الفكرالإسلامي

بقلم:  د. أحمد كمال أبو المجد/ جمهورية مصر العربية

          من علامات نسبية الفكر الإنساني كله أنه في بحثه الموصول عن الحقيقة يظل يتحوَّل من حال إلى حال متأثرًا بما لا آخر له من «الأسباب والمؤثرات الموضوعية» التي تحيط به، وأن اللحظات الحاضرة تظل دائماً أكثر اللحظات تأثيرًا على أفكاره ومواقفه حتى أن كل لحظة فيها تتبدى له كما لو كانت آخر اللحظات وخاتمة المطاف في مسيرة التطور ونهاية النهايات للتاريخ.

       ولعلنا – في هذا السياق – لا نزال نذكر أن ظاهرة المد الديني المتصاعد التي تشغلنا هذه الأيام، لم تكن تشغل العالم منذ أربعين أو خمسين سنة، بل كان المؤرخون في الخمسينيات والستينيات من ذلك القرن يتحدثون عما أطلقوا عليه «أزمة الدين والتدين في عصر علماني» وكانوا يشيرون بذلك إلى ما أدت إليه قفزات العلوم الطبيعية والتجريبية التي فتحت الباب أمام الثورة الصناعية الثانية من عبادة جديدة للعقل الإنساني وثقة مفرطة به وإعراض عن كل ما عداه، واستشراف لمستقبل قريب تكون فيه للعلماء التجريبيين سيادة على عقول الناس ومعتقداتهم لايشاركهم فيها أحد، ويفقد الدين معها سلطانه التقليدي القديم على النفوس والعقول، ويصيبه الشك في جوانبه الاعتقادية والعملية على السواء، ورغم أن هذه الظاهرة قد وقعت أساساً خارج حدود العالم الإسلامي، فإن انهيار الحواجز بين الشعوب والثقافات نتيحة الثورة العلمية والتقنية في وسائل الاتصال والانتقال قد نقلت إلى المجتمعات الإسلامية والمشرقية بصفة خاصة بعض آثار تيار المادية التي لا تكاد تترك عقول الناس ونفوسهم موضعاً للإيمان بالغيب، الذي كان ولا يزال ركن الأركان في جميع العقائد الدينية… ولكن الفكر الإنساني لا يتحكّم وحده في مسيرة التاريخ، ولله تعالى حكمةٌ هو بالغُها.. فكما حملت الثورة العلمية والصناعية مع بشائرها الأولى بذور الثقة المطلقة في العقل، فإنها عادت وحملت في مرحلة تالية، ومع استيعاب آثارها العملية على حياة الفرد والأسرة والمجتمع – بذور قلق لا حدود له أخذ يتسلل إلى العقول والنفوس… فبدأت تلوح في الأفق بشائر حنين جديد إلى السكينة الضائعة، والرضا المفقود السلام الذي زلزلته معارك التنافس على الدرهم والدينار.. وبدأ الشباب مع بداية عقد الستينيات يبحث من جديد عن فردوسه المفقود، حنيناً عميقاً إلى المطلق، والتماساً «للراحة والسكينة» في رحابه، وطلباً للأمن حيث لاظل إلا ظله.. وامتلأ الغرب بموجات الشباب اللاهث بحثاً عن اليقين متعلقاً بكل ما يصادفه من ألوان العقائد والمذاهب والأديان.. السماوي منها وغير السماوي.. ووجدت هذه الموجة الجديدة – هي الأخرى – طريقها إلى المسلمين كما وجدت بذور الشك من قبلها السبيل نفسه إليهم.. ويعبر المؤرخون والباحثون في تطور الثقافات والحضارات عن هذه التحولات بمصطلح Paradigm Shifts ولكن من المؤكد أننا نعيش مرحلة تحول جديدة في الموقف العقلي والنفسي تجاه ظاهرة تصاعد «المد الديني» وآية ذلك ما تمتلئ به الكتابات في المجمعات الغربية الشرقية على السواء من رصد لبعض الآثار السلبية التي ترتبت على تصاعد موجات التدين في كثير من المجتمعات.. وفي مقدمتها انحياز الفرقاء كلٌ إلى حوزته الخاصة أو عالمه المنغلق، مما أدّى إلى مواجهات واشتبكات حملت معها رغبة جامحة في إقصاء الآخر ورفضه كما حملت استباحة خطيرة لكل الوسائل التي عبر عن هذا الرفض، وتساعد على ذلك «الإقصاء». وهو ما عبر عنه صمويل هنتنجتون بصراع الحضارات Clash of Civilizations. ومن غرائب الأمور أن يتزامن ظهور هذا التعبير مع تعبيرٍ آخرَ يحمل خصائص الظاهرة التي أشرنا إليها في بداية هذا الحديث وهي ظاهرة الاعتقاد بأننا بلغنا خط نهاية التاريخ End of History .

