بوري ومولانا محمد الأمروتي حضرا هذه الجلسة. وقد اتفق كل من حضر على فكرة شيخ الهند وأدركوا الحاجة لتأسيس جمعية. ومن المعلوم أن الشيخ آفتاب خان الذي كان يمثل جامعة عليكره الإسلامية اقترح في خطبته قائلا: «إنه من الواجب على المتخرجين في دار العلوم ديوبند أن يتعلموا اللغة الإنجليزية ويأخذوا العلوم العصرية من جامعة عليكره الإسلامية وكذلك على المتخرجين في جامعة عليكره الإسلامية أن يتعلموا اللغة العربية والعلوم الإسلامية من دار العلوم ديوبند. وبعد ما انتهت الجلسة بنجاح كامل في الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند بدأ ينضم إلى هذه الجمعية كبار العلماء أمثال الشيخ عبد الرحيم الرائي فوري، والمحدث الكبير أحمد حسن ، والعلامة خليل أحمد وغيرهم كثيرون. وسلط عبيد الله السندي الضوء على الأثر الذي ترتب على طلاب دار العلوم ديوبند فأثارت عواطف الحماسة في نفوس الطلاب وبدأوا يلتفون حول لواء جمعية الأنصار ويقتربون إلى شيخ الهند(3). ومن الأغراض السامية لهذه الجمعية إيجادُ جو الحرية في البلاد ضد الاستعمار البريطاني و صنع الأفراد وتربيتهم على الدين والدعوة. فكانت أهدافها عبارة عن دعوة إلى الحرب العسكرية التي كان يحلم بها العلماء السابقون الذين قاموا بتأسيس هذه الجامعة. فكان شيخ الهند يريد أن يحقق ذلك الهدف عن طريق «جمعية الأنصار» وأن يعيد الشعب المسلم إلى الإسلام من جديد ويغرس روح الدين ودعوة الدين وفكرة الحرية في أعضائها. بذلك استطاعوا الحفاظ على الحياة الإسلامية ومكافحة تيار الغرب وثقافته. كما قال تلميذه الرشيد الشيخ حسين أحمد المدني: «قد أسس شيخ الهند «جمعية الأنصار» من أجل إحداث التنسيق فيما بين عامة المسلمين والوصول إليهم برسالة الجامعة النبيلة. فمن أوائل الأعمال التي قام بها شيخ الهند هو توحيد صفوف المسلمين على أساس الكتاب والسنة وإيقاظ الصحوة الإسلامية فيهم»(4). عقدت «جمعية الأنصار» جلستها تحت لوائها خارج حرم الجامعة في مدينة مراد آباد بولاية أترابراديش في شهر أبريل عام 1911م تحت رئاسة المحدث الكبير أحمد حسن فقال في خطبته: «إن جمعية الأنصار هي جمعية جديدة من نوعها. وليست هي جمعية عامة أو منظمة ، ولا تهدف هذه الجمعية إلى تحقيق غرض دنيوي بل منشودها أن تحقق الأهداف السامية التي يقتضيها الزمن»(5). أثارت هذه الجلسة قلقا في الحكومة الإنجليزية وبدأت الحكومة تراقب أعضاءها وتنظر إلى هذه الجمعية نظرة الشك والارتياب. وكانت جمعية الأنصار تهدف إلى تبليغ الدين النقي الطاهر وتعاليم الإسلام السمحة إلى عامة الناس وتدريس الكتب الدينية في مختلف المناطق الهندية وترويج اللغة العربية والثقافة الإسلامية بين المسلمين وعقد الجلسات في كل مدينة من المدن الهندية المختلفة لإيقاظ المسلمين ورفع مستواهم التعليمي، وكذلك كانت تهدف الجمعية إلى تربية خاصة للمتخرجين في دار العلوم ديوبند ليكونوا دعاة ومحتسبين ومجاهدين في سبيل الله. وكما ذكرنا أن شيخ الهند كان يريد أن يوقظ المسلمين ويجمعهم على منصة واحدة. وهنا يبدو من المناسب أن نورد مقتبسات من الخطبة التي ألقاها شيخ الهند في جلستها الأولى في مراد آباد. وهذه الخطبة توضح الأهداف والمقاصد التي لأجلها قامت هذه الجمعية. فقال شيخ الهند: «إن الحاجة التي دعت إلى تأسيس هذه الجمعية هي الآراء الباطلة التي انتشرت في كل ناحية من أنحاء بلادنا ضد الإسلام والمسلمين. فلابد أن نقوم بالرد عليها بدلائل واضحة وبراهين قاطعة في ضوء العلوم الطبيعية والقضاء على الفتن المنتشرة ضد المسلمين وعلى الحركات الهدامة أمثال الآرية و«شدهي كرن». فإن جمعية الأنصار لها أهيمة كبيرة وحاجة ماسة في وقتنا الحاضر. وأعتقد أن العلماء الذين يحملون في جنبهم حمية الإسلام والأخوة الإسلامية يؤيدونها جهد طاقتهم في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي»(6).
