دراسات إسلامية
إعداد: أسامة نور القاسمي(*)
الإسلام والإرهاب
- حين يُعرِّف الكتاب والصحفيّون «الإرهاب» يربطونه بالظلم والعدوان والإجرام والوحشية، والإسلامُ أبعد شيء عنه؛ لكن المشكلة أن كلمة «الإرهاب» في استعمالها الحديث صارت كلمة غامضة ولم يتفق الناس حتى الآن على معنى محدد لها، ونودّ أن نورد ههنا تعريفات للإرهاب وسنناقشها، ونجلي من خلالها فضل المفهوم الإسلامي للإرهاب مقابل هذه التعريفات الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
- تعريف الإرهاب.
- تقول جماعة أمريكية معنيّة بدراسة الإرهاب: إن الإرهاب بطبيعته أمر يصعب تعريفه، حتى إن حكومة الولايات المتحدة لم تستطع لحد كتابة هذه السطور أن تتفق على تعريف مستقل واحد. فالمثل السائر يقول: إن الإرهابي عند شخص هو مناضل من أجل الحرية عند شخص آخر.
- كما قيل في تعريفه: هو استعمال العنف، أو التهديد باستعمال العنف، من أجل إحداث جوّ من الذعر بين أناس معينين، يستهدف العنفُ الإرهابيُ مجموعات دينية، أو حكومات، أو أحزاب سياسية، أو شركات أو حكومة أو مؤسسات إعلامية.
- أما الكونغرس الأمريكي فيُعَرِّف الإرهابَ بأنه: «عنف واقع عن قصد وتَرَوٍّ وبدوافع سياسية تَسْتَهْدِفُ به منظمات وطنية أو عملاء سِرِّيُّون جماعةً غير محاربة، يُقْصَدُ منه في الغالب التأثير على مستمعين أو مشاهدين.
- وأما وكالة التحقيقات الفيدرالية فتقول: هو استعمال التهديد باستعمال غير مشروع للعنف ضد أشخاص أو ممتلكات لتخويف أو إجبار حكومة أو المدنيين كلهم أو بعضهم لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية.
- في هذه التعريفات كلها خلل أساسيّ هو نسيانها أو تناسيها للمعنى اللغوي الأصلي للكلمة وهـو معنى تتفق عليه الكلمتان الإنجليزية والعربية.
- فكلمة الإرهاب تعني استعمال العنف لتحقيق أغراض سياسية، فالإرهاب إذن قد يكون أمرًا مشروعًا ومحمودًا، ضد قوات الاحتلال، فهناك آراء رصينة سديدة تقول: إن حركة المقاومة بدأت حملةً من العنف، وبهذا المعنى المحمود المشروع اسْتُعْمِلَت الكلمةُ في القرآن الكريم، قال تعالى:
- ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اَللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأنفال: 60)
- فكلمة الإرهاب هي إذن ككلمات القتال والحرب قد تدل على معنى محمود كما قد تدل على معنى مذموم بحسب نوع الإرهاب أو القتل أو الحرب. وعليه فلكي تؤدي المعنى المذموم الذي يراد لها أن تؤديـه في الاستعمال الذي بـدأ يشيع الآن، لابد من تقييدها بوصف مثل العدواني أو الظالم. هذا أمر لازم ولاسيما للمسلمين. إنه لايجوز أبدًا أن نحصر كلمة الإرهاب في المعنى المذموم ما دام كتاب ربنا قد دل على أنها يمكن أن تُسْتَعْمَل بمعنى محمود.
