دراسات إسلامية

بقلم : د. محمد عمارة

          «التنوير» – كمصطلح شائع في الحياة الفكرية – هو مصطلح أوروبي النشأة والمضمون والإيحاءات.. بل إنه عنوان على نسق فكريّ ساد في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوروبي الحديث.. حتى ليقال كثيرًا.. في تقسيم مراحل هذا الفكر: «عصر التنوير».. وهذا المفكر من «عصر التنوير».. وهذا الفكر من أفكار «عصر التنوير» أو ضد أفكار ذلك العصر.

       وفي تعريف مجمع اللغة العربية للمصطلح – «تنوير Enlightenment – يقول عنه: إنه «حركة فلسفية، في القرن الثامن عشر، تعتد بالعقل، والاستقلال بالرأي، وتؤمن بأثر الأخلاق، وتقوم على فكرة التقدم والتحرر من السلطة والتقاليد».

       ولما كانت «السلطة» و«التقاليد»، التي كانت متحكمة وسائدة، في أوروبا، قبل هذا التاريخ – القرن الثامن عشر الميلادي – هي السلطة الدينية الكهنوتية الكنسية، وتقاليدها التي جمدت واقع الحياة ونظريات العلوم.. فإن «الاستقلال بالرأي» الذي مثله «التنوير» الأوروبي كان استقلالاً عن هيمنة الفكر الكنسي، وعقلانية رافضة للكهنوت، وتحررًا من صورة المسيحية التي كانت سائدة يومئذ، وتقدمًا عن الفكرية التي فرضها رجال الدين على أوروبا قبل عصر التنوير.. ففي مواجهة «الفعل» – الذي تمثل في تحالف الكنيسة والإقطاع – كان «رد الفعل» التنويري، والذي أعلن رفضه لسلطان الدين، ورفع شعاره القائل: «لا سلطان على العقل إلا للعقل».

       وإذا كانت جذور «التنوير» – بهذا المعنى – يمكن أن تعود إلى «فرنسيس بيكون» (1561-1626م) – في القرن السابع عشر – الذي رفض تدخل الدين في المعرفة؛ لأن «الدين يحد من كل ألوان المعرفة» – فإن هذه الجذور قد تميزت، منذ بزوغ فجرها بتعليق الآمال على «العقل والعلم والفلسفة» جاعلة منها – بديلاً عن الدين والتدين – بل وبدلاً من «الله» «آلهة التنوير».

       أما القرن الثامن عشر الميلادي، فهو الذي شهد صعود موجة الفكر التنويري، وتوالى أعلام التنوير.. من مثل «فولتير» (1734-1778م) و«روسو» (1712-1778م) و«ونتسيكيو» (1689-1755م) و«هيردر» و«ليسنج» (1729-1781م) و«شيلر» (1759-1805م) و«جوتة» (1749-1832م) و«كانت» (1724-1804م).. إلخ.. حتى لقد سمى هذا القرن بعصر التنوير.

       وإذا كان القرن الثامن عشر هو عصر التنوير الأوروبي، فلقد كان «فولتير» أبرز فلاسفة ومفكري هذا التنوير فلقد دعا إلى تمجيد العقل، بديلاً عن قداسة الدين، وشن حملة شعواء ضد الدين والكنيسة، وأنكر عالم الغيب، والبعث، والجزاء الأخروي، وقال: إن النبس ليست إلا حياة الجسم، وأنها تفنى بفنائه.. وليس هناك وحي مقدس سوى الطبيعة نفسها.. وكتب كثيرًا في نقد الدين، الذي اتخذه رجال الكنيسة وسيلة لإرباك أذهان الناس، واستخدمه الملوك لسلب أموالهم.. وجعل مقاييس الفضيلة في مدى ما تحققه من الخير الاجتماعي، قاطعًا العلاقة بينها وبين طاعة الله، أو الثواب والعقاب بعد الموت..

       وحتى في قضية وجود إله في هذا الكون، فإن تذبذب «فولتير» – عبر مراحل تطوره الفكري – إزاء الإيمان بإله، قد ظل في دائرة الإنكار الكامل والإلحاد التام، أو في دائرة الاعتراف بوجوده من باب الضرورة لضبط سلوك «العامة».. فالدين مجرد منفعة عامة. و«إذا كان لديك قرية واحدة، تحكمها فينبغي أن يكون لها دين»!.. و«إذا لم يكن الإله موجودًا، فيجب علينا أن نبتدعه»!.. و«قد يكون ثمة بعض النفع في الدين، ولكن الرجل الأريب لا يحتاج إليه لتعزيز الفضيلة»!..

       ولما مال، في أخريات حياته، إلى التسليم بوجود إله، رآه مختلفًا كل الاختلاف عن إله النصرانية.. فدعا إلى «دين الله والتسامح؛ لأن الطبيعة بأسرها تصيح فينا أنه موجود فعلاً.. أما بالنسبة للسيد الابن – «المسيح» – والسيدة أمه – (مريم العذراء) – فتلك مسألة أخرى»؟! على حد تعبيره.

