إشراقة

       كان أستاذنا فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله (1349-1415هـ = 1930-1995م) عبقريًّا، لا تخصّ عبقريّتُه مجالاً دون مجال، وإنّما كان يقوم بكل عمل صغير وكبير على ما ينبغي أن يقام به؛ فيأتي على أحسن وأكمل ما يكون، كانت تتجلى فيه عبقريته، وكان يتبدّى أبدع ما يكون إذا قارنه أحدٌ بمثله مما يكون قد قام به أحد من معاصريه وأقرانه؛ ومن ثم كان وحيدًا بينهم في التعليم والتربية اللذين بذّهم جميعًا فيهما بإجماع جميع الذين عايشوه.

       وكان سريعَ الخاطر، غزيرَ الفكر، ثرَّ الرأي؛ فكان كثيرَ الإعداد للبرامج والخُطَط، وسريعَ التنفيذ لإلهامات تفكيره؛ فكان يستفيد منه التلاميذُ استفادةً كانوا لايستفيدونها من أيّ من زملائه رغم علمهم الغزير ومعلوماتهم الواسعة؛ لأن مجرد العلم والمعلومات لاتنفع إذا لم تصاحبها منهجيّةُ الإفادة و برمجيّةُ الإرسال والتلقين، اللتان هما العمدة في التعليم والتأهيل والتخريج. وكلما كان المُعَلِّم غنيًّا فيهما كان غنيًّا في الإفادة والتلقين.

       ومن ثم كان – رحمه الله – يَطْلُع علينا دائمًا ببرامج طريفة للغاية تسرّنا في جانب، وتُحَرِّضنا بقوة خارقة إلى تبنيها في جانب آخر، فنعود نعكف على ترجمتها إلى العمل في رغبة جامحة وحرص لايوصف، فكنّا نتخرّج كما كان يودّ أن نتخرّج، ونتمكن من صقل مواهبنا كما كان يتمنى أن يتمّ صَقْلُها. وكان مخلصًا كلَّ الإخلاص لمن كان يسعد بالتلمذ عليه إخلاصَ الوالد العطوف لوحيده، فكان يُثْمِر جهدُه فينا حسبما كان يتوقّع؛ لأن الجهد إنما يُثْمِر إذا صدر عن الإخلاص.

       ذاتَ يوم فَاجَأَنا بأسلوب غريب للكتابة والإنشاء قائلاً: إني ظلتُ أُدَرِّبُكم على الكتابة بالقلم، وقد تعوّدتم عليه، حتى لا تعلمون أنتم ولا غيركم أنّ الكتابة يجوز أن تتمّ عن غير القلم؛ ولكني أودّ أن أحيطكم – أعزّائي التلاميذ! – علمًا بأنه قد مضى عليّ حينٌ من الدهر كنتُ أكتب فيه من حين لآخر بالمقراض لا بالقلم؛ حيث كنتُ قد أجد مقالةً ما جمع فيها كاتبُها موادَّ دسمة ومعلومات موفورة عن الموضوع الذي تَعَرَّضَ له فيها؛ ولكني كنتُ أجده لم يُجِدِ التنسيقَ المطلوبَ والتصنيفَ الجميلَ الذي يدعو القارئَ لقراءتها والإقبال عليها، فكنتُ أتناولها وأقطعها بالمقراض وأُحوِّلُها قِطَعًا، فأحذف بعضَها، وأقدِّم بعضها، وأؤخِّر بعضها، وأعيد تحضيرَها، فألصق القِطَعَ المختارة على أوراق أخرى بالترتيب الذي كنتُ أراه يجذب القارئَ ويفتح لديه «شهيّةَ» القراءة، ويجعله يقبل على المقال إقبالاً كبيرًا. وربّما حَدَثَ أنّي صنعتُ مع مقال ما هذا الصنيعَ ثم وجّهتُه إلى المجلة التي كنتُ التقطّتُه منها وغيّرتُ فيه وحذفتُ منه وأضفتُ إليه بالمقراض لا بالقلم، فوجدتُها قد نشرته باهتمام كبير، كأنه مقال غير مطروق لم يُنْسَجْ على منواله.

