الفكرالإسلامي

بقلم:  أ. د. عبد الحليم عويس رحمه الله

عندما نتكلم عن ظاهرة التمزق وصولاً إلى أمور تفضي بنا إلى التوحيد، فإن أذهاننا سرعان ما تتجه إلى هذا التمزق الفكري والسياسي الذي تعيشه الأمة المسلمة في قرونها الأخيرة.

       وكثيرًا ما انطلق الغيورون والنطاسيون إلى تشخيص الواقع الإسلامي والكشف عن علله وأسقامه في محيط الأمة الإسلامية بصفة عامة، ومن ثم يقدمون بعض وسائل العلاج من وجهة نظرهم التاريخية أو من يستلهمونه من سنن الله المبثوثة في القرآن الكريم.

       وقد كنت ممن مشوا في هذه الطرق، وكتبتُ بعض الدراسات حول فقه التاريخ، و وسائل تقدم المسلمين، لكني وأنا أفكر في كتابة هذه الكلمة الوجيزة تذكرت البوسنة والهرسك، و «على عزت بيجوفيتش» المفكر الإسلامي الكبير، وبالتالي حاولت استدعاء ما رسخ في ذهني من أفكار بيجوفيتش.. إنها تلك المضامين والأفكار التي تحمل أعماقاً بعيدةً، ورؤى جديدةً، في تشخيص الواقع، وفي التوطئة لمستقبل يتسم بالعمل الجماعي، ليس عبر المحيط الجماعي الإسلامي فحسب.. لكن عبر العالم كله.. وليس عبر (الإنسان المجموع) فحسب، ولكن عبر (الإنسان الفرد) الذي يجب أن يعاد تشكيله أيضاً، كما يتوحـد في داخل نفسه، ويصبح كلاً لا يتجزأ!!

       – إن محاولة تحقيق نوع من التوحد والاعتصام بالإسلام من خلال أفراد ليسوا أناساً متوحدين ولا معتصمين محاولةً قد ثبت فشلها.. فكيف يتأتى أن تجمع أناساً متناقضي التركيب متصادمي الوجدان يتجه عقلهم إلى أمرٍ، ويتجه قلبهم إلى أمرٍ آخر.. كيف يتأتى أن تجمع هذه الكائنات المتناقضة بحيث تصبح مجتمعاتٍ إسلاميةٍ أو إنسانيةٍ غير متصادمةٍ.

       – لنتذكر هنا أن القرآن الكريم لم يقدم لنا قضايا منفصلةً ذات وحدة موضوعية، كما يطالب الفكر العلمي الجزئي التحليلي الذي يقسم الإنسان، ويرى أن المادية في الإنسان يمكن أن تنفصل عن الروحية أو العقلية فيه..

       – لكن القرآن الكريم وهو الكتاب الذي جاء لبناء الإنسان الفرد المنسجم المتكامل، ولبناء المجتمع المتساند، والإنسانية المتحاورة المتسالمة المستشرفة للقيم العليا.. هذا القرآن الذي جاء يهدي للتي هي أقوم اتخذ (التركيب) منهجاً، و (المزج) بين شتى الجوانب خطةً ملائمةً للتعامل مع الإنسان المركب الذي لا يتجزأ، وهكذا يتم التطابق بين الفكر والموضوع، والعلاج والحالة المعالجة: «صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً».

       – وقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – إذا استثنينا نصيبهم من الجانب الإنساني – بشرًا نجح الإسلام من خلال التربية القرآنية والنبوية في جعلهم منسجمين يملكون إرادتهم، وتنسجم العقول مع القلوب فيهم..

       – فهم يقودون نفوسهم وأهواءهم وأفكارهم على النحو الذي يريده الإسلام، وهم يجلسون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن على رؤوسهم الطير، وهم يجتنبون فورا الخمور وغيرها عندما يقول لهم كتاب الله: ﴿فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ﴾، ولا يسقطون إلى هاوية الضعف التي ينحدر إليها المدخنون والمدمنون الآن، وهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وهم كذلك: ﴿تَتَجَافىٰ جُنُوْبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ﴾، ﴿وَلاَ يَجِدُوْنَ فِيْ صُدُوْرهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوْتُوْا وَيُؤْثِرُوْنَ عَلىٰ أَنْفُسُهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

       – وبالتالي كان ميسورًا من خلال هذه الأبنية البشرية المنسجمة في داخلها أن يقوم مجتمع في المدينة ينسجم في داخله أيضاً، ويتعامل مع الخارج بدرجةٍ كبيرةٍ من التضحية والانسجام.

الأخوة الإسلامية

       – إننا هنا في حاجة إلى هذه البدايات ونحن نسعى إلى التوحد والعمل الجماعي والاعتصام.. ونحن في حاجة إلى إعادة (الأخوة الإسلامية) بكل شروطها.. وفي حاجة إلى (التكافل الاجتماعي المادي والمعنوي)، وفي حاجة إلى عودة (المسجد لوظائفه الشمولية) وليس العبادية فقط، كما يجري في عصرالتمزيق القهري للإسلام، وفي حاجة – أخيرًا – إلى دستور يربط بين وظيفتنا الإسلامية و وظيفتنا الإنسانية مع غير المسلمين، بحيث نستشعر واجبنا نحو السفينة الإنسانية المهددة بالغرق، وبحيث تشعر الإنسانية من جانبها بأننا نهتم بها، وأننا مسلمون نقدم السلم لكل الناس، لعلهم يدخلون في السلم كافةً، ونقدم الرحمة العالمية انطلاقاً من رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي حددها الله له بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾.. ونحن مطالبون بالسير على نهجه.