       ولقد انتشر فكر التنوير بهذا المعنى – : تمجيد العقل وحده، بل وعبادته، في إنجلترا وفرنسا، ناشرًا معه الكفر والإلحاد والنزعة المادية.. فقال «هوبز» (1588-1679م): «ليس في الوجود إلا ذرات في فراغ».. وبلغ هذا المعنى للتنوير ذروته إبان الثورة الفرنسية – (1789م) – عندما اتخذ الباريسيون معبودة حسناء أطلقوا عليها: «إلهة العقل»، وقالوا: إنهم أنزلوا الله من ملكوته، مع إنزالهم أسرة البوربون عن عرشها!..

       وحتى نفهم هذا المعنى للتنوير الأوروبي، لابد من فهم الواقع الفكري الذي جاء هذا التنوير رفضًا له وثورة عليه.. كانت الكنيسة قد غرقت في الفساد والاستبداد، وجمدت الحياة الدنيا والمعارف والعلوم عندما قدستها وثبتتها بوضعها في قوالب اللاهوت المقدس والثابت، وساد الاضطهاد، لا للملاحدة أو المخالفين في الدين فحسب؛ بل وللمخالفين في المذهب وللعلماء حتى لقد كانت العقوبة على إقامة قداس بروتستانتي، في مجتمع كاثوليكي: سجن النساء مدى الحياة، وإرسال الرجال للتجديف حتى الموت، وإعدام الكهنة!.. وكانت المواكب تسير في ذكرى المذابح الدينية شكرًا لله؟!.. وكانت القوانين تبيح للآباء إعدام أبنائهم العاقين استنادًا إلى سفر التثنية (الإصحاح 21 – الآيات 17 -21) وإلى إنجيل متى (الإصحاح 15- الآيات 4-6).

       تلك كانت الملابسات الأوروبية. التي أفرزت هذا المعنى الخاص للتنوير في أوروبا. أما في المصطلح العربي، فإن «التنوير» هو: وقت بزوغ أشعة نورالصباح – وقت إسفار الصبح.. والقرآن الكريم «نور» ﴿فَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ (سورة التغابن آلاية:8). والإسلام «نور» ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِيْنَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُلَمٰتِ إِلَى النُّورِ﴾ (سورة البقرة آلاية: 257). والرسول ﷺ «نور» ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَّكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (سورة المائدة الآية:15). والحكمة «نور».. كما جاء في الحديث – «فإن الله يحي القلوب بنور الحكمة» (رواه مالك). والصلاة «نور» – وفي الحديث: «الصلاة نور المؤمن» (رواه مسلم).. والتنوير هو وقت صلاة الصبح، وفي الحديث «نَوِّروا بصلاة الفجر» (رواه الدارمي).. فالمؤمن بذلك كله «مستنير»، وله «تنويره الإسلامي» الخاص.

*  *  *

       وإذا كان هذا «التنوير الإسلامي» هو تنوير – بـ«الإسلام».. أي النظر بعقل مؤمن في المنابع الجوهرية والنقية للإسلام، لفقه أحكامه، واستلهام إجاباتها على علامات استفهام الواقع المعاصر. بعد فقه هذا الواقع – لعقد القرآن بين «فقه الواقع» و«فقه الأحكام».. فإنّ التنوير الغربي – الوضعي – العلماني – قد أقام ويقيم قطيعة مع الموروث الديني، رافضًا استلهامه أو التزامه أو الانطلاق منه.

       لقد مثل ويمثل طورًا جديدًا تجاوز ويتجاوز الإصلاح الديني الغربي.. فهذا الإصلاح البروتستانتي قد حرر العقل من الكهانة دون أن يحرره من الدين.. أما التنوير الغربي فإنه يحرر العقل من الدين، ويقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث الديني، وذلك بإقامته التناقض والتضاد بين «العقل» و«النقل» ورفضه أن يكون هناك سلطان على العقل إلا لهذا العقل وحده!.

       وفي شهادة تنويرية على حقيقة هذه القطيعة المعرفية الكبرى، نقرأ لواحد من دعاة هذا التنوير: «كان المسيحي الناتج (أو المتولّد) عن حركة الإصلاح البروتستانتي حريصًا – على المستوى الديني – على عدم تقديم الطاعة إلا لله وكتابه، لا لكهنته ولا لخليفته (أي البابا).

       وأما الآن – أي مع التنوير – فقد تم اجتياز عتبة ثانية، فلم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله الذي يتسطيع أن يحاكم الأشياء بذاتها.

