دراسات إسلامية
بقلم: د/ عبيد الرحمن طيب(*)
الهند بلاد خصبة. أنجبت عددا كبيرًا من جهابذة العلماء وفطاحل الأدباء الذين أسهموا في نشر العلوم الإسلامية وتطوير اللغة العربية وآدابها على مر العصور ونالوا قبولا واعترافا في العالم الإسلامي والعربي على السواء. ومن هؤلاء النخبة الإمام حسن بن محمد بن حسن الصنعاني اللاهوري (من رجال القرن السابع للهجرة) الذي يُعد كتابه «العباب الزاخر» مرجعا هاما للغة العربية والشيخ علي بن حسام الدين المتقي البرهانفوري (م975هـ) الذي يحظى كتابه «كنز العمال» بشهرة عالمية في علم الحديث والشيخ محمد طاهر الفتني (م986هـ) الذي يعتبر كتابه «مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار» شرحا وافيا للصحاح الستة، والعلامة محب الله بن عبد الشكور الحنفي البهاري المتوفى (1119هـ) الذي لا نظير لكتابه «مسلم الثبوت» في أصول الفقه، والشيخ عبد الحق الدهلوي (958-1052هـ) والإمام شاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) الذي يعتبر كتابه «حجة الله البالغة» أول مصنف في علم أسرار الشريعة عبر العالم. والشيخ أحمد السرهندي (971-1034هـ) قائد الصحوة الإسلامية في الهند، والسيد مرتضى بن محمد البلكرامي الزبيدي (م1205هـ) صاحب «تاج العروس في شرح القاموس» في عشرة مجلدات. ومنهم الشيخ محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ) ومنهم العلامة شبلي النعماني (1274-1332هـ/ 1857-1914م)، صاحب كتاب «سيرة النبي» الذي لانظير له في المكتبات العربية الإسلامية قاطبة. والشيخ حميد الدين الفراهي (1280-1349هـ الموافق 1864-1930م) صاحب «نظام القرآن» ومنه العلامة الشيخ أشرف علي التهانوي (م1362هـ) الذي أثرى المكتبة الإسلامية والعربية بإنتاجاته الثرة وأتى بنحو (910) كتابا ومنها (13) كتابا باللغة العربية(1). ومنهم الشيخ أبوالحسن علي الندوي رحمه الله (1914-1999م) الذي له سمعة كبيرة في العالم العربي والإسلامي وجدير بالذكر كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين». ومنهم الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي (1930-1991م) الذي أغنى المكتبة الإسلامية والعربية بكتاباته القيمة لاغنى عنها لطلاب اللغة العربية والعلوم الإسلامية في شبه القارة الهندية.
كما أن هناك العديد من الشعراء الذين ساهموا مساهمة قيمة ومنهم القاضي عبد المقتدر الكندي الدهلوي (م791هـ) والشيخ أحمد بن محمد التهانيسري (م830هـ) والشيخ غلام علي آزاد البلكرامي (م1285هـ) والشيخ فيض الحسن السهارنبوري (م1304هـ). وعدد كبير لايمكن عدهم وحصرهم.
وفي هذه السلسلة الذهبية يلمع اسم العلامة أنور شاه الكشميري الذي قضى حياته في نشر علوم الدين وترويجه. وتعلم اللغات العربية والأردية والفارسية واكتسب العلوم الإسلامية وتشرب من مناهلها حتى الثمالة فبرع في العلوم الإسلامية واللغة العربية وغيرها وكتب وقرض الشعر بالعربية كما نفع خلقا كبيرًا من علمه وفضله وظهر كأحد أبرز علماء الفقه والحديث والتفسير ولايزال الناس يستفيدون من كتاباته وآرائه وأفكاره.
نبذة عن حياة الشيخ أنور شاه الكشميري:
هو العلامة أنور شاه بن معظم شاه الحسيني الكشميري ويكتب نجله أنظر شاه عن نسبه: الشيخ أنور شاه ابن الشيخ معظم شاه بن شاه عبد الكبير بن شاه عبد الخالق ابن شاه محمد أكبر بن شاه محمد عارف بن شاه عبد ربه بن شاه علي بن شيخ عبد الله بن الشيخ المسعودي النروري الكشميري رحمه الله «ثم يقول: إن الشيخ أنور صدّق وأكد على ذلك وكان لا يحب جر نسبه إلى ما فوق»(2).
ولادته وتعليمه: ولد أنور شاه في بيت جده عن أمه في قرية «دودوان» في 27/من شهر شوال 1292هـ الموافق 16/أكتوبر عام 1875م. وتقع هذه القرية بالقرب من «كوب واره» في وادي «لولاب» في كشمير. كان والده من شيوخ القرية المتدينين وكذلك أمه وهكذا نشأ في بيت من العلم والدين. ولما بلغ الخامسة من عمره بدأ يتعلم قراءة القرآن الكريم على يدي والده وحتى السابع من عمره أنجز تعلم الفارسية ولاحقا قرأ على يدي أبيه بعض الكتب الفارسية الشهيرة مثل كلستان وبوستان وغيرها ثم تعلم اللغة العربية على يد الشيخ غلام محمد رسوني بوره وفي غضون سنتين أكمل دراسة مبادئ النحو والصرف والفقه وأصول الفقه وما إلى ذلك.
ثم رحل إلى «هزاره». وهذه البلدة كانت في تلك الأيام مركزا للعلوم والمعارف يتوجه إليه طلبة العلم من كل أرجاء البلاد فأقام هناك لمدة ثلاث سنوات وهنا سمع حسن سمعة دار العلوم بديوبند وهي بمثابة جامعة الأزهر في الهند فرغب في الاستفادة من ينابيع هذه الدار. وكان الشيخ محمود الحسن رحمه الله يدير هذه المؤسسة ووصل إلى ديوبند عام 08-1307هـ والتحق بها ودرس الكتب الهامة في التفسير والفقه والحديث مثل الصحيح للبخاري، والجامع للترمذي، والسنن لأبي داؤد، والجامع لمسلم، والمؤطا للإمام مالك، والمؤطا للإمام محمد، والنسائي، وابن ماجه، والجلالين، والهداية، والبيضاوي، التصريح، وشرح جغمني، صدرا، وشمس بازغه وغيرها.
