الفكرالإسلامي

بقلم : معالي الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/الرياض(*)

          ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين إلى الإسلام، حيث يعتبر ممن أعز الله بهم الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة وهم أحياء، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

       (أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ بن كعب، ولكلّ أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر أشبه بعيسى عليه السلام في ورعه) قال عمر أفنصرف ذلك له يا رسول الله، قال نعم:

       ولد عثمان بمكة، وأسلم بعد البعثة بقليل، وكان غنيًا شريفاً في الجاهلية، ومن أعظم أعماله في الإسلام، تجهيزه جيش العسرة بماله الخاص، حيث قيل: إنه تحمل نصف هذا الجيش، إذ بذل ثلاثمائة بعير، بأقتابها وأحلاسها، وتبرع بألف دينار، وهو أول من اتخذ داراً للقضاء، بين الناس إذ كان أبوبكر وعمر يجلسان في المسجد، وقد روى عن رسول الله (146) حديثاً.

       قال ابن الأثير في «أُسْد الغابة، في معرفة الصحابة»: أسلم في أول الإسلام، دعاه أبوبكر وأظهر إسلامه، دعا إلى الله عز وجل، ورسوله عليه الصلاة والسلام، وكان أبوبكر رجلاً، مولفاً لقومه محبّباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش. وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجاربه، وحسن مجالسته، فجعله يهتم ويدعو إلى الإسلام، من وثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه – فيما بلغني – الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وغيرهم ممن ذكر.

       فانطلقوا ومعهم أبوبكر، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا وأصبحوا مقرين بحق الإسلام، فكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا للإسلام، فصلّوا وصدّقوا.

       ولما أسلم عثمان زوجه النبي بابنته «رقية» وهاجر كلاهما إلى أرض الحبشة الهجرتين، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، ولما قدم إليها نزل على أوس بن ثابت أخي حسان، ولهذا كان حسان يحب عثمان ويبكيه بعد قتله.

       وتزوج بعد رقية، أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا سمي بذي النورين، فلما توفيت قال صلى الله عليه وسلم: لو كان لنا ثالثة لزوجناك.

       أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن لي أربعين بنتاً، زوجت عثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة) كما جاء في «أُسد الغابة».

       ومن فضائله رضي الله عنه، على ما ذكر – فقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان بن عفان منها:

       – روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه – أو ساقيه – فاستأذن أبوبكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوى ثيابه.

       قال محمد بن أبي حرملة: ولا أقول ذلك في يوم واحد، فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبوبكر فلم تهش ولم تُبَاله، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلَسَت وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة (عندمسلم في فضائل باب فضائل عثمان :1/240).

       – وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خبّاب، قال: شهدت رسول الله وهو يحث على تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مئتا بعير، بأحلاسها وأقتابها، في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان فقال: علي ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

       فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر، وهو يقول: ما على عثمان ما فعل بعد هذه، ما على عثمان ما فعل بعد هذه.

       وروى النسائي والترمذي عن ثمامة بن حزن القشيري رحمه الله، من حديث قال فيه: أشرف عثمان على الناس يوم الدار، فقال: أنشدكم بالله والإسلام، زاد رزين: ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله: هل تعلمون أن رسول الله قدم المدينة، وليس بها ما يستعذب إلا بئر رومة، فقال: من يشتريها ويجعل دلوه فيها، مع دلاء المسلمين، بخير له في الجنة؟

       فاشتريتها من صلب مالي، وأنا اليوم أمنع أن أشرب منها، حتى أشرب من ماء الملح؟

       قالوا: اللّٰهم نعم، قال: وأنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، (يعني مسجد رسول الله).

       فقال رسول الله: من يشتري بقعة آل فلان، فيزيدها في المسجد بخير منها له في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، وأنا اليوم أمنع أن أصلي فيه ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم قال: وأنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله قال: من جهز جيش العسرة، وجبت له الجنة، وجهزته؟ قالوا: اللهم نعم قال: وأنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أني كنت على ثبير مكة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، فتحرك الجبل، حتى سقطت حجارته بالحضيض، فركضه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: أسكن ثبير، فإنما عليك: نبي وصديق وشهيدان؟

       فقالوا: الله نعم فقال عثمان: اللهم أكبر شهدوا لي بالجنة، ورب الكعبة: ثلاثاً.

       وأخرج الترمذي عن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان، كان عثمان بن عفان، رسول رسول الله إلى أهل مكة، فبايع الناس فقال رسول الله: إن عثمان في حاجة الله، وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: هذه لعثمان، فكانت يد رسول الله لعثمان، خيراً في أيديهم لأنفسهم.

       وكان أبوبكر قد جمع القرآن، عندما خشي عليه الضياع، بقتل القراء في حروب الردة، وأبقى ما بأيدي الناس من الرقاع، والقراطيس، فلما ولي عثمان: طلب مصحف أبي بكر، فأمر بالنسخ عنه، وأحرق ماسواه، وجمع الناس على مصحف واحد، أرسل نسخاً منه للأمصار، عرف فيما بعد وحتى الآن بالمصحف العثماني.

       وأورد ابن الأثير في كتابه «أُسْد الغابة»: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قيل له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن عثمان بن عفان. فقال: ذاك رجل يُدْعَى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان خَتَن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ضمنَ له بيتاً في الجنة. وأورد أيضاً عن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله: (لكل نبي رفيق ورفيقي – يعني في الجنة – عثمان).