       – إن عصورنا الحديثة قد انتهت بالبشرية إلى وضع حواجز سميكة بين المادية والروحية، وبذلك مزقت الإنسان من داخله، ثم مزقت الإنسانية الكبيرة أيضاً، وكما انقسم الأفراد إلى روحيين يخضعون لفلسفة الرهبنة والانسلاخ من العالم الموضوعي، وماديين لا يؤمنون بالروح ولا بالدين، بل يفسرون الحياة والإنسان تفسيرًا اقتصادياً ومادّياً – كذلك انقسمت البشرية في مجموعها إلى ماديين لا دينيين وعلمانيين يحصرون الدين في علاقته الخاصة بين الله والإنسان، ولا علاقة للدين بجوانب الحياة المختلفة، وآخرين متدينين يميلون إلى الدين بمعناه الأخروي الروحي المنسلخ أيضاً من الحياة الدنيوية.

       لكن الإسلام كما جاء في القرآن (وهو الكتاب الذي أبى هذه الانشطارية والتمزيقية، وكما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياة الصحابة الذين رباهم القرآن والرسول).. هذا الإسلام كما أنقذ البشرية في الماضي من هذه الثنائيات المتصادمة لابد أن يتقدم الآن – بإذن الله – لإنقاذ سفينة الإنسانية من هذه الثنائيات السائدة في عالمنا المعاصر، وبالتالي لابد من إيجاد (الإنسان الفرد) الذي لا تتنازعه التيارات الثنائية، ولا يتمزق في داخله، بل يواجه العالم بإرادة إيمانية علمية واحدة، عليها يحيا وعليها يموت!!

       – وليس وحده (على عزت بيجوفيتش) هو الذي يأخذ بأيدينا إلى هذا النوع من التدرج العملي نحو التوحد انطلاقاً من (الإنسان الفرد المتوحد في ذاته، وصولاً إلى (المجتمع المتوحد) من خلال أفراد متوحدين في الإطار الذي تطيقه الطبيعة البشرية إننا نجد مفكرًا آخر يكشف لنا عن أن هذا التوحد والانسجام في طبيعة الإسلام هو الذي جعله يترك يهوديته ويعتنق الإسلام.

       – إن (ليوبولدفايس) أو (محمد أسد) يصرح لنا بأن ما جذبه إلى اعتناق الإسلام ليس تعليماً خاصاً من التعاليم.. بل ذلك البناء المجموع العجيب والمتراص بما لا تستطيع له تفسيرًا.. من تلك التعاليم الأخلاقية بالإضافة إلى منهاج الحياة العملية.. إن الإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بها بعضاً، فليس هناك شيء لا حاجة إليه، وليس هنالك نقص في شيء، فنتج عن ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص، ولعل هذا الشعور من أن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي(1).

       – وهذا الكلام الذي يقوله محمد أسد (اليهودي سابقاً) نجد كثيرًا من التطابق بينه وبين ما يقوله المناضل الإسلامي الكبير (بيجوفيتش) من خلال صفحات كتابه الرائع (الإسلام بن الشرق والغرب)(2).

       – إن (بيجوفيتش) يذكر لنا أن تعريف الإسلام الصحيح يعلو به عن أن يكون مركباً يؤلف بين الدين والمادية، ويقف موقفاً وسطاً بين المسيحية والاشتراكية؛ ذلك أن الإسلام ليس وسيطاً حسابياً بسيطاً، ولا قاسماً مشتركاً بين تعليم هاتين العقيدتين فأركان الإسلام تعبير عن شعور فطري ويقين معبر عنه بصورة واحدة لا تقبل التجزئة، حتى وإن تضمنت الثنائيات في داخلها، والقرآن نفسه يبدو وكأنه مركب من عناصر متناثرة، ولكن لابد أن يكون مفهوماً أن القرآن ليس كتاباً أدبياً، وإنما هو حياة.. فالتعليق الوحيد الأصيل على القرآن هو القول بأنه (حياة) فالإسلام في صيغته المكتوبة (أعنى القرآن) قد يبدو بغير نظام في ظاهره من ناحية تعدد الموضوعات، ولكنه في حياة محمد صلى الله عليه وسلم (الإنسان النموذج) قد برهن على أنه وحدة طبيعية (متطابق مع وحدة الكينونة الإنسانية).. فهو وحدة من الحب والقوة. والعدل، والرحمة، والمتسامي، والواقعي، والروحي، والبشري.. هذا المركب المتفجر حيوية من الدين والسياسة يبث قوة هائلة في حياة الشعوب التي احتضنت الإسلام.. في لحظة واحدة يتطابق الإسلام مع جوهر الحياة.

       ويؤكد (بيجوفيتش) على أنه من أجل مستقبل الإنسان ونشاطه العملي يهتم الإسلام بالدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه.

       إن الإسلام هو – وينبغي أن يظل كذلك – البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الداخلي والخارجي.. هذا هو هدف الإسلام اليوم، وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل.

       – هكذا تكلم (بيجوفيتش). وما قال إلا حقاً!!

*  *  *

الهوامش:

محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق. ترجمة عمر فروخ – دارالعلم للملايين ص15.

انظر كتاب الإسلام بين الشرق والغرب – صفحات كثيرة – طبعة ميونيخ (مؤسسة باقاريا) ألمانيا – وبيت التمويل الكويتي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37

Related Posts