ومن أساتذته الشيخ محمود الحسن، والشيخ خليل أحمد، والشيخ إسحاق، والشيخ غلام رسول، كما استفاد من الشيخ عبد الجميل، وبعد التخرج في دارالعلوم بديوبند توجه إلى مدينة كنكوه حيث تلقى الحديث من الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي. وهكذا أكمل دراسته الفارسية والعربية في غضون عشرة أعوام فقط.
وبعد إكمال دراسته وبدعوة من بعض الأحباء والأصدقاء توجه الشيخ أنور إلى دلهي حيث نزل في مسجد سنهري بدلهي القديمة وهنا استقر الرأي لإنشاء مدرسة دينية باسم مدرسة أمينية لعل ذلك نسبة إلى أول مدير لها الشيخ أمين الدين حيث تولى إدارة المدرسة وكان الشيخ أنور رئيسا لهيئة أعضاء الأساتذة وهكذا ظل الشيخ يدرس العلوم الدينية خاصة علم الحديث في هذه المدرسة حتى الثامن من شهر ربيع الأول عام 1319هـ.
وفي هذه السنة لما تلقى نبأ وفاة أمه بادر إلى كشمير وأقام هناك بضعة أيام وفكر في نشر الدين الحنيف وإنارة قلوب المسلمين بنور الإيمان. وكشمير كانت في تلك الأيام مركزا للعقائد الباطلة والأفكار الضالة حيث كانت تعم الزيارات للقبور وتقديم النذر والتوسل إلى الله بأصحاب القبور. وبمشورة وإلحاح من الخواجه عبد الصمد ككرو أحد أغنياء مقاطعة «باره مولا» في وادي كشمير أقام مدرسة دينية باسم «فيض عام» وبدأ يدرس فيها ويخطب ويعظ الناس ويعلمهم الدين إلا أنه أحس بأن البيئة لا تلائم مع ما يريد من الإصلاحات الدينية والتعليمية والأخلاقية وبدأ يشعر بضيق النفس حيث لم يلق آذانا صاغية لدعوته الربانية الخالصة.
وخلال هذه الفترة تمنى الشيخ زيارة الحرمين الشريفين وازداد اشتياقه إليها فترك إدارة المدرسة في أيدي بعض الناس وفي عام 1323هـ توجه للحج وأقام في مكة المكرمة لعدة أسابيع ثم قصد مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زيارة الروضة المطهرة أقام في المدينة وسعد بلقاء العلماء الأفاضل فيها وزار بعض المكتبات وخاصة رأى بعض النوادر من المخطوطات وكذلك التقى بالشيخ حسن الطرابلسي.
وعاد إلى وطنه عام 1323هـ ولم يزل يخدم مدرسة «فيض عام» حتى عام 1326هـ ولكن أهل كشمير لم يقدروا هذا الدر الثمين ولم يعاملوه معاملة حسنة حتى ضاق صدره منها وأعرب عن مشاعره تجاه الشعب الكشميري ويأسه منهم وعقد العزيمة على حياة عزبة وقد ألح أعزاؤه وأقرباؤه على الزواج. وكان يحز في صدره التوطن والإقامة في المدينة المنورقة والهجرة إليها فلم ينفع شيء لصرفه عن همه.
الرحلة إلى دار العلوم بديوبند: وقبل مغادرته إلى الحرمين الشريفين أراد أن يلتقي بأستاذه الشفوق فأتى إليه وأبدى قصده وعزيمته. وكان الشيخ محمود يعرف جيدًا مواهبه العلمية واختصاصه في العلوم الدينية فأشار عليه أن بلاد الهند أحوج إليه من بلاد العرب. فاحتراما وتقديرًا لأستاذه أعاد النظر في رأيه. وخدمةً للدين ونشرًا لتعاليمه قَبِلَ التدريس في دارالعلوم بديوبند. وفوّض إليه أستاذه تدريس مادة الجامع الصحيح لمسلم، والنسائي، وابن ماجه. عندما غادر الشيخ محمود الحسن عيّنه رئيسا لهيئة أعضاء أساتذة دارالعلوم وجعله شيخ الحديث وبعد ذلك بدأ يدرس العلوم الدينية خاصة الحديث حيث ذاع صيته في كل أنحاء الهند وبدأ الطلبة يتوجهون إلى هذه الدار من كل حدب وصوب.
الزواج: كان الشيخ قد عقد العزيمة على أن يقضي حياة عزبة إلا أن أساتذة دارالعلوم خاصة نائب مدير الجامعة الشيخ حبيب الرحمن تقدم باقتراح أمام الأساتذة أنه إذا كنا نريد خدمات الشيخ أنور لمدة طويلة يجب تزويجه هنا في هذه المدينة فرحب كل من الأساتذة بهذا الاقتراح وبعد نقاش طويل جرى بينه وبين الأساتذة رضي الشيخ أنور بالزواج وتم عقده في بيت من السادات في عام 1326هـ وبقي الشيخ مدرسا في دارالعلوم أفاد وأفاض جما غفيرًا من الطلبة وعامة الناس.
مغادرة دارالعلوم: ظهرت فتنة لم يذكرها أي من الباحثين لعلها تمس بحسن سمعة دارالعلوم وعلمائها والأفاضل وتسببت في ترك الشيخ أنور دارالعلوم حيث قدم استقالته في عام 1345هـ وبما أنه كان عالما عبقريا معروفا تفشى نبأ استقالته في أقصى أنحاء البلاد وبدأ يتوجه الوفود إليه يدعونه إلى مناطقهم وديارهم. وجاء وفد من مدينة دابيل بولاية كوجرات فقبل هذه الدعوة ورحل إلى دابيل مع وفد من العلماء المرافقين له. وتحولت هذه المدرسة الخاملة الذكر إلى كلية إسلامية شهيرة بفضل قدومه الميمون وخدمته المخلصة حيث بلغ عدد الطلاب ألف طالب. وبدأت تعد هذه المدرسة من أهم مدارس البلاد وقدم دروسا في الحديث لمدة خمس سنوات منذ عام 1347هـ حتى 1351هـ.
