الفكرالإسلامي
بقلم: الأستاذ أشرف عباس القاسمي(*)
القرآن هدى للناس:
إن كتاب الله تعالى أنزل هدىً للناس كافةً والبشرية جمعاء، فقد خاطب أتباع الديانات السماوية والأديان السائدة في العالم، ودعاهم إلى استخدام ما وهبهم الله تعالىٰ من العقل السديد والرأى الصحيح وإلى التفكر في خلق السماوات والأرض، وذكر ما ابتدعوه من الضلالات وأرشدهم من ظلمات الكفر والارتياب إلى نور الهداية والإيمان وهداهم إلى الصراط المستقيم.
الديانات التي ذكرها القرآن:
وقد ذكر القرآن الكريم عديدًا من الأمم والأديان؛ ولكن هناك أربع طوائف بما فيها ثلاث ديانات خصّها ببيان معتقداتها وما فيها من الضلال والزيغ وبيان تمسكاتها الواهية، بالإضافة إلى الرد عليها بالأدلة الواضحة المقنعة. يقول الإمام الشاه ولي الله الدهلوي:
«قد وقعت المخاصمة في القرآن العظيم مع الفرق الأربع الضالة: المشركين واليهود والنصارىٰ والمنافقين. وهذه المخاصمة على طريقين: الأول أن يذكر سبحانه وتعالىٰ العقيدة الباطلة مع التنصيص على شناعتها ويذكر استنكارها فحسب، والثاني: أن يبين شبهاتهم الواهية ويذكر حلّها بالأدلة البرهانية أو الخطابية (الفوز الكبير:19).
أما المنافقون فليس لديهم دين يتدينون به إنما كانوا مشركين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، ليخادعوا المسلمين ويلحقو بهم الضرر البالغ ويفرقوا عليهم كلمتهم. وأما المشركون فكانوا يخضعون لطقوس وروايات ورثوها عن آبائهم، يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة، وجعلوا لله أندادا، فليس لديهم دين سماوي يعتنقون به ولا كتاب إلٰهي يتمسكون به ولا منهج نبوي يأخذون به، نعم كانوا يدعون بكل صراحة و وقاحة نحن نسلك مسلك أبينا إبراهيم ونتبع ملته؛ لكن القرآن الكريم رفض دعواهم وقال: ﴿إنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيْفًا، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين، شَاكِرًا لِأنْعُمِه، اِجْتَبَاه وهَدَاه إلىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ﴾(النحل:121) ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيْمَ حَنِيفًا. وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِيْنَ﴾ (النحل:123).
فما بقي في الكتاب من الديانات السماوية إلا اليهودية والمسيحية.
لايوجد إلا دين واحد سماوي:
فإن الديانات السماوية ثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهود، هذا هو المعروف؛ ولكن يجب أن نعرف أن الدين السماوي في جوهره يعود إلى ثلاثة أُسَسٍ: العقيدة والشريعة والأخلاق، فالعقيدة والأخلاق لا تختلفان في أي دين سماوي، نعم تبدل الشرائع وفق ما يقتضيه العصر والشعب، فكل أنبياء الله ورسله أتوا بدين واحد سماوي، قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّيْنِ مَا وَصّٰى بِه نُوْحًا وَالّذِيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إبرَاهِيْمَ وَمُوْسٰى وَعِيْسٰى أنْ أقِيْمُوا الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُوْا فِيْهِ، كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِيْنَ مَا تَدْعُوْهُمْ إلَيْهِ، اللهُ يَجْتَبِيْ إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ إلَيْهِ مَنْ يُنِيْبُ»(الشورىٰ:13).
فلا يوجد إلا دين واحد سماوي، ألا وهو دين الإسلام «إنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإسلامُ»(آل عمران:19).
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (آل عمران:85) ومن اتبعه وأخذ به هو المسلم في كل زمان، «هُوَ اجْتَبٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ، مِلّةَ أَبِيْكُمْ إبْرَاهِيْم، هُوَ سَمٰكُمُ الْـمُسْلِمِيْن مِنْ قَبْلُ وَفِيْ هَذَا لِيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ شَهِيْدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ»(الحج:78).