       ولم ندر آنذاك السرَّ وراء هذا الأسلوب الغريب الذي عَرَّفه إلينا العبقري العصامي الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي القاسمي – رحمه الله – درايةً مقصودة لديه؛ لأننا كنَّا صغارًا في العمر وفي التجربة وفي فن الكتابة والإنشاء بصفة خاصّة، كما كنا أغرارًا في قضايا الحياة كلّها بما فيها الكتابة والترسّل والإنشاء، ولاسيّما لأن ذلك هو الفن الذي لايمكن أن يُتْقِنه الـمُثَقَّف إلاّ مع نضجه في العلم، واختماره في التجربة، وإمضائه الوقتَ الكافيَ في التمرن عليه وفي القــراءة المكثفة لإنتاجات الأساتذة فيه.

       وقد علمنا السرَّ وراء ما قاله الشيخ عندما كبرنا وقطعنامسافات على درب العلم والكتابة، ونشأ لدينا الوعي الكتابي والحسّ الإنشائي، وبدأنا نفرق بين مقال وآخر، وأسلوب وآخر، ونعرف فضل كاتب على آخر، وندرك السرَّ وراء السحر الذي يوجد لدى كاتب ولا يوجد لدى غيره، حتى يتملك على القراء عقولهم ويكسب قلوبهم، بينما غيره لايكسب لفتةَ قارئ رغم الجهد البالغ الذي يبذله بشتى الطرق.

       مرجعُ السحر في كتابة من الكتابات قبل كل شيء – فيما أرى بعد ما عشتُ في هذا المجال أكثر من أربعة عقود من عمري الواعي – إلى الترتيب ولباقة تصنيف المواد وملاحظة الكاتب بدقة متناهية أنه بماذا يستهلّ كتابتَه: مقاله أو مُؤَلَّفَه، وبماذا يمرّ في طريقه إلى منتهاه، وكيف يتدرّج من البداية إلى النهاية، حتى إذا بدأ القارئ قراءتَه حَسِبَ عفويًّا كأنه يقرأ شيئًا طبيعيًّا، و وجد نفسَه مشدودة إليه مُكَبَّلَة به، كأنه وجد فيه هواه، ولقي من خلاله حبيبه الـمُنْتَظَر، وشيئه المفقود، وغرضه المنشود. إن أهمّ شيء عندي في كتابة ما هو روعة الترتيب التي يُؤْخَذ من أجلها – روعة الترتيب –  القارئُ بها – الكتابة – ولا يجد طريقًا إلى الفكاك منها. إنّه الشيء الوحيد الذي يجعل به الكاتبُ قارئَه مُسْتَعْبَدًا، يَلَذُّ هو عبوديّتَه له، ولايحبّ أن يتحرر منها بأي ثمن غالٍ يُدْفَع له.

       ثم يأتي دورُ الأسلوب الذي يختاره ويَتَبَنَّاه، الذي يتكوّن من خلال قراءته لكاتب أو كُتَّاب، وملازمة كاتب أو مؤلف أو كُتَّاب أومؤلفين، وتخرّجه على أستاذ كاتب أو أساتذه كتبة؛ كما يتكوّن من طبعه هو الذي جُبِلَ عليه، من ميله إلى السهولة أو الصعوبة والتعقيد، كما يسهم فيه نوعيّةُ الثقافة والتربية اللتين يكون قد تلقّاهما في الروضة والكُتَّاب والمدرسة والجامعة، وكميّةُ وكيفيّةُ العلوم التي حَصَّلَها وتَفَاعَل معها وتَعَامَل بها وصَدَرَ عنها في كتاباته وتأليفاته وجميع إنتاجاته. ومن ذلك كله قد يأتي الأسلوب سهلاً ممتنعًا تصعب على آخرين محاكاتُه، أو يأتي صعبًا مُعَقَّدًا، أو ثقيلاً لايُعْجِب القارئَ ولا يلفت المستمع؛ فلا تَنْفُقُ سوقه نَفَاقَ الأوّل، ولا يحظى بالإقبال والتلقيّ حَظْوَتَه.