المرض والانتقال إلى جوار رحمة الله: خلال بقائه في دابيل أصيب بداء «البواسير» واشتد المرض ولم يطب له الجو في كوجرات وبدأ يغلب عليه وجع المرض وضعفت قواه إلى أن اضطر إلى ترك كوجرات فأخذ الإجازة وعاد إلى ديوبند وعالجه أشهر الأطباء إلا أنه لم يفق من مرضه وانتقل إلى جوار رحمة ربه في 3/من شهر صفر عام 1352هـ وصلى عليه جم غفير من العلماء والطلبة وعامة الناس. ودفن في حديقة بالقرب من مصلى ديوبند وهكذا نقل الشيخ البنوري: انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى بديوبند ليلة الاثنين، الثالثة من صفر سنة 1352هـ فدفن هذا البحر الخضم في «ديوبند» بالجانب الجنوبي من المصلى»(3).
الأولاد والأحفاد: تزوج الشيخ أنور في وقت متأخر ورُزِقَ خمسة أولاد منهم ثلاثة أولاد ذكور وبنتان وأكبرهم البنت عابدة خاتون وتزوجت ولكنها توفيت عن عمر يناهز 25سنة. والثانية راشدة خاتون ولها أولاد. وأزهر شاه وهو من أهل العلم والفضل ورئيس تحرير مجلة أردية «دارالعلوم» ومحمد أكبر شاه توفي في رائعة شبابه ودفن في مدفن أبيه. والثالث محمد أنظر شاه عالم فاضل يدرس في دارالعلوم بديوبند.
مؤلفاته:
بلغت مؤلفات الشيخ أنور قرابة أربعين مؤلفا ما بين رسالة في عشرين صفحة، وكتاب في عدة مجلدات. وأشهر مؤلفاته المطبوعة – وبعضها طبع أكثر من مرة(4):
- فيض الباري على جامع الترمذي، في أربعة مجلدات كبار.
- العرف الشذي على جامع الترمذي.
- أماليه على سنن أبي داؤد.
- مشكلات القرآن.
- فصل الخطاب في مسألة أم الكتاب (قراءة الفاتحة خلف الإمام).
- خاتمة الخطاب في فاتحة الكتاب بالفارسية.
- نيل الفرقدين في رفع اليدين.
- بسط اليدين لنيل الفرقدين.
- كشف الستر عن مسألة الوتر.
- إكفار الملحدين في ضروريات الدين.
- عقيدة الإسلام بحياة عيسى عليه السلام.
- تحية الإسلام في حياة عيسى عليه السلام.
- التصريح بما تواتر في نزول المسيح.
- خاتم النبيين بالفارسية.
- سهم الغيب في كبد أهل الريب بالفارسية.
- الإتحاف لمذهب الأحناف، حواشٍ وتعليقات هامة على كتاب «آثار السنن» للمحدث النيموي.
آراء العلامة أنور شاه في علم التفسير
قال النبي صلى الله عليه وسلم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (الحديث) ونظرا لفضل القرآن اشتغل العلماء في كل عصر ومصر بقراءة القرآن الكريم وفهمه وتعلمه وتعليمه وهذه سعادة كبرى لا يلقاها إلا من هو ذو حظ عظيم. وكان الشيخ أنور ممن اهتم بكتاب الله العظيم وتدبره وفهم معانيه وتوضيحه وتفسيره وبيان إعجازه وحل مشكلاته قدر استطاعته. فبرع في فهم مفردات القرآن ومعانيها وتراكيبها وأساليبها واستخراج المسائل منه. كما حصل له نظرة عميقة في إعجاز القرآن؛ لكنه كان يعترف بفضل العلماء المفسرين وأسبقيتهم حيث كان يقول عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني والزمخشري: لم يدر إعجاز القرآن إلا الأعرجان أحدهما من زمخشر وثانيهما من جرجان «ثم يبتسم قائلا: أنا ثالثهما»(5). هذا ليس بادعاء ولا تظاهر منه بل حقيقة مبرهنة حيث أنه كان عارفا كبيرا لدقائق القرآن ومعانيه ووجوه الإعجاز ومواقعه.
ولكن للأسف إنه لم يكتب كتابا منفصلا حول الموضوع وترك وراءه كتابا صغيرا «مشكلات القرآن». أو ما احتفظ به طلابه من أفكاره وآرائه خلال الدروس في الحديث وغيره؛ ولكن هذا كافٍ بل أكثر بكثير، ويدل على سعة علمه ودقة نظره وكيفية استنباطاته وفهمه العميق لمعاني القرآن الكريم. إلا أن كثيرا من الناس لا يعرفون مزية الشيخ هذه. وهو معروف في الأوساط العلمية كمحدث وشارح للحديث النبوي. فأوحببت أن أسلط الضوء على هذا الجانب من مساهماته في هذا المقال البسيط.