- لذلك يجب أن نقيد المعنى المذموم للإرهاب بأنه الإرهاب العدواني. وبذلك سيكون معناه الأساسيّ واضحًا. أما الزيادات التي تجعل التعريف اصطلاحيًّا فيبدو أنه ليس من الصعب الاتفاق عليها، ولاسيما إذا قلنا كما يقول بعض دارسي الإرهاب في الولايات المتحدة: إن التعريفات الاصطلاحية تختلف باختلاف الغاية منها، فتعريف الكونغريس الأمريكي يقصد منه إحصاء العمليات الإرهابية في العالم، وتعريف وكالة الاستخبارات يقصد منه تتبع المعتدين على الولايات المتحدة. نعم سيبقى هنالك اختلاف فيما يُعَدُّ مشروعًا وما لا يُعَدُّ؛ لكن هذا أمر يرجع إلى ثقافات الناس وأديانهم وفلسفاتهم، وهي أمور يمكن أن يدور فيها حوار عقلاني راشد، فمهمتنا إذن باعتبارنا مسلمين أن نبين للعالم ما الذي نَعُدُّ إرهابًا عدوانيًّا، وكيف نقي الناس شر هذا الإرهاب.
- العلاج الإسلامي لمشكلة الإرهاب.
- فنقول وبالله التوفيق: إن الإسلام هو أبعد شيء عن إرهاب الناس وترويعهم وقتلهم، إنه حين يفعل ذلك ببعضهم إنما يفعله ردًّا على عدوانهم أو إيقافًا له أو عقابًا على جرم ارتكبوه، وأن هذا الدين لا يكتفي بإدانة الإرهاب العدواني؛ بل يتعدى ذلك إلى وضع وسائل لعلاجه، فهو يعالجه علاجاً نفسيًّا علميًّا، وعلاجًا تنظيميًا، وعلاجًا عقابيًّا، وعلاجًا إصلاحيًا.
- العلاج النفسي العلمي هو العلاج الأساسيّ. وذلك لأن أعمال الناس خيرها وشرّها إنما مبعثها تصوراتهم ومعتقداتهم وعلومهم، فالإسلام يعالج كل أنواع الظلم البشري بهداية الناس إلى الإيمان بالله الذي هو أساس كل خير فيها، والذي هو أهم مكون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإذا ما خالطت النفسَ حلاوةُ الإيمان سهل عليها العمل بالطاعات واجتناب المنهيات والتقيّد بالأوامر والنواهي كلها. ثم تأتي العبادات التي هي أقوى داعم للإيمان، وأهمها الصلاة ﴿إِنَّ الصَّلٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّٰهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت:45).
- فإذا ما تَهَيَّأَ القلب لاستقبال أوامر الله ونواهيه والهدي الإلٰهي المُتَمَثِّل في هذه الأوامر والنواهي الشاملة لكل شأن من شؤون الحياة الإنسانية بما في ذلك شأن الإرهاب والقتال، فنحن مأمورون بأن يكون جهادنا خالصًا لإعلاء كلمة الله تعالى، وأن يكون ذلك في حدود القيم الرفيعة التي يحبها الله، وأن لا يتجاوزها إلى الوقوع فيما لا يرضى الله من الظلم والبغي، واتّباع الهوى والانتقام للنفس؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
- فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلآ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة:2)
- مما قاله الإمام «ابن كثير» في تفسير هذه الآية «أي ولا يحملنكم بعض من كانوا صدّوكم عن المسجد الحرام – وذلك عام الحديبية – على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصّوا منهم ظلمًا وعدواناً، بل اُحكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد… فإن العدل واجب على كل أحد في كل حال.
- وهذا الموقف الإسلامي الجميل الطيب الداعي إلى العدل وإلى عدم العدوان ليس موقفًا مُوَقَّتًا وإنما هو موقف أصيل دائم نابع من أصل الدين وطبيعته. وذلك.
- أولاً: لأن هذا الدين إنما هو دعوة إلى تعريف الناس بربهم وهدايتهم إلى عبادته، وأن يعيشوا بهذه العبادة سعداء في هذه الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
- ثانيًا: لكن الاهتداء الحقيقي أمر قلبي لا يجدي معه ترويع أو تهديد بإلحاق أذى أو بقتل، وإنما الذي يجدي معه أن يُعْرَف الحق الذي جاء به الرسول – ﷺ – معرفة يستيقنها القلبُ.