ولما لليهود والنصارىٰ من مزايا وخصائص اقتصادًا وسياسةً واجتماعًا وتفوقان أممَ العالم، لصلتهما بالشرائع السابقة والعلم والدراية فقد اهتم القرآن بذكرهما وسمّاهما أهلَ الكتاب، وحديثُنا في هذا المقال يدور حول أهل الكتاب، من هم؟ كيف تحدث عنهم التنزيل العزيز: ولماذا خصّهم بالذكر؟ وإطلاقُ أهل الكتاب على اليهود والنصارىٰ المعاصرين، هل له وجه من الصحة؟ وما هي النقاط المهمة التي يرشدنا إليها القرآن في الحوار معهم؟
معنى أهل الكتاب:
اليهود يطلقون «أهل الكتاب» على أنفسهم خاصة ويريدون بالكتاب التوراة أو التلمود، فكلمة أهل الكتاب لا تسع المسيحيين لدى اليهود. (راجع: ويكي بيديا الموسوعة الحرة)
أما القرآن الكريم فإنه يريد بأهل الكتاب كلاً من اليهود – أتباع سيدناموسى عليه السلام صاحب التوراة – والنصارىٰ – أتباع سدينا عيسى بن مريم صاحب الإنجيل – وربما يقال لهم أهل الكتابَيْن، فكأنّ هذا لقب فخري مَنَحَ إيّاهم القرآنُ الكريم، بينما يرى البعض أن تسميتهم بأهل الكتاب ردع وتوبيخ لهم، فكأنّ القرآن يعيّرهم أنكم تملكون كتابًا فيه بيان ما هوالصواب من الخطأ، ومع ذلك ما سرتم سيرًا وسطاً عدلاً، وضللتم الطريق وحِدتُّمْ عن السبيل.
هل الصائبون من أهل الكتاب:
قد عدّ بعض العلماء الصائبين من جملة من أُوتُوا الكتٰب، وقالوا هم أهل التوحيد الذين آمنوا بالنبي يحيىٰ واتبعوا الكتاب الذي أنزل عليه، وقد ذكره تعالى بقوله «يٰيَحْيٰى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ» (مريم:12) ولكن الحكم فيهم بأنهم من أهل الكتاب أم لا؟ مشكل جدًا، فقد ذكر المفسرون أقوالاً عديدةً ولم يتوصلوا إلى قول اتفقت عليه وجهات أنظارهم، فقال العلامة الآلوسي: «قيل: هم قوم موحدون، يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيٰى عليه السلام، وقيل: إنهم يقرون بالله تعالى ويقرأون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلّون إلى الكعبة، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقاء يطلب في محله»(روح المعاني:1/391.
وفي ذلك خلاف معروف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه؛ ولكن الخلاف يرجع إلى ما سمعوا وعلموا عنهم؛ فإنهم قد اشتبهت عليهم مذاهبهم، يقول الدكتور وهبة الزحيلي:
«وقيل ليس هذا باختلاف في الحقيقة وإنما الاختلاف لاشتباه مذاهبهم؛ لذا من اعتبر الصائبة من عَبَدَة الأوثان وهم الذين يعبدون الكواكب، حرم مناكحتهم، ومن فهم أن مناكحتهم حلال، فهم أن لهم كتابًا يؤمنون به»(الفقه الإسلامي وأدلته: 7/162).
لماذا خصّهم القرآن بالذكر:
إن القرآن الكريم خصّ أهل الكتاب بالذكر، وذكّرهم بأيام الله تعالى وآلائه واعتبرهم من أهل العلم وعظم شأنهم وأكثر من ذكر أحوالهم وليس ذلك لأهل ديانة أخرى، فلعلَّ السبب في ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور.