       ويعنينا من هذا كله أن نتوقف – بمزيد من الدقة المنهجية والحرص على تحديد معاني المصطلحات – عند «حالة» مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهي تواجه مرحلة التحول الجديدة هذه.. إشفاقاً من عواقبالتطرف الديني الذي تحوَّل في بعض صوره إلى حالة من الهوس والغضب.. والغضب كما نقول دائماً جمرة تحرق العقل.. والهوس هو الآخر مانع خطير من موانع الحوار الموضوعي النافع.

       ولما كان من طبائع الأشياء وخصائص الظواهر الاجتماعية، أن كلاً منها يخلق نقيضه.. ليبدأ معه دورة تنافس وتدافع من شأنها – حين توظف توظيفاً جيدًا – أن تحول دون وقوع ظلم أو عدوان وأن تعين على تحقيق الكثير من آمال الشعوب في الإصلاح.. فإن ظاهرة التطرّف الديني الذي ينطوي على غلو في الفكر وفي السلوك قد أوجدت – على الجانب الآخر – ظاهرة مناقضة لها جوهرها الحقيقي رغبة جامحة في إقصاء الدين والتدين – بصورهما المختلفة – من ساحة الحياة في المجتمع، والتعبير عن ذلك بأساليب تحمل صورًا من الغضب المكتوم لا نكاد نفهم بواعثها الحقيقية.. ذلك أن رفض الانغلاق الفكري، والإيمان بحرية الإنسان في الاعتقاد والتعبير، وإدانة التطرف السلوكي الذي يتمثّل في محاولة إكراه الناس على اعتناق فكر معين.. كل هذه أمور كان ينبغي لها أن تمثل رصيدًا مشتركاً جامعاً بين المؤمنين بكرامة الإنسان وحُرّيته ومسؤوليته.. ذلك أن «الإيمان» الليبرالي لا يقبل بحال هذه التجزئة التي نراها في كثير مما يكتب أو يقال هذه الأيام… بحيث يمنح أصحابه الحقوق والحريات كلها لشركائهم في الرأي والموقف ثم ينكرونها إنكاراً يكاد يكون مطلقاً على خصومهم في الرأي والموقف.. مما يدفع المجتمع كله إلى تشابك عقيم لا يستفيد منه أحد.. وهو تشابك ندعو إلى فضه بغير تباطؤٍ أو تردّدٍ.. منادين بأن يكون هدفنا هدفاً بنائياً.. وأن نرتفع بأقلامنا وألسنتنا وضمائرنا عن أن نكون أعضاء في جماعة «مقاولي الهدم» الذين يوظفون طاقتهم كلهافي هدم كل بناءٍ قائمٍ في عدمية (نهليستية) جديدة لا يتصور أن تجتمع مع الحوار الحقيقي، فضلاً عن أن تقوم مقامه أو تؤدّي وظيفته.

       فإذا حوّلنا أبصارنا بعد هذه المقدمات المنهجية إلى واقع العرب والمسلمين واجهتنا على الفور حقيقة لا يمكن إنكارها أو التهوين من خطرها. وهي أن العرب والمسلمين يواجهون اليوم أزمتين لا تحتمل مواجهتهما مزيدًا من التردد أو الانتظار:

       الأولى، أزمتهم مع أنفسهم، ومع حياتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية داخل مجتمعاتهم.. وهي أزمة مرجعها إلى ما نُسمّيه بغير إسرافٍ في المداراة أوالمجاملة – أخطاء فادحة في فهم العديد من جوانب رسالة الإسلام، ودورها المنشود في حياة الناس، أفكارهم وسلوكهم وعلاقتهم بغيرهم وتشخيص هذه الأزمة ومناقشة عناصرها، ومحاولة تصويب بعض المفاهيم السائدة في شأنها.