- ثالثًا: ولذلك كانت المهمة الأولى لرسل الله جميعًا – بدءًا من سيدنا آدم – عليه السلام – وانتهاءً بسيد الرسل نبينا محمد – ﷺ – ومهمة أتباعهم الراشدين من بعدهم هي تبليغ هذا الحق تبليغًا بيّنًا، والمجادلة عنه بالحجج والبراهين التي تُفَنِّدُ كل شبهة تثار حوله، وعليه كان الجهاد الأول والدائم هو الجهاد بالقرآن، قال تعالى: « وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا» (الفرقان/52).
- رابعًا: ولهذا كان للمتسبب في هداية إنسان إلى هذا الحق أجر عظيم دونه أجر قتله حتى حين يكون القتل مشـروعًا، روى البخاري رحمه الله من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «قال النبي – ﷺ – يوم خيبر لَأُعْطِيَنَّ الرايةَ غدًا رجلاً يُفْتَح على يديه، يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، فبات الناس ليلتهم أيّهم يُعْطَىٰ، فغدوا كلهم يرجوه فقال: أين عليّ؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه. فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي بك رجلاً خيرلك من أن يكون لك حمر النعم» (رواه البخاري في الجمعة باب الطيب للجمعة [3009] ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل علي [6377] باختصار).
- قال ابن حجر في «فتح الباري» مُعَلِّقا على هذا الحديث: يؤخذ منه أن تأليف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله.
- خامسًا: وبما أن حال المسلم حال أدعى إلى الاستماع والنظر والتفكر في الإسلام الذي يكون هو بصدد عرضه على من لم يسلم، فيجب عليه أن يفضل السلم على الحرب لحدّ مستطاع؛ فإنها مُفَضَّلَة في الإسلام على حال الحرب. قال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله» (الأنفال/61).
- وسمى الله تعالى صلح الحديبية فتحًا. فأي فتح كان؟ يجيبنا «الزهري» بقوله: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضًا التقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة، إلاّ دَخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
- قال ابن حجر مؤيدًا الزهري: «فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام، وكانوا قبل ذلك لايتكلمون عندهم بذلك إلا خفية».
- وقال ابن هشام أيضًا مُؤَيِّدًا للزهري: «ويدل عليه أنه – صلى الله عليه وسلم – خرج في الحديبية في ألف وأربع مائة ثم خرج بعد سنيتن إلى فتح مكة في عشرة آلاف».
- نستخلص من كلام هؤلاء العلماء الثلاثة أن الفتح تمثل أساسًا في كثرة عدد من دخلوا في الإسلام بسبب الصلح.
- قد يسأل سائل: إذا كان السلم والصلح والموادعة هي خيار الإسلام فلماذا إذن يدعو إلى إعداد القوة الحربية، ولماذا إذن يدعو للجهاد القتالي، ويجعل للمجاهدين تلك الدرجات العالية التي نعرفها؟ الجواب يسير: إن الله تعالى الذي خلق الخلق يعلم أن بعضهم لا يكتفي بالكفر بالحق؛ بل إنه ليكرهه ويكره المستمسكين به ويبذل أقصى ما في وسعه لعدم انتشاره؛ فلابدّ للحق إذن من قوة مادية تحميه وتحمي المستمسكين به من مثل هذا العدوان. فالجهاد إنما شُرِعَ لمحاربة المعتدين؛ بل وحتى لمحاربة البغاة من المسلمين.
- ولكن الإسلام يضع حتى لمثل هذا القتال المشروع من الضوابط الخلقية مالم يصل ولن يصل إليه الفكر الغربي بما يسميه بـ«الحرب العادلة» رغم أقاويله الصارخة ودعاويه العريضة ودعاياته الجوفاء المكثفة. ومن تلك الضوابط الأمر بالعدل حتى مع الأعداء وعدم العدوان عليهم. وأنهم لا يُقَاتَلُون أو يُقْتَلُون بسبب كفرهم بل بسبب عدوان المعتدي منهم على الدين الحق أو على المستمسكين به.
* * *
(*) المتخرج من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1436 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2014م ، العدد : 1-2 ، السنة : 39