الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ ياسر نديم القاسميّ
إنّ كلّ لغة من لغات العالم تقريبًا يألف الشعر، ويعرف القريض ؛ ولكن الشعر الذي نجده في اللّغة العربيّة ، لانجده في أيّ لغة أخرى . إنّ الشعر العربيّ يساير الأحاسيس ، ويمازج المشاعر، ويمثّل العواطف ، ويمسّ القلوب ، ويلمس الأفئدة ، كما يمرع بكثرة الاستعارات ، ويتنمّق بالجزالة ، ويتحلّى بالفخامة ، وإلى ذلك من الصفات التي لم تطّلع عليها لغة أخرى ، ولذلك ما زالت طباع الشعراء تنتج إنتاجات أدبيّة فيها منذ ردح من الزمن، فأثرت اللّغة العربيّة . وإلى جانب ذلك خلّدت اسماء الشعراء في التاريخ الأدبيّ ، وعلى ألسنة أهل القلوب التوّاقة إلى الشعر العربيّ الجميل ، ففي الثبت الطويل من الشعراء الأفذاذ ، نرى اسمًا يلمع كالقمر اللاّمع على صفحة السماء . ألا! وهو اسم أحمد شوقي أمير الشعراء في زمانه . الشاعر الذي تخلّف عن كثير من الشعراء الفحول عصرًا ؛ ولكنّه بذّهم شعرًا ، والذي فاق أسلافَه ، وأقرانه وسيفوق أخلافَه ، كما سيظلّ قدوةً وإمامًا في الساحة الأدبيّة ؛ ولا سيّما الشعريّة منها .
وُلِد أحمد شوقي في القاهرة عام 1285هـ الموافق 1868م في أسرة علميّة مثقّفة ، وهو ابن علي شوقي بن أحمد شوقي . أخذته جدّته لأمّه وكفّلته منذ أن كان طفلاً رضيعًا ، فلمّا بلغ الرابعة من عمره ، التحق بكتّاب الشيخ صالح بحيّ السيّدة زينب ، ثم بالمدرسة المبتدئين ، فالمدرسة التجهيزيّة (الثانوية) حيث تعّلم مجّانًا كمكافأة على تفوّقه ، وحين أتمّ دراسته الثانوية دخل في مدرسة الحقوق ، وذلك بتحريض من أستاذه الشيخ البسيوني ، فنال الشهادة النهائية في الترجمة من كلّية الحقوق بعد أن درس بها عامين . وخلال هذه المدّة نال زلفى من توفيق الخديوي (أمير مصر ) من خلال نظم القصائد في مدحه ، فتنشر في الصحيفة الرسميّة «الوقائع» فبعد عام من تخرّجه أوفده الخديوي إلى «فرنسا» للدراسات العليا في الحقوق ، ولتغذية مواهبه بالعلوم الفرنسيّة وكانت «فرنسا» آنذاك ملتقى للطلاّب الواردين من كلّ فجّ عميق.
بقي أحمد شوقي في «فرنسا» لمدة ثلاث سنوات ، فحصل على الشهادة العليا في 18 من يوليو سنة 1893م ؛ ولكن الخديوي آمره أن يبقى في «باريس» ستّة أشهر أخرى ، بهدف الاطّلاع على الثقافة والفنون الفرنسيّة . فعاد إلى مسقط رأسه في أوائل سنة 1894م . حتى صار رئيس القلم الأفرنجيّ ، وعلت مكانته عند الخديوي ، فأصبح مقصد ذوي الحاجات وشفيع من لا شفيع له عند الأمير . ولـمّا مات توفيق وولّي عباس ، صار شوقي شاعر المقرّب ، ونديم مجلسه ، ورفيق رحلاته .
نبذة من حياته :
كان أحمد شوقي ذكيًّا فطينًا منذ نعومة أظفاره، حتى اعترف بذلك معلّموه وأساتذته ، فيقول الشيخ أحمد زكي – وكان زميلاً لشوقي في مدرسة الحقوق – إن الشيخ البسيوني البباني من علماء الأزهر كان يدرّس لهم علوم البلاغة في كتابه «حسن الصنيع في المعاني والبيان والبديع» ، وكان متوفّرًا على نظم القصائد في الخديوي توفيق كلما أهلّ موسم أو أطلّ عيد ، فرأى في تلميذه شوقي بشائر العبقرية ، وبوادر المواهب الربّانية ، فعني الأستاذ بعرض قصائده على تلميذه قبل إزجائها إلى «المعية السنية» وإلى صحيفة «الوقائع» المصريّة وغيرها من الصحف . فكان شوقي ببساطة الناشئ يشير بمحو أو حذف أو تصحيح أو إثبات في القوافي ، أو في الأبيات والكلمات والشطرات . فما كان من الأستاذ إلاّ أن يقدر ما يشير به تلميذه، تحدّث الشيخ البسيوني عن هذا النابغ الباكر إلى أصحاب السلطة . فكانت هذه الشهادة الموثوقة الحافلة بالفرح والاغتباط من أعظم الأسباب ، التي جعلت الخديوي توفيق يهتّم بأمر شوقي .