       الثانية، أزمتهم مع العالم من حولهم.. ومع شعوب ليس بينهم وبينها سبب مفهوم للعداوة وسوء الظن.. وإذا كان جانب كبير من هذه الأزمة يرجع إلى تأثيرات دوائر سياسية وثقافية خارج العالمين العربي والإسلامي.. فإن جزءًا منها يرجع إلى قصور من جانبنا في اختيار وسائل «الإعلان عن الذات» والحرص على إقامة علاقات نشيطة مع دوائر الفكر والثقافة ودوائر السياسة، ودوائر أصحاب المصالح في المجتمعات غير الإسلامية وتناول أسباب هذه الأزمة، وبيان أسلوب التعامل معها.

وجهان متناقضان لأزمة الثقافة الإسلامية:

       من علامات الصحة في المشهدين العربي والإسلامي المعاصرين انتشار موجات «النقد الذاتي» للأوضاع السائدة في أكثر المجتمعات العربية والإسلامية.. ومن المؤكد أن الاعتراف الصريح بوجود الأزمة هو أول الطريق إلى الإصلاح والعلاج، كما أن الإصرار على إنكار وجودها هو أول الطريق إلى وقوع الكوارث واستفحال ظواهر التراجع والتردي.. وأمامي وأنا أكتب هذه السطور أربعة كُتب صدرت جميعها في تواريخ متقاربة يتحدث بعضها عما «جري للمصريين» ويتحدث بعضها الآخر عن «أزمة العقل العربي»، و «نقد العقل المسلم».. وكلها شهادات على انتشار إحساس جماعي بالمفارقة الهائلة بين توقعات المستقبل والرؤية التقليدية للذات من ناحية وبين الواقع المتراجع والمتردى لأوضاع العرب والمسلمين من ناحية آخرى.

       ولما كُنا نؤمن إيماناً يوثقه التاريخ، وتؤكده مقاربة الأوضاع السائدة في العالم العربي، وتلك السائدة في أمة المسلمين وهي مقاربة تكشف عن وجود عناصر ومضامين مشتركة أو على الأقل متشابهة أشد التشابه بين الحضارتين العربية والإسلامية.. كما تكشف عن تشابه الأزمة التي يعيشها العالم العربي مع نظيرتها التي يعيشها العالم الإسلامي. فإن ما نقرره ونحن نتحدث عن الثقافة الإسلامية يصلح – إلى حدٍّ بعيدٍ – لتشخيص أزمة العرب كما يصلح لتشخيص أزمة المسلمين.

       وإذا كانت موجة نقد الأوضاع الثقافية السائدة في عالم العرب والمسلمين قد أرجعت جزءًا كبيرًا من الأزمة إلى تردى «الخطابين السياسي والديني».. حتى صارت الدعوة إلى تجديد الخطاب السياسي والخطاب الديني كما لو كانت مفتاح السر في إحداث الإصلاح المنشود.

       فإن تقديرنا أن «الخطاب سياسياً كان أو دينياً» لا يعدو أن يكون وسيلة اتصال بين أفراد المجتمع وشرائحه وفئاته.. إرسالاً واستقبالاً للمفاهيم والمضامين.. أما الأزمة الحقيقية فإنها تكمن هناك، في جوهر الفكر السائد متشحاً أحياناً بأثواب الديمقراطية والليبرالية وحرية التعبير حين يتعلق الأمر «بالثقافة السياسية» ومتخذًا صورة الدعوة إلى الخروج من الجمود، وتشجيع روح الاجتهاد والتجديد في الفقه وفي الفكر حين يتصل الأمر بالثقافة الإسلامية.. وفي الحالتين فإن وضع المسؤولية كاملة على عاتق «الخطاب» يؤجل البث المعمق في «جوهر» و«طبيعة» المفاهيم الأساسية في البناء الفكري «الليبرالية السياسية» وللفهم الصحيح لعدد من المفاهيم الأساسية في الثقافة الإسلامية، وفي الاعتقاد الإسلامي.