الجلسة الثانية: انعقدت الجلسة الثانية تحت لوائها في مدينة «ميروت» واستمرت ثلاثة أيام ورأسها حكيم الأمة أشرف علي التهانوي. ثم انعقدت جلستها الثالثة والرابعة في نفس العام في مدينة «شمله». حضرهما العلماء الكبار أمثال العلامة مرتضى الجاندفوري، والعلامة شبير أحمد العثماني وأحمد حسن وغيرهم. وفي مدة قليلة بدأت «جمعية الأنصار» تحقق أهدافها في إيقاظ المسلمين وتوحيد صفوفهم. وبدأت تظهر الصحوة الإسلامية والوعي القومي في كل مكان، وبدأ المسلمون يعودون إلى الكتاب والسنة والناس يرتبطون بهذه الجمعية ويعتمدون على قيادة العلماء المخلصين. هكذا نفخت جمعية الأنصار روح الإيمان في قلوب المسلمين من جديد فأجرت دماءها في شرايينهم وجددت الثقة بأنفسهم وأشعلت شعلة الجهاد في الشباب المسلم ضد الاستعمار البريطاني. وإن لم تذكر في جلساتها عن الاستعمار البريطاني شيئا؛ ولكن الحكومة الإنجليزية أدركت الخطر وخافت يقظة المسلمين وصحوتهم والرجوع إلى دينهم الحنيف وثقافتهم الإسلامية الطاهرة، وظنت أن المسلمين إذا اتحدوا واجتمعوا على مركز واحد وصفوا صفاً واحدًا فلا يمكن لها أن تحكم هذه البلاد مدة طويلة. فبدأ الحكام الإنجليز ينظرون إلى هذه الجمعية وأعضائها ومنبعها ومخرجها دار العلوم ديوبند نظرة الشك والارتياب. وقد تغيرت الظروف والأحوال لأسباب مختلفة فخاف شيخ الهند وأصحابه على دار العلوم من الحكومة الإنجليزية؛ لأن دارالعلوم كانت مركزا واحدا للمقاومة ومصدرا وحيدا لهذه الحركات والجمعيات. فأوقفوا نشاطاتهم خوفا من إقفال الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند. وعندما زاد الخطر أرسل شيخ الهند تلميذه الرشيد عبيد الله السندي الذي كان رائدا فعالا لهذه الجمعية إلى دلهي.