       ثم يأتي دورُ طرافةِ المعلومات وندرتِها وغزارتِها وغناءِ المقال أو التأليف بالموادّ حول الموضوع المعنيّ، ودورُ مدى ما بذله المؤلف أو الكاتب من الجهد في تلقّي المعلومات وفي البحث والدراسة وتوفية الموضوع حقَّه من التحقيق والتدقيق، حتى أتى – المقال أو التأليف – ممتازًا عن أمثاله في هذا الشأن، فاهتم به القارئ، وعُنِيَ به الناشر، وأقبل عليه المُوَزِّعُون، وتنافست فيه المكتبات التجاريّة التي تتجر في الكتب.

       تصنيفُ الموادّ وتنسيقُها البديع هو الشيء الوحيد الذي يكون له القِدْحُ الـمُعَلَّىٰ في إضفاء كل القيمة على كتابة من الكتابات، وليس للأسلوب الدور الأوّل كما يظنّ الكثيرون الذين لايتعمقون في أسباب كون كتابة ما حبيبةً لدى القارئ. إن معظم الكتّاب والمؤلفين لايعيرون قضية الترتيب الأهميّة التي يعيرونها جمعَ المعلومات وملء الكتابات بالموادّ الغزيرة دون نظر إلى قضية تصنيفها أو تبويبها وترتيبها؛ فتبدو – الكتاباتُ – كأنها مَدَاسَةُ الحصائد التي تجمع كلّ نوع من الحصيد؛ فتأتي هذه الكتابات غير مرغوب فيها لدى عامة القراء، اللهم إلاّ الذين يهمهم استقاء المعلومات وتلقي الموادّ لموضوع من المواضيع التي تعنيهم لحاجة مسّتهم إليها أو لداعية أرغمتهم عليها.

       والترتيب الرائع لايخصّ الكتابات والتأليفات وحدها؛ ولكنه الشيء الذي لابدّ منه للدروس التي يلقيها المدرس في الفصول، وللخطابات التي يلقيها الخطيب في الحفلات، وللأحاديث العامّة التي ينطق بها المرأ في المجالس التي تضم أخلاط الناس؛حيث إن الترتيب الجميل يجعلها مرغوبًا فيها لدى الطلاب أو المستمعين أو الحضور، واللّاترتيبُ أو الترتيبُ السَّيِّء الأَخْرَقُ يجعلها مرفوضةً لديهم. قد وجدتُ بعضَ من يُصَنَّفُون علماء أو مُؤَلِّفين أوخطباء، فاشلين في وظيفتهم؛ لأنهم لم ينقصهم شيء سوى هذه الخصيصة البارزة: طرح المواد إلى الطلاب أو المستمعين أو حضور المجالس مُرَتَّبَةً يأخذ بعضُها بحجز بعض على نحو طبيعيّ كأنها سلسلة متصلة الحلقات، لم تسقط منها حلقة، فحلّت محلّها حلقة غير مُتَّسِقَة لاتتناغم مع الحلقات الأخرى في السلسلة.

       في كلتا اللغتين: العربية والأردية اللتين وفقني الله تعالى أن أشتغل بها كاتبًا أو مؤلفًا وجدتُ كثيرين بارعين في طرح المواد في بحوثهم ومؤلفاتهم مرتبة على نحو تدريجي طبيعي يسيغه القراء بل تقتضيه طبائهم، مما يضفي عليها جمالاً أخّاذًا، وبعضهم في ذلك فوق بعض؛ فليس كلهم على مستوى واحد، ولايمكن أن يكونوا كذلك؛ لأن الله الحكيم لم يشأ ذلك؛ وأكثرهم ترتيبًا للموادّ أفضلهم لدى القراء.