       وحين تصاعدت موجات الاشتباك الفكري والسياسي السائد في حياتنا العامة، انكشف الحوار الدائر – عن بُعد – بين المنادين بالحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لمسيرة الإصلاح الشامل، وبين المنادين بالتخلّي عن جوهر هذه الهوية، والانطلاق في براجماتية كاملة لمتابعة الإصلاح وفق المعايير والضوابط ووسائل الحركة التي اتبعتها الدول والشعوب التي سبقتنا إلى النهضة والتنمية والتقدم… نقول كشف هذا الحوار وجود ثغرات هائلة في التعرف على جوهر الثقافة العربية الإسلامية وفي الإلمام – بأي درجة من درجاته – بتاريخ هذه الثقافة ودورها الإنساني والوعي بضرورة أن تتم مسيرة الإصلاح المنشود من داخل هذه الثقافة وتعزيزًا لقيمتها الكبري.. وليس من خارجها، أو انقلاباً عليها.. وقد اقترن وجود هذه الثغرة المعرفية الخطيرة بظاهرة لا تقل خطرًا على مستقبل النهضة في بلادنا، وهي ظاهرة «الجرأة» البالغة في الكتابة والحديث واتخاذ المواقف الحدية المتطرفة دون أن يستند أصحاب هذه الكتابة وذلك الحديث إلى حدّ أدنى من المعلومات والرؤية الثقافية العامة، فضلاً عن الرؤية العلمية الموثقة لعناصر الواقع التاريخي، ولعناصر التُراث الثقافي المتنوّع لمتنا العربية وعالمنا الإسلامي.. وبين هؤلاء الذين يقطعون بالرأي ويسارعون إلى اتخاذ المواقف المسرفة في التطرف من لم يقرأ كتاباً واحدًا وأوشك أن أقول أنه لم يقرأ فصلاً واحدًا من كتاب أي كتاب من كتب تراثنا الثقافي الغنى الذي ملأ الدنيا علماً ومعرفةً وأدباً ونورًا، والذي امتدَّ إسهامه الحضاري إلى بلاد بعيدة عن بلاد العرب والمسلمين.

       إن الحوار في ظل هذه الظواهر الخطيرة يبدو لنا مستحيلاً، وهو إذا بدأ لا يلبث أن يتدهور ليصير مبارزة ومغالبة لا ضابط يضبطها، ولا منهج يحكمها ولا هدف يجمع أطرافها.. إن بين الحوار والمبارزة فارقاً جوهرياً مؤداه أن الحوار محاولة جادة مشتركة بين أطرافها للبحث عن الحقيقة والسعي لمواجهة تحديات قائمة عن طريق توظيف التعددية، واختلاف الآراء وزوايا النظر توظيفاً يخدم الأهداف المشتركة بين أطراف الحوار.. أما المبارزة فهي اقتتال يحرص أطرافه على إزاحة الآخر وهزيمته وإقصائه عن الساحة، ولو تم ذلك كله على حساب القضية موضوع الحوار.. وفي تقديري أن الذي يدور بيننا هذه الأيام ليس حوارًا بالمعنى الصحيح تحكمه روح المسؤولية، والرغبة الصادقة في التعاون مع سائر الأطراف لدفع أخطار حقيقية حالة توشك أن تصيبنا جميعاً، مع الالتزام بأمانة الكلمة وعفة القلم واللسان، واحترام الآخرين، كل الآخرين، محافظة على الود وحرصاً على تواصل الحوار.. ولكنه مبارزة واقتتال تضيع معه القضية، ويحرص أطرافه على إخلاء الساحة من كل من عداه.. وهو – في حالته الراهنة – صراع بين الذين يدافعون عن هوية الأمة وثقافتها العربية الإسلامية وبين الذين تسكنهم مخاوف هائلة من ظاهرة المد الديني الذي غلبت على بعض فصائله روح التشدد والعدوان.. إنه في عبارة واضحة اشتباك عقيم يحكم أحد أطرافه الخوف على الدين، ويحكم الطرف الآخر الخوف من الدين وتصاعد موجة التدين.. وليت الطرفين جميعاً يتوقفون عن المداورة والمراوغة والاستتار وراء أقنعة يخفون وراءها مخاوفهم والهواجس التي تطاردهم، وبعضها مفهوم ومشروع وبعضها الآخر لا هو مفهوم ولا مشروع.. وما لم تُخلع هذه الأقنعة فسيظل الحوار الدائر مجرد ملاسنة وقتال بالأقلام المشرعة لإقصاء الآخر وتفكيك المجتمع وهو كارثة نشترك جميعاً في تحمّل مسؤوليتها.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الاولى 1434 هـ = مارس ، أبريل 2013م ، العدد : 5 ، السنة : 37

Related Posts