التفسير بالرأي: هو من القضايا الهامة الذي تناولها العلماء بحثا ودراسة. فما المراد من التفسير بالرأي؟ وعلى أي نوع من التفسير تطلق هذه الكلمة؟ وما مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي حذر فيه: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أسهب الناس في معنى هذا الحديث لدرجة كأنه من الضروري أن يربط كل آية مع حديث بغض النظر عن صحته وزيفه. ونهضت طبقة بإزاء هؤلاء الناس صرفت النظر عن الروايات التفسيرية كلها. وتجاهلت الخلفية التي نزل فيها القرآن الكريم وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أول مخاطبيه. كما أهملت اللغة العربية والقواميس والأساليب اللغوية والأساليب القرآنية وطرق بيانه لشيء أو أشياء مختلفة. وبلغ الأمر إلى درجة أن الناس بدأوا يفسرون كل شيء ويبتدعون لها القصص والحكايات. ويؤولون المعاني فقد قال بعض أهل الرأي إن: الميتة ولحم الخنزير أسماء لبعض الرجال والنساء والعياذ بالله. وفي العصر الحديث تجرأ بعض الناس حتى قالوا: لا حقيقة للملائكة والجن والجنة والنار والحور والغلمان. فكان من الضروري أن يوضح المنهج الصحيح في تفسير القرآن لا مغالاة فيه ولا انحراف عن الطريق المصطفوي. ويقول الشيخ أنور في باب التفسير بالرأي:
أتى المسلمون بشرح وتفسير للقرآن الكريم جيلا بعد جيلا وعصرا بعد عصر بالحقائق والمبادئ التي يعتمد عليها الدين وأركانه وبها يعرف الإسلام حتى أن شخصا لايؤمن بالإسلام ولديه إلمام بسيط بالإسلام قد لا يتصور الإسلام بدونها أي مبادئ الإسلام وأسسه التي تعرف من الدين بدون خلاف ونزاع فإن يتجرأ أحد على تفسير القرآن معرضا عنها فهو جرأة شنيعة قد تبطل إيمانه بالدين الحنيف. فالتفسير الذي يؤثر على الأمر الثابت بالتواتر أو يغير أمر المسلمين المجمع عليه فهو من نوع التفسير بالرأي من أرتكبه دخل النار(6).
ويضيف الشيخ أنور موضحا التفسير بالرأي في أماليه «فيض الباري» فيقول: «إذا كان أهل العلم يبينون معاني ومطالب كتاب الله العزيز وفقا للسياق ومراعاةً لمقتضيات الكلمات التي يراعون فيها مراعاة كاملة لعقائد السلف الصالح فقد لايمنعهم أحد من مثل هذا التفسير. بل في الحقيقة وظيفة أهل العلم في كتاب الله أن يتدبروا مختلف جوانبه ويكشفوا النقاب عن أسراره والدقائق التي هي مخفية عن عامة الناس؛ فإنه لا يدخل في باب التفسير بالرأي بل من مسؤولية الخبراء الذين يستنتجون منه». إلا أنه حذر من عواقب التفسير بالرأي قائلاً: «ولكن معرفة مدلول القرآن معرفة صحيحة تحتاج إلى وسائل ومصادر طبيعية ومن لا يعرف الأقوال التفسيرية للمتقدمين والمتأخرين، ولا يعرف اللغة العربية، ولا يعرف أدبها وأساليب بيانها فإن الشخص الجاهل كهذا إذا يجرؤ على تفسير القرآن الكريم فإنه يستحق النار»(7).
القرآن يشرحه الحديث النبوي: أول شرح للقرآن الكريم هو السيرة النبوية، أعماله وأفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم وحياته وفي حديث أشارت إليه عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن»(8). وكان الشيخ أنور يقول: إنه إذا قام أحد بدراسة القرآن على وجه البصيرة وجد أنه نبع جارٍ صافٍ وهذه الأحاديث تجري منه وتوجد إشارات واضحة في كثير من الأحاديث النبوية إلى ذلك.
وكان يقول أيضا: لا يتضح قصد القرآن إلا بعد الرجوع إلى الحديث أو يجعل الحديث شرحا له وكذلك لا يفهم الحديث إلا إذا تمّ الرجوع إلى الفقه». وكان يشير خلال تدريس الحديث إلى الآيات القرآنية التي وردت الأحاديث في شرحها.
«وقال الشيخ في «فيض الباري» أيضًا: اعلم أن فهم الحديث والاطلاع على أغراض الشارع، مما لا يتيسر إلا بعد علم الفقه – فقه الأئمة المجتهدين في الحديث والسنة – لأنه لا يمكن شرحه بمجرد اللغة، مادام لم يظهر فيه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ومذاهب الأئمة، بل يبقى مغلقا لا يدري وجوهه وطرقه، فإذا انكشف ما ذهب إليه الذاهبون واختاره المختارون، خف عليك أن تختار واحدا من هذه الوجوه.
وهو حال الحديث مع القرآن، ربما يتعذر تحصيل مراده بدون الرجوع إلى الأحاديث، فإذا وردت الأحاديث التي تتعلق به قرب اقتناص غرض الشارع»(9).
إعجاز القرآن الكريم: هو موضوع شيق اهتم به العلماء قديما وحديثا وبذلوا جهودا مشكورة في بيان إعجاز القرآن الكريم فقد كتب أبوعثمان الجاحظ كتابا حول الموضوع ثم أبو عبيد الله الواسطي المعتزلي وقام بشرحه عبد القاهر الجرجاني وأحمد بن الخطابي، والإمام الرازي، وغيرهم من الباحثين قديما وحديثا وتعتبر هذه الكتب معالم في الطريق. والسؤال ما هو إعجاز القرآن؟ وفي أي شيء إعجازه؟ فقد قال العلماء: إنه يوجد في حسن تراكيبه وترتيب كلماته وفصاحته وبلاغته التي أعجز بها العرب كلهم عن أن يأتوا بمثله ولو آية.
وكان الشيخ أنور يقول: إن إعجاز القرآن أوضح لديه من طلوع الشمس في نصف النهار بل أكثر منه إذ قد تغلبه الغيوم.
وكان يعجبه كتاب الشيخ إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفي 885هـ «نظم الدرر في تناسب الآي والسور». ويقول عنه: كل ما يمكن لشخص أن يبذل من مجهودات في باب التفسير فمساعي البقاعي مشكورة منقطعة النظير في هذا الباب. بل كل ما كتبه علماء هذه الأمة حول بلاغة القرآن وإعجازه، يأتي كتاب البقاعي هذا في المرتبة الأولى». وكان يريد أن يطبعه وينشره ولكن المنية لم توافق الأمنية(10).
وقد أوضح الشيخ أنور رأيه عن إعجاز مفردات القرآن فقال: أريد من الإعجاز في باب المفردات أنه يستعصي الأمر على أهل العلم ويختلفون فيه ولا يجدون له حلا مناسبا فيأتي القرآن بكلمة واحدة مناسبة تليق وتناسب ذلك ولا يكون غيرها مناسبا له ولو اجتمع الإنس والجن كلهم على أن يأتوا بغيرها لا يكون أوضح وأفصح في أداء ذلك المعنى المقصود ولا يمكن أن تحل كلمة أخرى مكان كلمة القرآن ويعجز عنها الثقلان.