       أما عن فقهه:

       فإن عثمان رضي الله عنه، من كبار فقهاء الصحابة وعلمائهم، أخذ العلم عن مدرسة النبوة، إذ لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أنْ انتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم لزم صاحبيه: أبابكر وعمر، وكانا يستشيرانه في كثير من المسائل، وبعد تولي أمر المؤمنين، كان يجلس للفصل بين الناس، في دار اتخذها للقضاء.

       ولمكانته في الفقه، نرى كتب الفقه جميعها تستأنس بمسائله واجتهاداته وفهمه للسنة، رضي الله عنه.

       فمثلا: نرى ابن قدامة في كتابه المغني، يورد في مسائل عثمان بن عفان (270) مئتين وسبعين مسألة.

       وابن رشد القرطبي، في كتابه البيان والتحصيل يورد: من مسائل عثمان (150) مئة وخمسين مسألة.

       وأحمد الونشريسي في كتابه «المعيار المعرب والجامع المغرب» عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب يورد لعثمان بن عفان رضي الله عنه (88) ثماني وثمانين مسألة.

       والكتاني في معجم فقه السلف أورد (117) سبع عشرة ومائة مسألة.

       وهكذا نجد جميع كتب الفقه، على المذاهب الأربعة كلها تحفل بمسائل عديدة، من فقه عثمان، وهم بين مقل ومكثر، مما يبرهن على سعة علمه ورسوخ قدمه في فهم المسائل الفقهية، والحرص عليها تعلماً وتعليماً واجتهاداً وتطبيقاً، وهذا ما حدا بالدكتور: محمد رواس القلعة جي، إلى تجميع ما تيسر له من فقه عثمان، وأخرجها في مجلد يضم بين دفتيه (366) صفحة، مع فهارسه سماه: موسوعة فقه عثمان بن عفان مطبوع.

       ولذا فإنه رضي الله عنه، قد ذكرت له أولويات، وآراء متميزة، فقد قال محمد بن سيرين، فيما حدّث ابن عون، أن عثمان كان أعلم الصحابة بالمناسك، وبعده ابن عمر.

       كما كان رجلاً تاجرًا في الجاهلية والإسلام، وكان يدفع ماله قراضاً، وكان يدفع لبعضهم مالاً مضاربة على النصف.

       ويعتبر من أولياته: أنه من زاد في المسجد الحرام، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك وقفاً لله تعالى.

       وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من أمر بالأذان الأول يوم الجمعة.

       تقول (بنانة) وهي مولاة لامرأة عثمان: أن عثمان كان إذا اغتسل جئته بثيابه فيقول لي، لا تنظري إلي فإنه لايحل لك، كما قالت (بنانة) كان عثمان يتنشف بعد الوضوء.

       ولما قُتل رضي الله عنه ودخلت الغوغاء داره، انتهبوا متاعة فقالت زوجته: نائلة بنت الغرافصة: لصوص ورب الكعبة، يا أعداء الله ما ركبتم من دم عثمان أعظم، أما والله لقد قتلتموه صواماً قواماً يقرأ القرآن في ركعة.

       وفي فقه عثمان يقول القلعة جي: يجوز للإمام أن يجعل جُعلاً، لمن يقوم بمصلحة من مصالح المسلمين، كالأذان والإمامة في الصلاة والقضاء، وتعليم القرآن والعلم، وقد رزق عثمان المؤذنين، ويعتبر هو أول من رزق المؤذنين من بيت المال.

       وكان عثمان يرى أن المقتتلين، إذا اقتتلا فما كان بينهما من جراح فهو قصاص، أما جناية المدهوش، وهو من كان في فورة دم، فيظهر من قصة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، بعد مقتل عمر: أن عثمان يرى أن المدهوش، إذا جنى على غيره، فإن جنايته لها حكم جناية الخطأ، والواجب فيما الضمان لا القصاص، يقول عبد الرحمن بن أبي بكر: حين قتل عمر بن الخطاب، انتهيت إلي (الهرمزان) و (جُفَيْنَة) رجل نصراني، وأبي لؤلؤة وهم: بحي، فساروا فتبعتهم فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصابه في وسطه، فقال عبد الرحمن: انظر بما قُتل عمر، فوجدوه على النعت الذي نعت عبد الرحمن. ولما رأى ذلك عبيد الله بن عمر، خرج مشتملاً سيفه، حتى أتي الهرمزان فقتله، ثم أتى جفينة فقتله ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة فقتلها، ثم أقبل بالسيف مُصْلَتاً بيده، وهو يقول: والله لا أترك بالمدينة سبياً إلا قتلته، وغيرهم يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون له: ألق السيف، ويهابون أن يقتربوا منه، حتى أتاه عمرو بن العاص فتلطف به، وقال: أعطني السيف يا ابن أخي فأعطاه إياه. ويظهر أن عثمان قد وقف أمام هذا الحدث مفكراً، فرأى أن عبيد الله لم يقدم على فعلته إلا لأنه فقد اتزانه ومحاكمته وتصرفاته وكلامه لا يصدر عن عاقل، وهذه شبهة تسقط القصاص.. إلى آخر ما تناقلته كتب الفقه.

       وفقه عثمان ومسائله كثيرة يستند إليها الفقهاء والقضاة رضي الله عنهم.


(*)  مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الثاني 1434 هـ = فبراير ، مارس 2013م ، العدد : 4 ، السنة : 37

Related Posts