دراسات إسلامية

بقلم: أبو الخير عارف محمود(*)

تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم عريض الجوانب، طويل المدى، واسع الآفاق، وفي التاريخ كثير من الشبهات والتهم التي أثيرت حول الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وبالأخص خال المسلمين وأمير المؤمنين، سيدنا معاوية – رضي الله عنه – الذي يتلذذ بالطعن فيه بعض الجهلة تحت ستار النقد العلمي، وما درى هؤلاء المساكين أن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، من لابس الفتن منهم ومن اعتزل إحساناً للظن بهم؛ لأنهم نقلة الشريعة، والطعن في أحدهم مثل معاوية – رضي الله عنه – مدخلاً لأعداء هذا الدين للنيل من بقية الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-.

       وما أعتقد أن شخصية في تاريخنا الإسلامي، من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربوا على يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد نالها من التشويه والدس والافتراء والظلم، ما ناله معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما- حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بعشرات الروايات الضعيفة أو المكذوبة  و في العصر الحديث تلقف المستشرقون و من شايعهم، و تأثر بآرائهم من المنتسبين إلى الإسلام هذه الأباطيل، بل كانت مغنماً تسابقوا إلى اقتسامه ما دامت تخدم أغراضهم للطعن في الإسلام، و النيل من أعراض الصحابة. وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمُعلِّم من الرافضة، أو صاحب أحداً من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله، وسنّة رسوله، وخير أمته، وصالحي عباده، وسائر المؤمنين.

       يقول الإمام مالك في الذين يقدحون في الصحابة: «إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء و لو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين». (الصارم المسلول، ص: 553)

       إخوة إسلام! أريد أن أقدم بعض الفضائل لسيدنا معاوية – رضي الله عنه – وأقوال أهل الإنصاف فيه، الذين وفقهم الله – سبحانه وتعالى – لأن يسلكوا المسلك القويم، وأن يتكلموا فيه بما يليق به، وبما يناسب مقامه، ولم يقعوا فيما وقع فيه أناس لم يحالفهم التوفيق، ولم يحصل لهم ما يكون فيه سلامتهم، ونجاتهم، وسعادتهم.

       ومن فضائل معاوية – رضي الله عنه – أنه أحد الصحابة الذين أكرمهم الله بصحبة نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- وكل كلام يقال في الصحابة فيما يتعلق بفضلهم عموماً وما يجب لهم عموماً؛ فإن معاوية – رضي الله عنه – يدخل في ذلك.

       ومنها: أنه من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم- (انظر: الفتاوى لابن تيمية: 4/458)

       وهو – رضي الله عنه – ممن وعدهم الله الحسنى، فإنه أنفق في حنين والطائف وقاتل فيهما. (الفتاوى لابن تيمية:4/459، وانظر: مرويات خلافة معاوية، ص: 22-23)

       ومنها: قول الله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل/59].

       قال الطبري: «الذين اجتباهم لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – فجعلهم أصحابه ووزراءه» (انظر: جامع البيان: 20/2) ومعاوية – رضي الله عنه – من الصحابة الذين اصطفاهم الله يكونوا كتبة وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. (انظر حول تفسير هذه الآية: تفسير ابن كثير: 5/245، ومنهاج السنة لابن تيمية: 1/156)  وفضائل معاوية – رضي الله عنه – كثيرة ثابتة عموماً و خصوصاً، أورد شيئاً من فضائله الخاصة..

       روى الترمذي في فضائل معاوية – رضي الله عنه – أنه لما تولى أمر الناس كانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه، فقالوا: كيف يتولى معاوية و في الناس من هو خير مثل الحسن و الحسين. قال عمير و هو أحد الصحابة: لا تذكروه إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعله هادياً مهدياً و اهد به». (رواه الإمام أحمد في المسند:4/216،  رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، فالحديث صحيح، و زاد الإمام الآجري في كتابه (الشريعة: 5/2436 -2437) لفظة: «ولا تعذبه».

       وقد اعتبر «ابن حجر الهيتمي» هذا الحديث من غرر فضل معاوية وأظهرها، ثم قال: «ومن جمع الله له بين هاتين المرتبتين كيف يتخيل فيه ما تقوّله المبطلون ووصمه به المعاندون – معاذ الله-، لا يدعو رسول الله بهذا الدعاء الجامع لمعالي الدنيا و الآخرة،  المانع لكل نقص نسبته إليه الطائفة المارقة الفاجرة إلا لمن علم- صلى الله عليه وسلم – أنه أهل لذلك،  حقيق بما هنالك». (تطهير الجنان: ص:39)

       و أخرج البخاري أيضاً بإسناد صحيح في (تاريخه الكبير: 5/240) و الطبراني في (مسند الشاميين:1/190): قال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي عميرة – وكان من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «اللهم علم معاوية الحساب و قِهِ العذاب».

       وهذا الإسناد صحيح وهو حديث مشهور له طرق، و شواهد كثيرة مرسلة، أو متصلة تقويه وتثبت أنه ليس فيه تفرد.

       قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: «لا تذكروا معاوية إلا بخير». (البداية والنهاية لابن كثير:8/125)

       وعن علي – رضي الله عنه – أنه قال بعد رجوعه من صفين: «أيها الناس! لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموها، رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل». (المصدر السابق: 8/134)

       وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: «ما رأيت بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسود – من السيادة – من معاوية، فقيل: ولا أبوك؟ قال: أبي عمر – رحمه الله – خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه».