نظارة المعارف القرآنية: كان شيخ الهند من أوائل الداعين إلى تحقيق عدد كبير من المشروعات الإصلاحية والثقافية والاجتماعية. وله دور مجيد في إصلاح المجتمع الهندي وتثقيف المسلمين. وهو أول متخرج من المدرسة التي قامت للمقاومة ضد الاستعمار البريطاني. والجدير بالذكر أن شيخ الهند قد ربى فئة من تلاميذه من خلال دروسه تر بية خاصة ومنهم الشيخ عبيد الله السندي رائد «جمعيةالأنصار» فلما أوقفت جمعية الأنصار نشاطاتها أرسل شيخ الهند الشيخ عبيد الله السندي إلى دلهي حيث قام بتأسيس مدرسة في مسجد فتحبوري تحت رئاسة النواب وقار الملك والحكيم أجمل خان وسماها بـ«نظارة المعارف القرآنية» التي تهدف إلى نشر تعاليم القرآن في ضوء العلوم الطبيعية مما يطابق أحكام العقل والفكر، والتي تقصد إلى إخراج الشبان المسلمين من براثن المسيحيِّين علما بأن الشبان المسلمين الذين يتعلمون في الكليات الإنجليزية في دهلي يغرس المسيحيون في قلوبهم الشك والارتياب بخصوص إيمانهم ودينهم ويبذرون بذور الإلحاد والكفر في نفوسهم. فكان الشيخ عبيد الله السندي يحاول إزالة هذه الأفكار من الكفر والإلحاد من قلوبهم ويطهرهم ويزكيهم ويغرس في نفوسهم حب الإيمان وحقيقة الإسلام من خلال دروسه في القرآن الكريم. وكان يفسر القرآن في أسلوب جديد. وكان لهذه الدروس أثر بعيد المدى. ورسم الشيخ السندي طريقا جديدا لطلاب الجامعات كي يتطلعوا إلى الآفاق وفهم الحضاراة الحديثة والاستفادة من تطورات الفكر الإنساني والسير مع الزمن. ومما يسترعي النظر هو أن دروسه في تفسير القرآن هي دروس تنبعث من كل كلمة من كلماتها روح المعاصرة والدعوة إلى التحرير والتجديد والبعد عن التقاليد البالية وخلق الامتزاج بين روح الإسلام ومطالب الحياة العصرية. مال الشبان إليه ميلا عظيما؛ لأنهم وجدوا في الإسلام ما يوافق روح العصر. والمدرسة تهدف إلى إيجاد جيل يكون بلونه وعنصره هنديا وبقلبه وعقله إسلاميا تموج نفسه بالعواطف الإسلامية وتتغدى روحه بالثقافة الإسلامية والحضارة الشرقية. كان الشيخ عبيد الله السندي يريد أن يعيد هذا الجيل الجديد من المسلمين إلى الإسلام من جديد فيوقظ فيهم روح القومية والوحدة الإسلامية. ولم تمض على ذلك سنتان إلا بدأت تثمر مجهوداته. وكان الشيخ السندي يدرس القرآن الكريم والسنة النبوية كمصدرين أساسيين للشريعة الإسلامية ويفسر العلوم النقلية في ضوء العلوم العصرية حتى قدم عليه شيخ الهند يوما وقال: «ما دام الإنجليز يحكمون البلاد سيكون من الصعب لك أن تهدي عشرة أو عشرين شخصا بينما يضل الإنجليز ألافا من الناس بالإلحاد والزندقة»(7). وأمره أن يذهب إلى «كابول» لخلق الجو للثورة ضد الاستعمار البريطاني. فذهب الشيخ عبيد الله السندي إلى «كابول» حيث لعب دورا كبيرا في توحيد المسلمين لاستقلال الهند. وفي نهاية المطاف توقفت نظارة المعـارف القرآنية أيضا؛ ولكنها خلفت آثارا بعيدة المدى.
إن شيخ الهند هو أكبر مصلح اجتماعي كرس حياته لإيقاظ المسلمين وتوحيد صفوفهم. فبذل كل ما في وسعه لتحقيق الوحدة الإسلامية من خلال إنشاء عدة جمعيات ومنظمات وحركات إصلاحية واجتماعية وحركة وطنية خاصة حركته «ريشمي رومال» التي لعبت دورا كبيرا في تحقيق الوحدة الإسلامية في الهند وخارجها. وإن حياته كلها مملوءة بالجهد والكفاح في إصلاح المجتمع ولتحقيق الوحدة الإسلامية. وإن شيخ الهند هو سراج منير يضيء الطريق للجيل الحالي واللأجيال القادمة، وحياته كلها درس للرواد في ميدان الكفاح وإصلاح المجتمع وفي مجال تحقيق الوحدة الإسلامية.
* * *
الهوامش:
(1) أسيران ما لطه: سيد محمد مياں ، ص 12.
(2) ذاتي دائري للشيخ عبيد الله السندي ص، 20.
(3) ماهنامه القاسم ، ص 20.
(4) نقش حيات للشيخ حسين أحمد المدني ج 2، ص 137.
(5) علماء هند كا شاندار ماضي: سيد محمد ميان ، ج:5 ص 119.
(6) حضرت شيخ الهند: حيات اور كارنامي : مولانا أسير أدروي، ص 29.
(7) أسيران مالطه : سيد محمد ميان ص 46.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1436 هـ = يناير 2015م ، العدد : 3 ، السنة : 39
(*) الأستاذ المساعد ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا، الهند