       إن هذه الأيديولوجيا الأم، التي اكتشفها عصر التنوير للعالم والتي تضاد المسيحية عن طريق الخروج منها تحمل إسمًا رمزيًا، كان مثقلاً بالمعنى ومشحونًا بدلالة الواقع في القرن الماضي، إنه الليبرالية. وكانت جدتها من القوة حيث إنها قاومت كل محاولات الكاثوليكية للقضاء عليها أو على معارضتها. وكانت سلالتها التالية خصبة وصراعية داخلية؛ لأنه من رحمها خرجت الاشتراكية.

       إن هذه الأيديولوجيا – التنوير – هي الأم، بمعنى أن كل ما يتفرع عنها يتولد عن تطويراتها وتناقضاتها، دون أن ينقض القطيعة الأبستمولوجية (المعرفية) الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني، وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير.. فمنذ الآن فصاعدًا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة، لقد أصبح الإنسان وحده مقياسًا للإنسان..»(1).

       ففارق شاسع بين تنوير إسلامي، ينطلق من الدين.. وبين تنوير غربي – وضعي.. علماني.. لا ديني – يقيم قطيعة معرفية كبرى مع الدين.. ويمحو «نظام النعمة الإلهية لحساب نظام الطبيعة».. ومن هذا التنوير الغربي ولدت – في الغرب – الليبرالية.. والاشتراكية.. كليهما!.

*  *  *

       وإذا نحن شئنا إيجاز مقولات التنوير الغربي، فلن نجد أفضل من ذلك الذي صنعه واحد من أكثر أنصاره والمروجين لمقولاته في واقعنا الفكري المعاصر – الدكتور مراد وهبة – فلقد لخص «المقولات العشر» لهذا التنوير فقال، إنها:

       1- «أن الإنسان حيوان طبيعي اجتماعي، فهو جزء من الطبيعة، وهي التي تزوده، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الله – فليس خليفة لله، خلقه وكرّمه بأن نفخ فيه من روحه، وفضله على سائر المخلوقات.. وسعادة هذا الإنسان دنيوية محضة، يجدها في العاطفة والشهوة وحدهما».

       2- «وحصر الاهتمامات الإنسانية بقضايا العالم الراهنة، والطبيعية المحسوسة لا العالم الآخر، أو ما وراء الطبيعة».

       3- «والوقوف في الدين، عند «الدين الطبيعي»، الذي هو إفراز بشرى من صنع العقل، لا «الدين السماوي» المتجاوز للطبيعة». «واعتبار الشعور الديني مزيجًا من الخوف الخرافي والرغبة في تغيير ظروف مؤلمة».

       4- «وتحرير العقل من سلطان الدين، وإعمال العقل دون معونة من الآخرين، وجعل السلطان المطلق للعقل، بحيث لا يكون هناك سلطان على العقل إلا للعقل وحده».

       5- «إحلال العلم محل الميتا فيزيقا. وعدم تجاوز الملاحظة والتجربة إلى ما وراءهما من سبل المعرفة «النقلية» و«الوجدانية».

       6- واعتبار الفكر وظيفة الدماغ.. فالدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. وليس هناك نفس في الإنسان».

       7- وإثارة الشكوك في مشروعية المطلق، فالإنسان هو مقياس المطلق».

       8- «استنباط الأخلاق من الطبيعة الإنسانية.. وحصر علاقتها بالسعادة واللذة، لا بالفضيلة والاحتياجات الروحية.. مع جعل الأولوية للإحساسات الفيزيقية على المفاهيم الأخلاقية والعقلية، فالأخلاق من صنعنا ومن ثمرات خبراتنا، وهي مستندة إلى الحالة الفيزيقية».

       9- «وإحلال «الاجتماعية» محل «الدينية» سبيلاً لتحقيق السعادة الدنيوية بالعاطفة والشهوة، فالطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، والمجتمع هو المسؤول عن سعادته».

       10- «ورد القوانين إلى أصول فيزيقية وتاريخية.. وتحـريـر التاريخ من السنن الإلهيـة، وتفسيره بمفاهيم طبيعيـة أو مفاهيم خلقية نابعة من الطبيعة الإنسانية»(2).

       فهو تنوير مادي يجعل الإنسان حيوانًا طبيعيًا، ويقطع جميع الصلات بينه وبين الله والدين!.

*  *  *

الهوامش:

انظر: هشام صالح. مجلة (الوحدة) – التي تصدر بالمغرب عدد: فبراير – مارس سنة 1993م ص 20، 21.. والنص لإميل بولا، في كتابه (الحرية العلمنة: حرب شطري فرنسا ومبدأ الحداثة) – منشورات سيرف. باريس سنة 1987م.

د. مراد وهبة (مدخل إلى التنوير) ص 25-40. طبعة القاهرة والكويت سنة 1994م.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1435 هـ = أبريل – مايو 2014م ، العدد : 6-7 ، السنة : 38

Related Posts