       وقد أثنى عليه قبيصة بن جابر الأسدي بقوله: «ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلاً أفقه فقهاً ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلاً أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أحب رفيقاً، ولا أشبه سريرة بعلانية منه».( انظر تاريخ الطبري: 5/337،  التاريخ الكير:7/175)

       وقال أيضاً: «ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية». (البداية والنهاية: 8/138،  السنة للخلال: 1/443،  السير  للذهبي: 3/152)

       وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله بل في عدله. السنة للخلال: 1/437)

       وعن قتادة قال: «لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي». (السنة للخلال: 1/438)

       وعن مجاهد أنه قال: «لو رأيتم معاوية لقلتم: هذا المهدي». (المصدر نفسه، وأورده ابن كثير في البداية: 8/137) 

       وقال ابن كثير في ترجمة معاوية -رضي الله عنه-: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين.. فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة، وعدل، وصفح، وعفو». (البداية والنهاية: 8/119)

       وقال: «كان حليماً وقوراً رئيساً سيداً في الناس، كريماً عادلاً شهماً».  (المصدر السابق: 8/118)

       وقال أيضاً: «كان جيد السيرة حسن التجاوز جميل العفو كثير الستر، رحمه الله تعالى». (المصدر نفسه: 8/126)

       وهنا رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة ابن خلدون في اعتبار معاوية من الخلفاء الراشدين فقد قال: «إن دولة معاوية و أخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين و أخبارهم، فهو تاليهم في الفضل، والعدالة، والصحبة». (انظر هذا القول في العواصم من القواصم، ص:213) قال الموفق بن قدامة المقدسي في (لمعة الاعتقاد): «ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين – رضي الله عنهم-». وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء:  «أمير المؤمنين» ملك الإسلام…

       وقال أيضا في حقه – رضي الله عنه-: حسبك بمن يُؤمِّره عمر ثم عثمان على إقليم وهو ثقة فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خيراً منه بكثير وأفضل وأصلح فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه، ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد». (سيرأعلام النبلاء:3/132-133)

       روى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال: «رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا جالس أُتيَ بعليّ ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف الباب، وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج عليّ وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة». (القصة أخرجها ابن عساكر في تاريخه: (59/140) بسندين إلى ابن أبي عروبة، و هو ثقة حافظ.

       وسئل المعافى بن عمران: أيهما أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزبز؟ فغضب وقال للسائل: «أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين؛ معاوية صاحبه، وصهره، وكاتبه، وأمينه على وحي الله». (أخرجه الآجري في الشريعة :5/2466، واللالكائي في  شرح السنة:2785) وسنده صحيح.

       وسئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: «لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله خيرٌ من عمر بن عبد العزيز – رضي الله تعالى عنه – وأماتنا على محبته». (شذرات الذهب:1/65)

       وسئل ابن المبارك عن معاوية، فقال: «ماذا أقول في رجل قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سمع الله لمن حمده. فقال معاوية خلفه: ربنا ولك الحمد، ومعلوم أن (سمع) بمعنى استجاب، فمعاوية حصل له هذا الفضل وهو في الصلاة خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: «سمع الله لمن حمده»، ومعاوية – رضي الله عنه – كان ممن يصلي وراءه ويقول: «ربنا ولك الحمد». (وفيات الأعيان  لابن خلكان: 3/33، وبلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة:/2466). قيل لابن المبارك: أيهما أفضل هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: «لتُرابٌ في منخري معاوية مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز».

       وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: «ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قطّ إلاّ إنساناً شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً». وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله – وقد سئل عن رجل تنقص معاوية وعمروا بن العاص- أيقال له: رافضي؟- فقال: «إنه لم يجترىء عليهما إلاّ وله خبيئة سوء؛ ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلاّ وله داخلة سوء». البداية والنهاية: 8/138-139)

       وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: «معاوية ستر لأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه». قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتهمناه على القوم»، يعني الصحابة. (انظر البداية و النهاية لابن كثير:8/139)

       نقل الحافظ المزي في (تهذيب الكمال: 1/339) بإسناده عن أبي الحسن علي بن محمد القابسي قال: «سمعت أبا علي الحسن بن أبي هلال يقول: سُئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة».ا.هـ.

       عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله وسئل: من أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ قال: «من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني». ( أخرجه الخلال في «السنة»(661)  إسناده صحيح.

       وخلاصة الأمر أن معاوية – رضي الله عنه- صحابي جليل يجب تقديره واحترامه والترضي عنه ويحرم سبه وشتمه ولعنه ولقد أحسن شارح الطحاوية حيث قال بعد أن أشار إلى ما جرى بين عليّ ومعاوية – رضي الله عنهما-: «ونقول في الجميع بالحسنى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾».

       ثم قال: والفتن التي كانت في أيامه – أي أيام أمير المؤمنين عليّ – رضي الله عنه – قد صان الله عنها أيدينا، فنسأله – سبحانه وتعالى – أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه».


(*)   عضو هيئة التأليف، والأستاذ بالجامعة الفاروقية بكراتشي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1435 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 38

Related Posts