وفي الحقيقة الناس كلهم لاينجحون في التعبير عن شيء بعبارات طويلة يستعمل القرآن في مثل هذا المكان كلمة واحدة تكون مؤدية للمعنى بصورة وافية وتصبح آية ومثالا للفصاحة والبلاغة. وضرب لها مثالا لكلمة «توفى» هناك كلمات كثيرة رائجة للموت مثل هام، سام، حتف وما إلى ذلك. ولكن القرآن أتى بكلمة «توفى» فإنها تعنى في الأصل تحصيل الحق بكامله. هذا يشير إلى الأمانة والوديعة فالروح والجسم وديعتان وصاحب الحق هو الله القدير فإذا يريد يأخذ حقه ولذا يستخدم كلمة توفى للإماتة مشيرا إلى تلك الحقيقة ويقول لبيد بن ربيعة:
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يومــا أن تـرد الودائع
فالحياة وديعة لله سبحانه تعالى وهو مالك الأجسام والأرواح ويحق له فحسب أن يستوفي حقه ليتوفى الأنفس. وقد استخدم القرآن كلمة التوفي للنوم وهو أيضا نوع من الموت فقد قال: «اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا»(11). وفي مكان آخر يقول: «هُوَ الَّذيْ يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ»(12). وقد استدل غلام أحمد القادياني «يا عيسى إني متوفيك» وادعى نبوته ودحض الشيخ أنور مزاعمه وأباطيله ووضح هذه الكلمة بكل تفصيل بذكر وجوه إعجاز القرآن. وكتب كتابا «عقيدة الإسلام في حياة عيسى عليه السلام»(13).
وقد ناقش الشيخ أنور مفردات القرآن بإطناب ووجوه الإعجاز في مفردات القرآن وقال: إن كلمة قد تكون نكرة غير جارية على الألسن بمفردها إلا أن القرآن استخدمها في مكان أعطاها فصاحة وحسنا وجمالا لا تكون كلمة أخرى في مكانها أفصح منها. وعلى سبيل المثال كلمة ضيزي «يقول القرآن: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى»؟ ثم يقول «تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى»(14) فليست هذه الكلمة أسمى وأرفع معنى مع ما فيها من السلاسة والحلاوة. ولو تستخدم قسمة جائرة أو قسمة ظالمة فلا ترفع تلك المكانة السامية من الفصاحة والبلاغة بل تكون ثقيلة على الآذان.
إعجاز التراكيب: لا يوجد إعجاز القرآن في مفرداته فحسب بل أكثر منه في تراكيبه وجمله التي تؤدي المعاني بأتم وجه يعجز الجن والإنس وقد وضّح الشيخ أنور هذه النقطة في مختلف الأماكن وأذكرها على سبيل المثال ما قال عنه:
استخدم القرآن الكريم أسلوبا في التراكيب (الجمل) التي لا يوجد له نظير ولا يوجد أسلوب أبلغ وأفصح منها للتعبير عن المعاني والحقائق، وعلى سبيل المثال قال تعالى: «جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ»(15) فأولاً يفيد القرآن أن هؤلاء الحمقاء جعلوا لله سبحانه شركاء وهو بريء منهم تماما لا يمكن أن يكون أي مخلوق من الجن والإنس ندا لخالقه. ووضّح بذلك أيضا سفاهة المشركين حيث أورد كلمة «لله» أولاً ثم «شركاء» وفي الأخير «الجن» أي لايجوز أن توضع هذه الكلمات إزاء كلمة «الله». وكان من الممكن أن يقول «وجعلوا الجن شركاء لله» ولكن تقارب الكلمتين المتجانستين: «جعلوا» و«الجن» قد لايحدث نوعا من الإيقاع والتأثير الذي خلقه التركيب الحالي، لن يكون التركيب أفصح من الأول(16).
الإعجاز في مقاصد القرآن: إعجاز القرآن لايقتصر على كلمات مفردة أو تراكيب أو أساليب بل أيضا في بيان مقاصده وغاياته وبهذا الصدد يقول الشيخ أنور: إن إعجاز القرآن يكمن أيضا في توضيح وتبيين مقاصده للناس. ما هي العبر والعظات التي يحملها القرآن وكيف يبين غاية الحياة الدنيا والآخرة؟ وما المقصود من العباد وكيف يمكن لهم حصول السعادة السرمدية؟ فبغاية من الإيجاز والإعجاز يوضح القرآن مقاصد الحياة وغاياتها حتى يتمكن المرء من الاستعداد لها وتضحية نفسه لامتثال أوامره سبحانه وحصول النجاح في الدنيا والآخرة. وقد ذكر الشيخ يوسف البنوري موضحا رأي أستاذه العلامة أنور شاه فيقول: «ثم قال الشيخ (أنور شاه) رحمه الله: ولتكن مقاصد القرآن ما ذكر المبدأ والمعاد وصلاح معاش العباد وفلاح الدنيا ونجاح الآخرة ثم ذكر كلمات الشيخ باللغة الأردية ويضيف قائلا: يعنى إن مقاصد القرآن الحكيم تنبيه العباد إلى أحوال المبدأ والمعاد من الاعتقاد بالإله الصانع القدير المختار خالق الأرض والسموات وما بينهما وبأن له الأسماء الحسنى وبأنه خلق الخلق ولم يكن قبله شيء وبأنه خلق الإنسان فسوّاه وصوّره فأحسن صوره وكرّمه على سائر بريته وأودعه نورا يستطيع به أن يتفرس الأمور ويتوسم الآيات الكونية ويتدبر في نظامها البديع المحكم ومع هذا بعث الرسل وأنزل الكتب لهدايته وأمره بشريعة ودين تكفل لصلاح معاشه ومعاده وما به نجاته في دنياه وآخرته وإن الدنيا متاع الغرور فلا يغرنّ بهاؤها وزهاؤها وماءها ونماءها وارضها وسماءها وطراوتها وطلاوتها وعذوبتها وحلاوتها فإلى الله مرجعكم ومأواكم ولديه حسابكم وإليه إيابكم فتبيد هذه الدنيا وتفنى، ألا إلى الله تصير الأمور – فبين القرآن مراتبها وأحوالها وأوضاعها وأطوارها فقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(17، 18) ونرى هنا كيف بيّن القرآن فلسفة الحياة الدنيا وما فيها وماذا ينبغي أن تكون غاية الحياة.