الأول: لأنهم من أمة الدعوة، وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، «قُلْ يَأيُّها النَّاسُ إنيْ رَسُوْلُ الله إلَيْكُمْ جَمِيْعًا» (الأعراف:158) فلم تكن دعوته لأمة دون أمة، ولشعب دون شعب، ولبلاد دون بلاد، إنما بُعث رحمةً مهداةً للبشرية جمعاء، وهناك نقف لحظةً ونتدبر برهةً، ما من نبي إلا وقد بعثه الله لهداية قومه وأرسله إلى شعب دون شعب، ولا نجد نبيًا أو رسولاً ادعى بأنه للناس أجمعين، ورسالته خالدة تبقى إلى أن تقوم الساعة، إنما ادعى ذلك سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه فأعلن أنه رسول الله إلى الناس أجمعين ورحمة للعالمين وخاتم النبيين ولا نبيَ بعده ولا شريعة بعد شريعته، وفلاح الإنسانية كلها متوقف على اتباعه والتمسك بما جاء به، فيتجلى من ذلك أنه رسول عالمي وحده، ولم يؤثر عن أحد من الأنبياء أنه قدم نفسه للجميع، فدعوة أتباع الديانات الأخرى وأهل الكتاب إلى قبول ديانتهم مما تأباها تعاليم أنبيائهم.
الثاني: أنهم كانوا أعلم أمم العالم في ذلك العصر، يتلون التوراة، ويقرؤون الإنجيل، يملكون قانونًا وتشريعًا وكان لديهم مدارس ومعلمون ومتعلمون.
الثالث: وكانوا يزعمون أنهم يتبعون شرائع الأنبياء السابقين ويقلدونهم بمعنى الكلمة، وهم من ذريتهم ورثوهم كابرًا عن كابر، والقرآن الكريم قدّم شريعةً تسلسل بها الأنباء، فخاطبهم بصفة خاصة.
كيف خاطب القرآن أهل الكتاب:
إن القرآن كتاب أنزل لهداية الناس والعودة بهم إلى توحيد الرب الخالص، فرسالة التوحيد التي كان يعرضها الأنبياء على أقوامهم، القرآنُ أكبر داع إليها، وقد لصقت بعقيدة التوحيد التي كان يتبنّاها أهل الكتاب أشياء كثـيرة، فجعل اليهود عزيرًا ابن الله وقالت النصارى عيسى ابن الله، وقالوا: إنّ اللهَ ثَالِثْ ثَلاَثــةٍ، والعجب منهم أنهم رغم عقيدة التثليث يعدون أنفسهم من أهل التوحيـد، فالقرآن الكريم يطرح عليهم معنى التوحيد بمعنى الكلمة: «قُلْ هُوَ اللهُ أحدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحدٌ»(الإخلاص:1-4).
ودعاهم إلى الرجوع إلى ما هو الصواب في عقيدة التوحيد، بأسلوب رائع بليغ. فقال: «قُلْ يٰأهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لَّا نَعْبُدَ اللهَ، وَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ، فَإنْ تَوَلَّوْ فَقُوْلُوْا اشْهَدُوْا بِأَنَّا مُسْلِمُوْن»(آل عمران:64).
وقد توغلت في اليهود والنصارى أنواع من المساوئ الخلقية والاجتماعية مما أسفر عن تخلفهم في مجالات الحياة وحرمانهم قيادةَ العالم والضرب عليهم الذل والهوان، والقرآنُ الكريم يكشف العظاء عن أسبابها ويقص قصة تقدمهم وانحطاطهم، ويعظهم ويهددهم «وَإِنْ عُدّتُمْ عُدْنَا» (بني إسرائيل:8).
القرآن الكريم يستنكر استنكارًا شديدًا ما فعله اليهود بأنبيائهم من تعذيب وتصليب وقتل وتشريد، فإنهم لم يكتفوا بإيذائهم فحسب؛ بل جاوزوا أن سفكوا دماءهم النزيهة واتهموهم بتهم لا تَمُتُّ بصلة إلى الحقيقة، قال تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلّةُ وَالْـمَسْكَنَةُ وَبَاءُوْا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَانُوْا يَكْفُرُوْنَ بِآيَاتِ اللهِ و يَقْتُلُوْنَ النّبِيِّيْنَ بِغَيْرِ الحق، ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوْا يَعْتَدُوْن» (البقرة:61).