كان شوقي أُشْرِبَ قلبه بالحماسة الإسلامية ، وامتلأ فؤاده بالحزن والكآبة تجاه الأمّة الإسلاميّة ، التي حفّته المصائب ، وكنّفته النكب ، وتوالت عليها الإحن . فكان قلبه ميّالاً إلى تأييد الخلافة العثمانية ، التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة من جرّاء معاناتها الحرب العالميّة الأولى . فجاهد شوقي بلسانه وقلمه ؛ ولكن الدهر قلب ظهر المجنّ للخلافة ، وقامت حكومة علمانية مشوبة بالتقاليد الغربيّة ، ومبتعدة عن الإسلام أقصى غايات البُعد، فنعاها وهو خيرناع ، ورثاها وهو خير راث وقال:
بعثوا الخلافة سيرة في النادي
أين المبـــايع بـالإمــام ينـــادي
فهذه العواطف الحماسيّة ، والمشاعر المتدفّقة في القلب الواله تسبّب في إصدار الإنجليز أمرًا بنفي شوقي عن مصر ، البلد الذي شهد طفولته وكهولته، فاختار شوقي أن تكون إقامته منفيًّا في «برشلونه» إحدى مدن «أسبانيا» ، وذلك سنة 1914م . فارتحل هو أسرته إليها ليقضوا بين آثار الأجداد أربع سنين ونصف ، حتى إذا ما هدأ سعير الحرب العالميّة الأولى ، عاد شوقي إلى مصر .
إن شوقي هو الشاعر الوحيد الذي نال تبجيلاً وتكريمًا متزايدين من تلقاء الشعراء الأنداد ؛ حتى بايعوه ولقّبوه «بأمير الشعراء» . الأمر الذي لم يَحْظَ به أيّ شاعر من أقرانه ، فإن الناس يعترفون بمنزلة أحد بعد أن لا يبقى حتى يرى نفسه في المكانة المرموقة ؛ ولكن شعراء العرب كرّموا أحمد شوقي في مهرجان كبير، أقيم في القاهرة اعترافًا بعلوّ شأنه في المضمار الذي كان رائدًا وإمامًا فيه ، فبايعه الشعراء بالإمارة والسيادة في ميدان الشعر . كما ألقوا خطبًا وقصائد في مدح أمير الشعراء . كان منها قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم التي مطلعها:
أميـــر القـــوافي قـــــد أتيت مبــايعـــــًا
وهذى وفود الشرق قد بايعت معي
كما قال الشاعر محمود أبوالوفاء :
وخالد الشعر سوف يبقى مرايا
تجتـــلي في صفائهـــا الأشيـــــــاء
يا أميـــر البيان إنّ بيـــاني فيك
اعتنت عبـــــرتـــــــه الأضــــواء
آثار شوقي :
يبلغ عدد آثار شوقي أربعة عشر أثرًا . من أهمها الآثار الآتية :
(1) الشوقيات : وهو ديوان شوقي في أربعة مجلّدات ، طُبِعَ الأوّلُ والثاني منها في حياته . والأوّل منهما يحمل تاريخ سنة 1898م ، مع أنّه صدر سنة 1890م . هذه الموسوعة ليست لأن ترفّه النفس؛ بل هي ثروة عظيمة من الشعر العربيّ. وهي إذ تضمّ دُررًا تزري اليواقيت واللآلي ، تحتوي على الحكم والعبر والقصائد في مدح النبي ﷺ ، وفي مدح الأزهر والخلافة ورثائها ، كما تشتمل على أشعار في الوصف والغزل والاجتماعيات وأدب الأطفال .
(2) الشوقيات المجهولة : جمعها ودرسها الدكتور محمد حبري . وهي أشعار ومقالات لأمير الشعراء، ظلّت مبعثرة هنا وهناك حتى جُمِعَتْ . وهي تضمّ أكثر من ثلاثين ومأة قصيدة ، أو حوالي أربعة آلاف بيت من الشعر .
