الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
التمييزُ بين السنن ما هي المقصودة لدى الشارع – عليه السلام – من غير المقصودة لديه، هو وظيفةُ المجتهدين وليس وظيفةَ غيرهم، وقد يقع الخلاف في الاجتهاد، فالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – ثَبَتَ عنه مثلاً رفعُ اليدين في الصلاة وعدمُ رفعهما كذلك، فاختلف المجتهدون ههنا؛ فمنهم من فَهِمَ أنّ رفع اليدين هوالمقصود، أما عدمُ الرفع الذي ثبت عنه فكان لإبانة أنه أيضًا يجوز. ومنهم من قال بعدم الرفع، واستدلّ بأن الصلاة تقتضي السكينةَ؛ فقد وَرَدَ في حديث أنه – صلى الله عليه وسلم – قال للصحابة – رضي الله عنهم – ما لي أراكم ترفعون أيديكم في الصلاة(1)، أي اُسْكُنُوا في الصلاة، فالمقصودُ هو عدم الرفع، والرفعُ إنما كان لإبانة الجواز. والقائلون بكون الرفع أصلاً يقولون: إن الرفع الذي مَنَعَ منه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لم يكن الرفعَ الذي يكون قبل الركوع وبعده، وإنما كان الرفعَ الذي كان عند التسليم، فقد جاء شرحُ ذلك في بعض الأحاديث أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يُسَلِّمون برفع أيديهم، فنهاهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك. ونحن – الأحنافَ – نقول: سلّمنا أن المنع كان قد تعلّق برفع اليدين عند التسليمتين؛ ولكن ذلك هو الآخر يؤكّد أن الأصل في الصلاة السكينةُ والهدوءُ، والرفعُ ضدّه، فالرفعُ في المواضع المختلف فيها أيضًا لايكون مقصودًا؛ لأنه ضدّ الوضع الأصليّ للصلاة وهو السكينة والهدوء، وعدمُ الرفع بما أنه ليس ضدّ السكون؛ بل هو معاون عليه؛ فيكون هو المقصود. وكذلك المواضع التي وقع فيها الخلاف، إنما وقع لأن المختلفين أحدهما حَسِبَ الشيء أصلاً مقصودًا، وثانيهما فهم أن غيره هوالأصل المقصود.
الاختلاف في الجهر بـ«آمين»
فمثلاً: الجهر بـ«آمين». فمن المجتهدين، من قالوا بأن الجهر بـ«آمين» هو المقصود، وأما الإخفاء فكان لإبانة الجواز. ومنهم من قال أن الأصل هو الإخفاء وأما الجهر بها فكان لإبانة الجواز؛ لأنها دعاء والإخفاءُ فيه هو الأصل، فإذا جهر بها حينًا فإنما كان لإبانة أنه يقول «آمين» أيضًا؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – إن لم يكن قد جهر بها ما علم الناس أنه يقول «آمين» كذلك. ولهذه المصلحة قرأ صلى الله عليه وسلم – آية بالجهر في صلاة سرِّيَّة، أي كان الغرض من ذلك هو التعليم.
على كل فالمجتهدان قد اختلفا، ولماذا اختلفا؟ إنما اختلفا لأن أحدهما ظن أن الأصل كذا، وظن الآخر أن الأصل هو غيره. ولو وضعنا ذلك في الاعتبار، لانتهى النزاع والخصام. وذلك هو السرّ في اختلاف المجتهدين، وإلى ذلك يرجع الخلاف في جميع المسائل التي وقع فيها. (أحكام المال، ص33).
دفع الشبهة الواردة في كون «الصلاة الإبراهيميّة» أفضل:
التشبيه الوارد في «اللهمّ صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم الخ» قد يشتبه به الناسُ ويقولون: إن الصلاة على إبراهيم – عليه السلام – بما أنها مُشَبَّهٌ بها فهي أفضل وأكمل من الصلاة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ومنشأ الاشتباه أن الناس يظنّون أنّ التشبيه يُشْتَرَطُ فيه أن يكون المُشَبَّهُ به أقوى وأكمل من المُشَبَّه، على حين إن هذه المقدمة هي بدورها خاطئة، بل الواجب هو أن يكون المُشَبَّهُ به أوضح وأشهر من المُشَبَّه، وليس من الضروري أن يكون أقوى وأفضل منه، والدليلُ على ذلك قد وَرَدَ في القرآن الكريم؛ إذ قال تعالى:
«اللهُ نُوْر السَّمٰوٰت والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوٰةِ فِيْهَا مِصْبَاحٌ» (النور/35)
ففي الآية شَبَّهَ الله تعالى نورَه بنور المصباح، وأين نوره من نوره تعالى؟! ولكن التشبيه إنما يرجع إلى أن نوره – المصباح – أوضح وأظهر لدى الناس، لأنه حاضر في أذهانهم مسبقًا.
اعتراض والردُّ عليه
فلو اعترض على ذلك أحد بأن نور الشمس وضوء القمر هما أيضًا حاضران في أذهان الناس، وهما أقوى من نور المصباح ألبتة، فلماذا ترك الله تعالى تشبيه نوره بهما إلى التشبيه بنور المصباح.
والردُّ عليه أن نور الشمس وضياء القمر مهما كانا أقوى من نور المصباح؛ ولكن الشمس معيبةٌ بأن عيون البشر لا تستقر عليها؛ فلو شَبَّهَ الله تعالى نوره بنورها، لكان أن يظن الناس أنه أيضًا يكون من شأنه أنه لا تستقر عليه عيون الناس، وبالتالي أيسوا من رؤية الله تعالى في الجنة كذلك.
أما الامتناع عن التشبيه بضوء القمر، فإنه إنما كان لأنه قد اشتهر في شأنه أنه مستفاد من نور الشمس. فلو وَرَدَ التشبيه به لشكّ الناس أن نورالله تعالى أيضًا مستفاد من غيره. ثم إن المصباح فيه محاسن أكثر من الشمس والقمر، وهي أن المصباح ينور غيره؛ حيث يجوز أن تستنير به في الساعة مئآتُ الآلاف من المصابيح دون أن يقلّ نوره. أما الشمس والقمر فتستضيء بهما الأشياء أي يصل إليها نورهما، ولكنه لا يحصل أن يوقدا غيرَهما بنورهما، حتى يعود هذا الغيرُ يوقد غيرَه بنوره.
ولو اعترض أحد وقال: إن المرآة إذا واجهتهما فإنّها تتنوّر بهما، وتُنَوِّرُ الجدار حولها، لكان الردّ على ذلك أن المرآة ههنا واسطة في العرض، وليست واسطة في الثبوت. أما المصباح فيكون واسطة في الثبوت، كما يكون نور الله واسطة في الثبوت، أي أن نور الله مُنَوَّر بنفسه ومُنَوِّرٌ لغيره. وذلك كلُّه من محاسن المصباح، وليس من محاسن الشمس والقمر. وما أوردنا ههنا إنما هو نكات وليست مقاصد، فلابدّ أن نضع كلَّ شيء في مكانه الصحيح.
* * *
(1) والحديث بنصّه كما يلي:
عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: كنا إذا صلينامع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: علام تومنون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدَكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله.
رواه مسلم (الصلاة/ الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام وإتمام الصفوف الأُوَل والتراصّ فيها والأمر بالاجتماع 431).
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37