وقد عدّ الإمام الشاه ولي الله الدهلوي أسباب ضلال اليهود التي نبّــه عليها القــرآن الكـريم وهي كما يلي:
«تحريف أحكام التوراة، سواء كان تحريفًا لفظيًا أو تحريفًا معنويًا، وكتمان آيات التوراة، وإلحاق ما ليس منها بها، افتراءً منهم، والتقصير في تنفيذ أحكامها والعصبية الشديدة لديانتهم واستنكار رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسوءُ الأدب والطعن عليه صلى الله عليه وسلم بل بالنسبة إلى الرب تعالى أيضًا، وابتلاؤهم بالبخل والحرص ونحو ذلك من الرذائل»(الفوز الكبير:22).
أما النصارى فقد سرق إليهم التثليث خُطاها، واخترعوا أن عيسى قد تم تصليبه جزاءً وكفارةً لما يقترف المسيحيون من الآثام والذنوب، وقد قاموا بتحريف كلمة «فارقليط» فاستخدموها في غير ما استخدمها الإنجيل.
إشادة القرآن بمحاسنهم:
هذا وقد أشاد القرآن بما فيهم من المحاسن والصفات الحميدة، وهذا دليل على كونه معجزًا ومنزلاً من الله تعالى: فلم يمنعه جحودهم الحقَ وإيذاؤهم الرسولَ الأمينَ ونسجهم مؤامرات ضد الإسلام والمسلمين أن يعترف ويشيد بالأشخاص منهم الذين زكوا أنفسهم وحلّوها بالتلاوة ونفحات الإيمان والعمل الصالح، فقال جل وعلا: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْـمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: 113-115)
ولم يكتف بذلك بل جعلهم من الذين أوتوا العلم: فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا﴾(الإسراء:107).
وقال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾(المائدة:82).
الفرق الّذي لاحظه القرآن بين اليهود والنصارىٰ:
ومما يجب ملاحظته أن وجهة نظر القرآن إلى المسيحين غير وجهة نظره إلى اليهود، فالمسيحيون هم أقرب الناس مودةً للمسلمين، وعزى القرآن ذلك إلى تعبّدهم وعدم استكبارهم، كما وَرَدَ في الآية المتلوة آنفًا، بينما يعتبر اليهود أشد عدوانًا للمسلمين، ومن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي تتضح تلك المواقف التي حصلت مع النبي من يهود يثرب وكذلك مشكلات الخيانة التي تكررت من اليهود في العهد الإسلامي ولانزال نشاهدها على نطاق واسع، فمعاملتنا مع أهل الكتاب تجب أن تكون نابعةً من هذا الفكر القرآني.
حكمان يختص بهما أهل الكتاب:
قد ذكر القرآن الكريم حكمين يختص بهما أهل الكتاب دون سائر الأمم والملل، يتضح به مدى عناية الإسلام الخاصة بهما وهما كما يلي:
الأول: قد رسم القرآن الكريم توجيهات عديدة في شأن الذبائح فقال: «وَلاَ تَأْكُلُوْا مِمَّا لَـمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنّه لَفِسْقٌ». (الأنعام:121) فلا يحل لمسلم أن يأكل ما ذبحه المشرك، فإنه ميتة؛ ولكن القرآن جعل أهل الكتاب بمثابة أهل الإسلام في الذبح وقال: «وَطَعَامُ الّذِيْنَ أوتُوا الكتٰبَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» (المائدة:5).
الثاني: الذي يتعلق بالزواج بالكتابيات، فإن القرآن قد حرّم نكاح المسلمين بالمشركات، وقال: «وَلاَ تَنْكِحُوْا الـمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤمِنَّ» (البقرة:221) ولكنه أباح الزواج بالكتابيات، فقال جل وعلا: «وَالمُحْصَنَاتُ مِن الذين أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِكُمْ»(المائدة:5).