(3) دول العرب وعظماء الإسلام : وهي أرجوزة طويلة بلغ عدد أبياتها 1729 بيتًا . عرض الشاعر فيها التأريخ الإسلاميّ منذ بزوغ فجره إلى سقوط دولة الفاطمييّن بمصر . إلى جانب ذلك يضمّ هذا الديوان قصيدة في السيرة النبوية .
(4) أسواق الذهب : وهي مجموعة مقالات صدرت عام 1351هـ . وهي مجموعة تشهد بنبوغه وبراعته في النثر العربيّ بجانب سيادته في الشعر. فوُفِّقَ أيّما توفيق في هذا الميدان أيضًا . فتأتي في المجموعة الصورة الأدبيّة رائقة مشرقة لايكدر صفاءها افتعال .
(5) المسرحيات : من أهمّ مسرحيّاته الشعرية ، مسرحيّة «مجنون ليلى» ، و «مصرع كليوباترا»، و«قمبيز» ، و«على بك الكبير» . ومن أجملها مسرحية مجنون ليلى . هذه المسرحيّة تعدّ أسبق المسرحيّات الإسلاميّة ، التي حرّضت الشعراء الآخرين على أن يحذوا حذوهم ، وينسجوا مسرحياتهم على منوالها ، فقد أثبت شوقي براعته في هذا المراد أيضًا بعد أن فشل فيه حين بدأ نظم القصائد . فلمّا رجع من منفاه حاول نظم المسرحيات من جديد وساد أفقها ، وأصبح رائدًا في المسرحيّات الإسلاميّة ، والّذين نظموا بعده اتّبعوا خطواته ، وقد يفوق التلميذ أستاذه ؛ ولكن الأستاذ يظلّ صاحب السبق له فضله ومزيّته .
الإسلام في شعر شوقي :
وإن كانت جدّة شوقي يونانيّة وهي التي ربّته منذ طفولته ؛ ولكنّه لم يتأثّر بالحضارة الغربيّة أدنى تأثـّر ، ولم ينفعل بالبيئة التي كان تقليد الغرب فيها من أعظم المكارم ، فكتب للإسلام ونظم له ؛ حتى أنّ شعره يمثّل لنا مدى حماسته تجاه الإسلام . فهو يمدح النبي ﷺ ، ويرسم شمائله ، ويصوّر شيمه ، وإلى جانب آخر يثبت العقائد الإسلاميّة من خلال أشعاره المنمّقة بالسلاسة والجزالة دافعًا عن حمى الإسلام ، جازمًا أن الخير كلّه فيه ، ومعتقدًا أن العيب كلّه في الّذين لم ينصفوا الإسلام ، حين أهملوا في الأخذ بكتاب الله وسنّة رسوله عليه ألف ألف تحيّة .
فيقول وهو يمدح النبيّ ﷺ موجّهًا الخطاب له:
شعوبك في شـرق البلاد وغــــــربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
بإيمانهم نــــوران ذكــــر وسنّــــــــة
فما بالهــــم في حـــــالك الظلمــات
همزيّة شوقي تُعْتَبر من أهمّ القصائد التي تمثّل نزعته إلى الإسلام . فهو يتحدّث فيها عن سرور الكون بولادة سيد الكونين ، وعمّا حدّث من خوراق وآيات ، ويلقي الضوء على أخلاقه وصفاته وعاداته ، إضافة إلى ذلك تضمّ أرجوزته هذه ذكر الوحي ، وكيف نزل ، وذكر معراج النبي ﷺ وكيف أُسْرِي به . فبدأ الشاعر قصيدته بصورة رسم فيهاالكون والزمان ، حين وُلِد النبيّ ﷺ وهما في ضياء ونور ، وأصبحا كإنسان بدت الابتسامة على وجهه ، وأملأت الفرحة فؤاده ، وجرى الابتهاج مجرىٰ دمه ، فإليكم نبذة من طاقات بستان شوقي الممرّعة بكلمات تنبئ عمّا يكنّ قلبه من حبّ ، والمحبرة بألفاظ تمثّل ما يكمن فؤاده من ودّ والمنمنة بأزهار تشكّل أجمل هدية إلى أكرم إنسان . بكلمات تنبئ عمّا يكنّ قلبه من حبّ ، والمحبرة بألفاظ تمثّل ما يكمن فؤاده من ودّ و فيقول :
وُلِــــدَ الهــــدى فالكائنــــات ضيــاء
وفــــم الــــــزمان تبســـــــــم وثنــــاء
الــــروح والملاء الملائك حـــــولــــه
للــدين والـــــــدنيا بــــــــــــه بشــراء
وحديقة الفرقان ضاحكــــة الــــربا
بالتـــرجمان شـــذيــــــــة غنــــــــــــــاء