       إن أستاذنا الشيخ الكيرانوي القاسمي عكف على تخريج الرجال، فلم يتمكن من الإكثار من الكتابة والتأليف؛ ولكن ما تركه من مقالاته وكتاباته يُعَدّ نموذجًا يُحْتَذَىٰ لترتيب المواد وتنسيق المعلومات، وقد كان يراعي الترتيب الطبيعيّ حتى في الأحاديث المجلسية وجميع محاضراته وخطاباته التي ألقاها في الفصول الدراسية أو الحفلات الثقافية والدينية والتوجيهية، حتى كان المستمعون قد يُخَيَّل إليهم أنّه جاء يحاضر أو يخاطب بعد ما يكون قد حَضَّرَ الموادَّ تحضيرًا، وبعد ما أعاد استظهارها، ولذلك لما سُجِّلت من فيه حالةَ الارتجال ونُقِلَت عن الشريط إلى الأوراق لم يحتج القائم بالتدوين إلى إدخال أي تعديل عليها أو شطب كلمة أو إضافة أخرى.

       وكان ذلك طبيعةً مركوزةً فيه فكان لا يُزَايلُه في حالة السرور أو السخط. لقد كان عبقريًّا حقًّا، وكان صنيعَ الله في الواقع، خلقه الله ليُؤَدِّي دورًا فريدًا في صناعة الرجال وصقل المواهب، وكان أسلوب تربيته للتلاميذ وتأهيله لهم طبيعيًّا، يتقبله الأذهـان عفـويًّا، ويحاكيه المتعلمون دونما عناء. وكان يبدو من كل عمل من أعماله في الحياة أنه قد علّمـه الله أداءَه، فقد كان يُؤَدِّيــه كما ينبغي أن يُؤَدَّى، وكان لايبدو الخُرْقُ من أي من تصرفاته في الجدّ أو الهزل.

       ولكن الناس في الأغلب لايكونون مثلَه أو قريبًا منه، وإنما يحتاجون إلى تعلم فنّ الكتابة والتأليف، أو فن التعليم والتربية والتدريس، أو فن الخطابة والمحاضرة، فمن يحالفه التوفيق يتعلم كلَّ شيء يجعله يتخرّج في فن من هذه الفنون أو كلّها مُتْقِنًا بارعًا يمارسها كما ينبغي أن تُـمَارَسَ، فتنفع الناس، فتمكث في الأرض، وتُسَبِّب له وللناس الخيرَ في الدنيا والآخرة، وتُخَلِّد ذكرَه، وتُحْسِن سمعتَه، وتكون صدقةً جاريةً له بعد الموت.

       ولكن يبقى الفرق بين الموهبة الإلهية والمؤهلات الكسبيّة. الموهبةُ الطبيعية هي الطريق إلى العبقرية في كل ما يزاوله الإنسان في حياته من أعمال و وظائف، فتغلب عليه العفويّة وصبغة التلقائية، والأعمال التي يؤديها الإنسان صادرًا عن الأهلية المكسوبة، يغلب عليها التطبّع أو نوع منه؛ من ثم يقول العلماء: إن كسب المؤهلات إذا جاء مواكبًا للموهبة كان صاحبها عبقريًّا يقوم بأعمال الحياة بشكل أبدع وأروع.

       على كل فقد كانت الكتابة بالمقراض ابتكارًا من سيدنا الأستاذ الشيخ الكيرانوي – رحمه الله – ربما بدئ به وختم به، فلم نسمع ولم نقرأ عن كاتب سبقه أو لحقه كتب مثلَه بالمقراض فأجاد وأفاد وربما أرغم المجلات التي ربّما استقي منها المقالات التي غيّر فيها، على نشرها باهتمام زائد وعناية فائقة وبملاحظة في مستهل المقالات تُـمَهِّد ذهن القارئ لاقتنائها وقراءتها.

(تحريرًا في الساعة 4 من مساء يوم الخميس: 26/ذوالقعدة 1434هـ = 3/أكتوبر 2013م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1435 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 38

Related Posts