إشراقة

يمكن أن يكون هناك كثيرٌ من الأشياء في حياتك لم تتمكّن أنت لسبب أو آخر من القيام بها مطلقًا، أو قمتَ بها على غير ما رُمْتَ، أو قمتَ بها وقد فاتك وقتُها، فما جَنَيْتَ منها الفائدةَ التي رجوتَها من ورائها؛ فلَحِقَك الأسفُ والندمُ، وربما صرتَ عبارة عن ركام من الأشياء التي فعلتَ أو لم تفعل في الماضي، فصرتَ أسيرَ الأسف والندم و رهينَ الهمّ، وأصبح الهم والأسف والندم يُسَيْطِر عليك، ويعوقك عن التخطيط والعمل للحاضر والمستقبل، فذلك يعني أنك صرتَ مُسْتَعْبَدًا بيد الحالة السلبيّة التي كَبَّلَتْك باليأس والإحباط، والهزيمة الداخلية، والتحطّم النفسي.

       وعندها يجب عليك أوّلاً وقبل كل شيء أن تتخلّص من هذه الحالة كليًّا، وأن تَصُدَّ عن التفاعل معها دونما تأجيل؛ لأنها ستعوقك عن القيام بأي شيء؛ بل عن مُجَرَّد التفكير فيه. إن المصاب باليأس والإحباط يقبع في مكانه قاطعًا كلَّ خيط من الأمل، فتُظْلِم عليه الدنيا بحيث لا يبصر بصيصًا من الأمل؛ فهي حالة خِطِرَة جدًّا؛ بل يصحّ أن تُصَنَّف «قاتلة».

       على الإنسان – لكي يعيش الحياةَ ويتعامل مع قضاياها بنجاح – أن يقوم كلَّ ليلة بعمليّة تطهير لقلبه من كل ما تَسَرَّب إليه من الأسف والندم على ما فاته من عمل مهمّ؛ لأنه كما يحتاج كلَّ يوم إلى الاغتسال، للتخلّص من الأشياء القذرة، كذلك يحتاج قلبُه للتطهير اليومي من جميع المعاني والكيفيات السلبيّة، بما فيها الأسفُ والندمُ والهمُّ الذي يعنى فقط دنياه الفانية. إنّه يُمْضِي اليوم من الصباح إلى المساء وربما يحدث أنه قد أُسِيءَ إليه، أو أصابه ضرر، أو غُمِطَ حقُّه، أو واجه من نَسِيَ قدرَه، ومن تجاهله، ومن رفضه ولم يقبله، وقد كان جديرًا بالتقدير والاحترام وإعارة الاهتمام، فإذا اختار أن ينسى هذه الأمور كلها قبل أن يتوجّه إلى  الفراش لينام، فقد اختار تطهير قلبه وتنظيف نفسه من الأكدار التي كانت لتُنَغِّض عليه النوم، وتسلبه الهدوءَ الذي يساعده على أن ينام مِلْءَ الْجَفْن ويستيقظ في الصباح التالي منتعشًا خاليًا من السلبيّة، مندفعًا إلى الإقدام على ما يُحَقِّق له كلَّ ربح في الدنيا والآخرة، وعلى ما يُسْعِد المجتمع ويَخْدِم الإنسان، ويُصْلِح الكون.

       كثيرًا ما تُوَاجِه المُنَغِّصَات والمكاره وما يدعوك للحزن والأسف والندم، وقليلاً ما تَحْظَى بالمسَرَّات وبما تحبه وتشتهيه؛ فلو استجبتَ لدواعي الحزن والكُرْه والندم والتنغص، صَعُبَ عليك العيش ومواجهةُ قضاياه التي تتتابع وتتكاثر بحيث لن يُحْصِيها عادّ، ولن يُتَاح لك أن تصنع شيئًا أو تَهُمَّ به؛ لأن هذه الدواعي تشلّ الفكرَ، وتسلب قوة الإرادة، وتصيب الإنسان بهزيمة داخليّة، وتجعله يعتقد أنه لا ينفعه عمل ولا تُجْدِيه خطوة على طريق الحياة؛ فالأحسنُ أن يمتنع عن كل عمل وتحرّك في ساحة الحياة.