إعجاز القرآن في بيان الحقائق: من إعجاز القرآن أنه يختار أساليب خاصة لبيان الحقائق مثل ما هو علاقة العبد مع أفعاله وما هو نوعيته وما علاقة ذلك الفعل مع الذات الإلهية؟ فيكشف القرآن القناع عن هذه الأمور لايمكن توضيحُها والتعبير عنها القُوى البشريةَ. ويقول الشيخ أنور: أعني من الحقائق أن يتعظ ويعتبر المخاطبون كما كتبه العلماء في شروح الأسماء الحسنى. فمقاصد القرآن الكريم هي التي تستوعب خلق الإنسان ومعيشته وعاقبته والنجاح والفوز في الدنيا والآخرة. وأعنى من الحقائق: الأمور الغامضة التي لا تدركها العقول والأذهان ويستمر النقاش والجدال حولها على سبيل المثال مسألة «خلق أفعال العباد» فما هو علاقة العبد بالفعل؟ وكيف؟ وما هو علاقة ذلك الفعل بالقدرة الأزلية؟ فالقرآن يختار أسلوبا يفي بالمعنى المطلوب لكن يعجز عنه البشر(19).
الأسلوب القرآني: لايخفى على قارئ القرآن أنه ليس بكتاب عامٍ دُوِّن ورُتب حسب موضوعات وأبواب وفصول بتنسيق خاص. بل هو كلام إلهي؛ فإنه يخاطب الناس ويأتي بأدلة قاطعة ويُجرِي الحوار ويختار أساليب بديعة مقنعة ويذكر أحوال الماضيين وقصصهم للعبرة فلا يستوعب قصة أو حدثا بجميع تفاصيله بل أحيانا يذكر أجزاءً منه بصورة مجملة وأخرى بقدر من التفصيل. وربما تجد أنه يذكر أولاً الأجزاء الأخيرة من قصة وما حدث أولاً يذكره أخيرًا. هذا أسلوب مغاير عن عامة الكتب. ألا إن القرآن موجد أسلوب له وليس بتابع لغيره. ويحمل في أسلوبه هذه الدقائق لا يفهمها إلا من أوتي بذوق لطيف وتفكير صائب وذكاء حاد.
ويقول الشيخ أنور في أساليب القرآن: إن القرآن يتحدث ويستدل بأساليب عامة يستخدمها الناس للتعبير عن ذواتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم؛ فإن الناس يتعودون استخدام الأساليب مثلا الشمس تطلع وتغرب وما إلى ذلك يعنى طلوعها وغروبها حسب ما يعرف الناس ويستدل بما هو معروف لديهم ويخاطبهم حسب مستواهم العلمي لكي يفهموا مقاصد ربهم ويطيعوا ولا يخوض القرآن في مباحث علمية دقيقة Science حتى يلتبس الأمر على الناس وبدأوا يتيهون فيما لايعنيهم.
وقد أوضح الشيخ أنور رأيه بمثال توحيد البارئ تعالى أن الناس عامة يفهمون من الآية «لَوَ كَانَ فَيْهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا»(20) يعني لو كان هناك إلاهين في هذا الكون لفسد نظامه وتعرض للخراب والدمار. ولكن الشيخ يقول: إنه لو كان هناك إله إلا الله سواء كان واحدا أو أكثر لن يبقى نظام هذا العالم وما سار بل الكون كله كان قد أوشك إلى الانهيار والدمار وفي وجهة نظري تدل الآية على المعنى الذي فهمت أنا على إثبات توحيد الله تعالى. وقد ذكرت ذلك في شعر لي:
لو كان إلا الله قــد قام فيها
لقد فسد بالجور يجري لما هنا(21)
الربط بين الآيات: نزّل القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم في غضون 23 سنة تدريجيا. فهل يوجد ربط ونظم بين الآيات والسور؟ وهل آيات القرآن وسورها كلها مرتبطة بعضها مع بعض؟. فيرتأى بعض الناس أنه صحيفة سماوية والبحث عن الربط كهذا بين الآيات والسور أمر لايجدي نفعا. وهناك فئة من العلماء يقول: إن الربط إذا كان يوجد في القرآن فهو طبيعي ولا يجوز رفضه؛ ولكن ربط جميع الآيات والسور بعضها مع بعض أمر غير ضروري. ويقول الشيخ أنور في هذا الصدد:
«لا يبدو في بادئ الأمر أن هناك ربط وتنسيق بين مختلف الآيات القرآنية والسبب أن أذهاننا قاصرة عن فهمها وإدراكها. وأؤمن بأنه توجد علاقات دقيقة وروابط عميقة يعرفها الله بصورة أحسن. ومثال ذلك أن الفقيه المجتهد يمضي في ذكر المسائل الفرعية تحت باب ونفهم أن هذه أجزاء منتشرة ولا علاقة فيما بينها. إلا أنها تكون حسب أسس ومبادئ. وفي وجهة نظري ربط أجزاء آية واحدة بعضها مع بعض أصعب وأهم. ولذا أولى أهمية بربط الآيات العديدة بعضها مع بعض وربط أجزاء آية واحدة بعضها مع بعض مقابل الآيات المتعددة. ومثال ذلك قول الله عز وجل ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾(22) ففي كلمة «يَطْهُرنَ» المقصود انقطاع الدم وفي «تطهرن» انقطاع الدم والاغتسال كليهما»(23).