والوحي يقطر سلسلاً مــــن سلسل
واللوح والقلــــــم البــــــديــــع رواء
نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة
في اللـــــوح واسم محمــــد طُغـــــراء
الـــــذكـر آيـــة ربّك الكبــــرى الّتي
فيهـا لبـــــاغي المعجــــــــزات غنــــاء
صـــدر البيـــان لـــه إذا التقت اللغى
وتقـــــــــــدّم البلغــــــاء والفصحـــــاء
ديــــن يشيـــــــد آيـــــــــة في آيـــــــــــة
لبنــاتــــــه الســـــورات والأضــــــــواء
الحقّ فيـــــه هـــو الأساس وكيف لا
والله جــــــلّ جــــلالـــــــــــــه البــــــنّاء
أما حديثه عن الإسراء والمعراج ، فهو يرفض قول الّذين قالوا بالمعراج الرّوحيّ لا الجسديّ ، ويؤكّد أن الإسراء كان بالروح والجسد كليهما ، فيقول :
يا أيّها المســـــرى بــــه شــرفا إلى
ما لا تنال الشمس والجــــــــوزاء
يتساءلـــون وأنت أطهــر هيكل
بالروح أم بالهيكل الإســــــــراء
بهما سموت مطهرين كلاهما
نـــــور و ريحــــــانيــــــــة وبهــــار
وهو يقول ردًّا على المستشرقين :
ظلموا شـــــريعتك الـتــي نلنـــــا بها
مالم ينــــل في «رومـــــة» الفقهــــــاء
مشت الحضارة في سناها واهتدى
في الـــدين والـــــدنيا بها السعــداء
أغراض شعره وموضوعاته :
إنّ موضوعات شعر شوقي متنوّعة ، وقد تحدّث عن أشياء مختلفة بما فيها الإسلام ، الذي يبدو واضحًا في شعره . إلى جانب ذلك يتناول شعره التاريخ ، ومن أرجوزته «التاريخيّة» دول العرب وعظماء الإسلام «وكبار الحوادث في وادي النيل» .
بالإضافة إلى ذلك موضوعات شعره تضمّ موضوعاته الوصف والوطنيّة ، والرثاء والمدح ، والغزل أو النسيب والحكمة والمثل ، كما تحتوي على نظم القصص والحكايات على ألسن الطيور والحيوانات للأطفال .
رحيل شوقي :
توفّى شوقي عام 1932م ، وخلّف وراءه الثروة الزاخرة في الشعر والأدب ، ما يجعل الأمّة العربيّة تعتزّ بما ورثته من قبل هذا الشاعر العظيم ، وتفتخر بما أضافه أمير الشعراء إلى الموسوعة الأدبيّة العربيّة من متنوّع شعره ، ومختلف قريضه .
كان أحمد شوقي يخشى الموت ، ويفزع منه شديد الفزع ، كان يخاف ركوب الطائرة ، ويــرفض أن يضع ربطة العنق ، لأنّها تذكّره بالمشنقة ، وكان ينتظر طويلاً قبل عبور الشارع ، لأنّـــه كان يشعر أن سيّارة ستصدمه في يوم من الأيّام . وعندما مات الإمام الشيخ محمد عبده سنة 1905م ، وقف على القبر سبعة من الشعراء يلقون قصائدهم ، أرسل شوقي قصيدته لتُلْقى على القبر ، فقال في مطلعها :
مفسّر أي الله بـــالأمس بينـــــنا
قم اليوم فسّر للورى آية الموت
وكان أوّل الشعراء الذين ألقوا قصائدهم حنفي ناصف ، وآخرهم حافظ إبراهيم ، ثم أنشدت أبيات شوقي . وحدث أن تنبّأ أحد الأدباء بأن هؤلاء الشعراء سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم القصائد على قبر الإمام .
وبالفعـــل كان حنفي ناصف أوّل من مات ، ثم تتابــــع رحيلهم بحسب تـــرتيب القصائــد ، وكان حافظ آخر من توفّى . أيقن شوقي أن أجله قد قرب فشجا وحزن ، ومات في نفس العام الذي مات فيه حافظ، وكان قد نظم قبل وفاته وصيّته جاء فيها:
ولا تلقـــــوا الصخــــــور على قبــــري
ألم يكــــف همًّا في الحيــــــاة حملتـــــــه
فأحمله بعد الموت صخرًا على صخره
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.