       والإنسانُ المُوَفَّق السعيدُ من يواجه السلبيّات والهزائم كلَّها بدون أن ينهزم داخليًّا؛ بل يظلّ رغم الهزائم والمُثَبِّطات كلهامتفائلاً رصيدُه الأمل، و وسيلتُه العمل، ومنهجُ حياته الثابت الثقة بالذات، والتوكّل على الله، الذي هو أصل رأس المال، الذي لا يُسْرَق ولا يُسْلَب، ولا يُخْتَلَس ولا يُنْهَب، ولا يَنْفَد على كثرة الإنفاق.

       وهذا الإنسان هو الذي يصنع من الهزائم انتصارات تغبطها جميع الانتصارات الماديّة في هذه الحياة، ويتغلّب دائمًا على المكاره والمُثَبِّطات، ولا تفتّ في عضده دواعي الحزن والأسف والندم، مهما كانت وطأتُها شديدة، وضرباتها قاتلة، وعواصفها هوجاء. كن هذا الإنسان الذي يسمو على الهزائم، ولا يلتفت لأي حالة سلبيّة، والخيارُ الوحيد بل السلاحُ الأمضى الوحيد لديه هو الابتسامة العريضة في وجه المصائب والمشكلات التي أتت لتعترض طريقَه بالألم والأسف والندم الطويل.

       تَخَلَّصْ من الفِخَاخ العاطفيّة الموجودة لدى صغار النفس من الناس، حتى تفكر دائمًا في العمل والسعي والبناء والخيارات الإيجابيّة، وفي القفز على الموانع والعوائق بجرأة كبيرة من خلال إجراء تغييرات لازمة، عندما تشعر أن الحيل التي جَرَّبْتَها لا تعمل بل تعطلت. اِسْأَلْ نفسك دائمًا: ما الشيء الذي مازلتُ أُرَكِّز عليه وهو لا يعمل؟. وذلك لأنّ جزءًا كبيرًا من حياتك ما هو إلاّ نتيجة ما اخترتَ التركيزَ عليه. فإذا كنتَ قد تَوَصَّلْتَ من خلال تجربتك المتصلة أن هناك شيئًا لا تحبه؛ لأنه قد تعطّل وعاد لا يعمل؛ فقد حان الوقت للاختيار بشكل مختلف عن الذي عِشْتَه. ويجب أن لا تخاف التخلي عن أساليبك القديمة دونما تأجيل، والبدء من جديد اليوم والآن، أي في وقتك الذي أنت فيه الآن. إنها فرصة جديدة ثمينة لبناء ما تريد بناءه، بالعزم الذي تعقده، والتخطيط الذي تقوم به، والعمل المتصل الكثيف الذي لا تتركه مهما كان المانع شديدًا والعائق سميكاً.

       المرأ الذي يُلَبِّي دواعي الأسف والندم والتثبيط هو النوع الذي لايريد أن يقبل التغييرات، وإنمايُصِرُّ دائمًا على التركيز على ما كان يُرَكِّز عليه والتمسّك بالاساليب التي بَلِيَتْ وعادت لا تؤتي ثمرةً، على حين إن الوقت يقتضي منه أن يتخلّى عنها علمًا بأنها قد نفدت بطاريّتُها.

       والمرأ الذي لا يُلَبِّيها – دواعي الأسف والندم – هو السعيد الذي حالفه التوفيقُ فدفعه إلى أن يتغيّر ويتخلّى، ويختار من جديد ما هو الأفضل المفيد المتماشي مع الوقت والظروف الحاضرة، فلا يكبو، ولا تنبو حيلته، ولا يخطئ سهمه، ولا تنفد السهام في كنانته، ولا يتخلّى عن أداء دوره في الحياة نحو نفسه ودينه ومجتمعه و وطنه.

(تحريرًا في الساعة 12 من ظهيرة يوم الثلاثاء: 20/ذوالقعدة 1435هـ الموافق 16/سبتمبر 2014م)

                                        أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1436 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2014م ، العدد : 1-2 ، السنة : 39

Related Posts