ويرى الشيخ أنور أن ربط القرآن هو من أكبر إعجازه فيقول: «وجوه إعجاز القرآن كثيرة… بيد أن الذي وقع به التحدي لبلغائهم وخطبائهم ومصاقعهم وشعرائهم إنما هو نظمه البديع بفصاحته وبلاغته وغريب أسلوبه وبراعته فإنهم كانوا أرباب هذا الشأن وأصحاب البيان يعرفون هذا الأمر ذوقا ووجدانا، معرفة وإيقانًا لم يكن عليهم فيه لبسة ولا يدخل عليهم فيه شبهة ولا يتسرب إليهم وسوسة وإليه جنح الجمهور، قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه (انتهى ملخصا)(24).
وكان يقول: «إن إعجاز نظم القرآن عندي أبين من طلوع ذكاء عن مشرقها ليس فيه للشبهة مدخل ومساغ وأما الذكاء فربما يثبته طلوعها ويرى في الأفق قرصها ويكون هو انعكاس قرصها حيث تحقق في الفلسفة الجديدة أنه يتراءَى قرص الشمس قبيل شروقها من أفقها الحقيقي بعدة دقائق. ثم كان الشيخ رحمه الله يمثل هذا تقريبا للأفهام بقدح فيه درهم مثلا وضعه بعيدا عنك بحيث لا يرى فيه الدرهم ثم إذا ملئ ماء يترآى لك الدرهم فيه فيمكن أن يقع الريب في قرص الشمس بيد أن إعجاز نظم التنزيل العزيز يقين لا يقربه شكل وثلج صدر لا يخلطه حيرة ولا وهم اطمأن به القلب وقرت به العين فهو أبين عندي من فلق الصديع وأوضح من شروق ذكاء»(25).
حكمة تكرار الكلمات والمباحث في القرآن: وردت في القرآن الكريم كلمات وجمل متكررة وكذلك المباحث فما المقصود بذلك؟ ولولم يقل أحد: إنه غير فصيح، إلا أن العلماء اختلفوا في حكم وأسرار التكرار. ويرى الشيخ أنور:
«ينطوي التكرار في القرآن على وجه العموم على قدر مشترك وأحيانا على قدر مغاير وقلما يوجد التكرار للتكرار. وأريد بهذا التفصيل أن الكلمات التي وردت مكررة في بادئ ذي بدء فإن كلمة واحدة تعنى حكمة والكلمة الثانية تعني حكمة أخرى. وفي حال موضوع مشترك تكون العلاقة بينهما علاقة المتن والشرح. وأحيانا يراد به التوكيد على شيء كما أن القرآن ذكر الصلاة في تسع مئة مكان وذلك تشديدا على أهميتها ومكانتها في الدين.
لايوجد كل شيء في القرآن: لاشك في أن القرآن آخر كتاب أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. هو كتاب رشد وهداية للبشرية كافة حتى يوم القيامة، ويكتفي القرآن بتوجيه تعليمات قد يكتسب بها إنسان مرضاة ربه إذا عمل بها والحديث النبوي شرح وتفسير له. ولكن يزعم بعض الناس أن كل شيء في القرآن الكريم وهذا تفكير قد أدى إلى أخطاء فادحة وإلى استنتاجات ضالة. وفي هذا الصدد يقول الشيخ أنور: إن هذه النظرية لا تقوم على أساس بل هي مبنية على الجهل ويضرب له مثالا أنه تعالى ربنا لو أنزل القرآن لإظهار معلوماته فلن تكفي كافة الكون لو جعل أوراقا لكتابتها. وقد لا يكفي كتاب واحد لجمع معلومات شخص واحد أمي لو يريد كتابة معلوماته بل يحتاج إلى مجلدات كثيرة. ويقول: إنه لو قبلنا أنه يوجد كل شيء في القرآن؛ فإنه قد يحاول أحد بحث «شروح الوقاية» و«الهداية» و«قصائد مير تقي مير» و«غالب» في القرآن الكريم(26). اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
هناك أمر ثان بالنسبة للقرآن أن الناس يزعمون أن القرآن سهل لدرجة أنه لا يحتاج إلى شيء لفهمه وإفهامه وشرحه وتفسيره ويستدل هؤلاء بالآية القرآنية: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِر﴾(27). فكان الشيخ أنور يرفض مثل هذه الأفكار والآراء بكل قوة. ويقول: إن هؤلاء يخطئون في فهم هذه الآية وهي لا تعني أنه قد يصل كل شخص إلى عمق معاني القرآن ودقائقه بسهولة. وكيف يمكن هذا وقد عجز العلماء الأفذاذ عن إدراكها. ومفهوم التسهيل أنه وفرت أسباب لكل من يريد أن يهتدي به ويشفي منه. ومعنى ذلك أن القرآن ذكر بصراحة الأمور التي يحبها الله عز وجل (الأوامر) والأمور التي يكرهها (النواهي) فقد يعرف رجل عادي أوامره ونواهيه سبحانه تعالى بدون صعوبة. أما معاني القرآن الدقيقة ومختلف جوانبه العميقة والحقائق الخفية التي يهدي إليها القرآن فإنه يصعب عليه إدراكها. وقد تحير فيها جهابذة العلماء لهذا الميدان وعجزوا عن إدراك كنه معانيه وأسراره ورموزه. فكيف يمكن لرجل عادي أن يدركه(28).
الناسخ والمنسوخ: كم جزءا من القرآن ناسخا وكم منسوخا منه؟ هذا أمر قد تناوله العلماء بحثا ودراسة في الماضي والحاضر أيضا. وبلغ عدده إلى خمس مئة عند البعض ولكن الشيخ جلال الدين السيوطي يقول هناك 20 آية فحسب نسخ حكمها وأما الشاه ولي الله الدهلوي فقد أقر بخمس آيات فحسب إلا أن الشيخ أنور يقول: «لا يوجد في المنسوخ من الآيات القرآنية شيء يبقى حكمه في درجة من الدرجات. فإن الحكم المنسوخ يتم العمل به في مكان وزمان وفي حال من الأحوال. ويكن نافعا ومؤثرا وجالبا للنفع. وأؤمن بأنه ليس هناك حرف زائد في القرآن الكريم وعلى سبيل المثال «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لَهُمْ»(29) وعامة قال الناس أن «ما» زائدة، ولكنه ليست بزائدة فإن الله قد منّ على مخلوقه فبعث محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وجعله لينا شفوقا. ويوضح هذا الحرف تلك النعمة الكبرى على الإنسانية ولو نتجاهل حرف «ما» فلن يتضح عظيم نعمته عزوجل. ولذا أرى أنه ليس شيء منسوخ في القرآن الكريم»(30).