«والسبب في إباحة الزواج بالكتابية بعكس المشركة هو أنها تلتقي مع المسلم في الإيمان ببعض المبادئ الأساسية من الاعتراف بالٰه، والإيمان بالرسل وباليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب، فوجود نواحي الالتقاء وجسور الاتصال على هذه الأسس يضمن توفير حياة زوجية مستقيمة غالبًا، ويرجى إسلامها؛ لأنها تؤمن بكتب الأنبياء والرسل في الجملة، والحكمة في أن المسلم يتزوج باليهودية والنصرانية، دون العكس، هي أن المسلم يؤمن بكل الرسل والأديان في أصولها الصحيحة الأولى فلا خطر منه على الزوجة في عقيدتها أو مشاعرها، أما غير المسلم فلا يؤمن بالإسلام فيكون هناك خطر محقق يحمل زوجته على التأثر بدينه، والمرأة عادةً سريعة التأثر والانقياد، وفي زواجها إيذاء لشعورها وعقيدتها»(الفقه الإسلامي وأدلته: 8/159).
أهل الكتاب المعاصرون:
إن اليهود والنصارىٰوإن كانوا ضالين الطريق وأسوأ حال من حيث العقيدة والعمل حينما كان القرآن ينزل؛ ولكن زادهم شناعة التيارات الجارفة التي تعرضت لها أوربا في العصر الأخير والعواصف الهوجاء من اللادينية والابتعاد عن روايات الدين التي أفسدت على الغربيين أخلاقهم، فإطلاق أهل الكتاب على اليهود والنصارى في أيامنا وإثبات الحكمين الخاصين لهما أصبح مورد تأمّل، يقول المفتي محمد شفيع الديوبندي رحمه الله تعالى: «الذين يدرجون أسماءهم في سجلات الإحصائيات في قائمة اليهود والنصارى معظمهم من يلعنون اليهودية أو المسيحة اعتقادًا، لا يؤمنون بالتوراة والإنجيل ولا بالنبي موسى عليه السلام، وفي الواقع أنهم لا دينيون وملحدون تفكيرًا ولا يسمون أنفسهم يهودًا أو نصارىٰ إلا كرواية قومية وتقليد اجتماعي فسحب»(معارف القرآن3/64).
ويقول القاضي ثناء الله الفاني فتي: «قلت: الظاهر أن المراد بأهل الكتاب في الآية موحدوهم بدليل قوله تعالى: «وَلاَ تَنْكِحُوْا الـمُشْرِكَاتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ» (البقرة:221) وقال ابن همام: ويهود ديارنا مصرحون بالتنزيه عن ذلك والتوحيد، وأما النصارى فلم أر إلا من يصرح بالابنية لعنهم الله» (التفسير المظهري3/82).
ويقول أحد فقهاء العصر الشيخ خالد سيف الله الرحماني: «الذين أسماؤهم كأسماء اليهود والنصارى، وينكرون وجود الله تعالى والنبوة والوحي والملائكة، هم ملحدون، ولا يُعدون من أهل الكتاب» (كتاب الفتاوى/4/354).
فاتضح بذلك كله أنه لا يصح أن يُعتَبَر اليهود والنصارى المعاصرون أهل الكتاب إطلاقًا؛ بل معظمهم ليس لديهم دين وهم في الطريق إلى الإلحاد، لا يقرون بالوحي ولا بالكتاب السماوي، وقد عقّدت الوضع أكثر تعقيدًا عاصفة الشيوعية؛ ولكن رغم ذلك كله هناك طائفة من اليهود والنصارى لاتزال قائمةً على ما كانوا عليها وقت تنزيل القرآن، فيجب أن ينظر إلى حل ذبائحهم ومناكحة نسائهم في هذه الخلفية، ولا شك أنها تحل مناكحة الكتابيات كما نطقت به الآية الربانية: نعم هناك مشكلات عديدة ينتجها هذا النكاح، فنطرًا إليها كره عدد من العلماء منهم الصحابة والتابعون نكاحَهن، فقد نهى عنه عمر وابنه وعطاء وغيرهم. بينما قيد البعض الجواز بشروط لابد من مراعاتها، والراجح الجواز وهو ما ذهب إليه الجمهور، فقال أبوبكر الجصاص الرازي: «ولا نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين تحريم نكاحهن» (أحكام القرآن: 1/403) وما ورد في ذلك من المنع والتشديد حمله الرازي على خلاف الأولى.
ولكن ينشأ هناك سؤال، وهو أن المسيحيين في عصرنا يصرحون بابنية عيسى، فيُحكم على نسائهم أنهن مشركات، وقد ورد النص بتحريم نكاحهن؟ قد سبق منا أنهم كانوا يعتقدون التثليث والابنية وغيرهما من العقائد الفاسدة والأفكار الكاسدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا، ولكن القرآن أباح نكاحهن، فالقول بجواز مناكحتهن أولى نظرًا إلى ظاهر ما نطقت به الآيات؛ ولكن لا يُشجع ذلك سدًا للمفاسد والمضار الاجتماعية والدينية والوطنية، فكتب الدكتور وهبة الزحيلي: «والراجح لديّ هو قول الجمهور لإطلاق الأدلة القاضية بجواز الزواج بالكتابيات دون تقييد بشيء» ثم قال: والواقع في الزواج بالكتابيات وبالأول الحربيات مضار اجتماعية ووطنية ودينية، فقد ينقلن لبلادهن أخبار المسلمين وقد يرغّبن الأولاد في عقائد وعادات غير المسلمين وقد يؤدي الزواج بهن إلى إلحاق ضرر لمسلمات بالإعراض عنهن» (الفقه الإسلامي وأدلته 7/160).
الحوار مع أهل الكتاب:
أما الحوار مع أهل الكتاب اليهود والنصارى فطريق وعر ومرتقى الصعب، لايعبرها سالماً آمنًا إلا من هو ثاقب النظر ووسيع الفكرة وغزير العلم، فإنه لا يعنى الحوار مع أهل الكتاب الخضوع لهم والاعتراف بكونهم مؤمنين والانقياد والاستسلام، فإذن لابد أن نهتم بالأصول التي أرشدنا إليها القرآن الكريم، ويمكننا أن نلخصها في ثلاث نقاط آتية.
الأولى: أن تكون محاورة أهل الكتاب وأتباع الأديان الأخرى بالموعظة الحسنة والطريق الحسنى، فإن العنف لاياتي بالخير في قليل أو كثير؛ بل ربما يورث النزاع ويُكثر الشقاق، قال تعالى: «وَلاَ تُجَادِلُوْا أَهْلَ الكِتَابِ إلاّ بِالّتِيْ هي أَحْسَنُ»(العنكبوت:46).
وقد خاطب القرآن الكريم اليهود والنصارى بألطف العبارات وأجمل الألفاظ، فكان وصفهم دائمًا بلفظ «يأهل الكتاب» حيث وردت هذه الكلمة في واحد وثلاثين موضعًا وخاطبهم أيضًا بلفظ «الذين أوتُوْا الكتاب» وذلك في ثلاثين موضعًا، وهذا الخطاب فيه الاحترام الكبير، فكأنه يقول لهم: يا أصحاب العلم والمعرفة ويا أهل المخطوطات المقدسة السماوية!
الثانية: البدأ من النقاط المشتركة: ومن أصول الحوار في القرآن الكريم أن يبدأ المحاور المسلم مع أهل الكتاب من النقاط المشتركة التي عبّر عنها التنزيل، «كلمة سواء» قال تعالى: «قُلْ يٰأهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِه شَيْئًا» (آل عمران:64) ومن الواضح أن تحديد النقاط المشتركة والمجمع عليها من البداية يساعد على تشخيص نقاط الخلاف وتحرير محل النزاع، وتقديمهما إلى النقاط الخلافية بتدرج وتمهل.
الثالثة: الشعور بهيمنة القرآن وعلوّ الإسلام: يجب أن يكون المحاور المسلم على علم تام بأن القرآن هو مهيمن على جميع الكتب المنزلة، قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» (المائدة:48) فلا يغيبن عن باله الشعور بعزة الإسلام وعلوه، فيكون واعيًا لما يقبل ويرفض أثناء الحوار، وليعرف أن الحوار أداة نافعة لدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، ولا يعني ذلك أبدًا إرضاؤهم والاستسلام والخضوع لهم والقضاء على جميع الخلافات بيننا وبينهم، فإنها حلم لن يتحقق أبدًا، «إِنَّكَ لاَ تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَّشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِيْنَ» (القصص: 56).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1435 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 38
(*) أستاذ بالجامعة.