هذا أمر قد أعجبني كثيرًا إذا أرى أن القرآن نزل لهداية البشرية كافة وإلى يوم القيامة. وكل منا يؤمن بآياته ويتلوها. فالتلاوة ليست بمنسوخة بإجماع الأمة وأما أحكامها ففيها خلاف؛ ولكن حسب وجهة نظر الشيخ قد يعمل بحكم آية في زمان ومكان وأحوال حيث يحتاج الإنسانية إلى ذلك. وقد يؤذن للناس بعدم العمل بها في أوقات وظروف ما. كما فعل عمر رضي الله عنه حين عمت المجاعة فألغى قطع يد السارق لوقت ولكن هذا الحكم باق. وهكذا تأليف قلوب المسلمين الجدد فألغى عمر هذا التأليف ولكن اليوم في مختلف أنحاء العالم نحتاج إلى مديد العون إلى الإخوة المسلمين الجدد عملا بهذه الآية الكريمة.
هذا غيض من فيض وإلا فهناك كثير وكثير. وخلاصة القول: أن العلامة الشيخ أنور الكشميري من أجل علماء الهند أسدى خدمات جليلة تجاه الأمة الإسلامية حيث قام بأداء فريضة التدريس نحو ثلاثين سنة وأفاد ونفع جما غفيرا من الطلبة وربى ودرب ألوفا منهم. كما برع في اللغة الفارسية والعربية وقرض الشعر بالعربية واشتغل بالعلوم الإسلامية مثل التفسير والحديث والفقه وما إلى ذلك ونَوّر العالم بفيوض علمه وبركاته وترك لنا تراثا علميا سيكون أسوة وقدوة للأجيال القادمة وصدقة جارية في حق صاحبه (إن شاء الله).
* * *
الهوامش:
- المسلمون في الهند للشيخ أبي الحسن علي الندوي ص:35.
- نقش دوام للشيخ أنظر شاه، ص:20.
- نفحة العنبر/ محمد يوسف البنوري ص:18-19، ونزهة الخواطر، ص:91/ج8، ونقش دوام/ أنظر شاه، ص: 51-55 إلا أن هناك خطأ مطبعيًا في كتاب البنوري فطبع 1353هـ والصحيح ما ذكرت أعلاه.
- نفحة العنبر في حياة إمام العصر الشيخ أنور: محمد يوسف بن السيد محمد زكريا البنوري، طبع في معهد الأنور، شارع العلامة أنور شاه الكشميري، قرب المصلى بديوبند، الهند (الطبعة الرابعة، تاريخ الطباعة غير مذكور).
- نقش دوام لأنظر شاه، ص:334.
- نقش دوام للشيخ أنظر شاه مسعودي، ص: 342.
- نفس المرجع، ص: 343.
- الجامع الصحيح لمسلم، كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الليل، ج1، ص245-246 (اعتقاد ببلشنك هاؤس، نيو دلهي).
- نفحة العنبر للشيخ يوسف البنوري، ص: 75.
- نقش دوام: أنظر شاه مسعودي، ص: 347.
- سورة الزمر: 42.
- سورة الأنعام: 60.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 350.
- سورة النجم: 22.
- سورة الأنعام: 100.
- نقش دوام لنظر شاه، ص 354.
- سورة الحديد: 20.
- مشكلات القرآن للعلامة أنور شاه، حققه الشيخ يوسف البنوري، ص: 106-107.
- نقش دوام: أنظر شاه مسعودي، ص: 354-355.
- سورة الأنبياء: 22.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 355.
- سورة البقرة: 222.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 359-360.
- مشكلات القرآن/ يتيمة البيان، ص: 81.
- مشكلات القرآن/ يتيمة البيان، ص: 82-83.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 337.
- سورة القمر: 17.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 337.
- سورة آل عمران: 159.
- نقش دوام لأنظر شاه، ص: 361.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم
- البخاري: الجامع الصحيح، اعتقاد ببلشنك هاؤس، نيو دلهي.
- مسلم: الجامع الصحيح، اعتقاد ببلشنك هاؤس، نيو دلهي.
- الكشميري، أنظر شاه مسعودي: نقش دوام، المطبع: شاه أكاديمي، ديوبند، ولاية أترابراديش (الهند) الطبعة الثانية 1996م.
- البنوري، الشيخ محمد يوسف: تحفة العنبر، طبع في معهد الأنور، شارع العلامة أنور شاه الكشميري، قرب المصلى، بديوبند، أترابراديش (الهند) الطبعة الرابعة (عام الطباعة غير مذكور).
- الكشميري، العلامة مولانا محمد أنور شاه: مشكلات القرآن، (وقام بتحقيقه: مولانا محمد يوسف البنوري) طبع في مطبعة علمي بريس (ماليكاؤن)، الطبعة الثانية، (عام الطباعة غير مذكور).
- السيوطي، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبوبكر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، طبع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الأمانة العامة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
- الندوي، الدكتور محمد مظفر حسين: أماثل كشمير: الناشر: بيت الحكمة الندوية، شاه حمدان كالوني، عيدكاه، سري نكر، 190002، كشمير، سنة 2004م.
- الحسني، العلامة الشريف عبد الحي بن فخر الدين: نزهة الخواطر، ج8، ص: 90-94، مكتبة دار عرفات، دائرة الشيخ علم الله، رائ بريلي، الهند، عام 1993م الموافق 1413هـ.
- الندوي، أبو الحسن علي: المسلمون في الهند، دار ابن كثير، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1999م.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1436 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2014م ، العدد : 1-2 ، السنة : 39
(*) الأستاذ المساعد، بمركز الدراسات العربية والإفريقية، كلية اللغات، جامعة جواهر لال نهرو – نيو دلهي.