إشراقة

الإنسانُ عندما يزرع خيرًا، يحصد حبًّا و وفاءً ودعاءً. واصطناعُ المعروف عند أحد أحسنُ وجوه الخير، ولم أَرَ حسنةً من الحسنات تَعْدِلُه – فضلاً عن أن تفوقه – في اللذّة والجمال. إنّه جميلُ الظاهر وطَيِّب الباطن معًا؛ من هنا يقال له »الجميلُ« أيضًا، كأنّه الفردُ الْمُطْلَق للجميل، إذا أُطْلِقَ أريد به المعروفُ الذي يُصْنَع إلى أحد، ولا يراد به غيرُه ألبتَّةَ. كما يقال له »المعروف« أيضاً، كأنّه الشيء الوحيد الذي يعرفه العقلُ الإنسانيُّ والشرعُ الإسلاميُّ، وضدُّه »الْمُنْكَر« الذي يُنْكِرْه العقلُ والشرعُ معًا. كما يقال له »العارفة« والباءُ في الكلمة للمبالغة وليست للتأنيث، فكأنّ الجميل أو المعروف هو الشيء الوحيد الذي يعرف الإنسانَ أكثر من غيره أو يعرفه الإنسانُ معرفةً لا يعرفها غيرَه من أشياء الكون التي لا تُعَدُّ، كما يقال له »الصنيع« فكأن العمل الأصليّ الوحيد الذي ينبغي أن يصنعه الإنسانُ ويقوم به هو المعرف الذي يصنعه إلى أحد، أمّا غيرُه من الأعمال فإنّما يقوم به تَجَوُّزًا وتَرَخُّصًا.

       وقد صَدَقَ أَيَّما صدق وأجاد وأفاد أَيَّما إجادة وإفادة الشاعر العربيّ الذي قال مُعَبِّرًا عن معنى المعروف والجميل أبلغ تعبير وأصدقه وأوفاه:

وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ

فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُـهُ فَجَمِيلُ

       إنّ المعروف لذيذٌ عزيزٌ حُلْوٌ شَهِيٌّ يَلَذَّهُ صَانِعُه ومن يُصْنَع إليه ويستحليانه معًا، ويطيبان به في وقت واحد، كما يَقَرُّ به عيناً كلُّ من يرى أحدًا يصنع إلى أحد الجميلَ ويَبَرُّ به: يرى رجلاً يأخذ بيد أعمى كاد يقع في حفرة؛ يرى شابًّا يُمْسِك بيد عجوزة ويُركبها القطارَ، وكادت تزلّ من دَرَج عربته التي حـاولت أن تدخـل إليها؛ يرى غلاماً يُقَطِّع خُبْزًا ويُؤْكله لقمة لقمة شيخاً ضعيفًا لا يكاد يتناولـه بنفسه؛ يرى بنتاً تساعد أمَّه على القيام بشؤون المنـزل؛ يرى ابناً يساعد والدَه على القيام بكثير من الأمور اليوميّة التي تعنيه فيما يتعلق بشخصه أو بالعائلة أو بالمجتمع؛ يرى رجلَ الدينا يَطَّرِحُ على عتبة رجال الدين، ويتواضع لهم، ويُقَدِّم إليهم كلَّ خدمة عن طواعية ورضا قلب؛ يرى الأثـــرياء ورجـال الأعمال والمـال يتسـابقـون إلى مسح دمــوع البائسين والفقراء والمحتاجين والمتضـررين الذين لايُحْصِي عددَهم وأنواعهم إلاّ من أَحْصَىٰ أشعارَ غنم بني كلب أو رَمَلَ عالج؛ يرى الأمير يسعى لتحقيق حوائج الفقير. ونِعْمَ الأميرُ على باب الفقير وبِئْسَ الفقيرُ على باب الأمير.

       وكذلك يرى الأصحاء الأقوياء يَعْكُفُون على خدمة المرضى الضعفاء، ويرى الموفورين يضعونَ إمكانيّاتهم لتوفير جميع تسهيلات يحتاج إليها المنكوبون؛ ويرى كلَّ نوع من الْمُرَفَّهِي الحال يكفل حاجات ذوي الحاجة في المجتمع.

       وأستطيع أن أحلف بالله الذي يعلم السرَّ وأخفى، أني لم أَرَ جمالاً أجمل من البرِّ الذي يُسْدِيه الفتى إلى أحد في المجتمع البشري، ولا زينةً أَزْيَنَ من الجميل الذي يصنعه إلى أحد في الكون، ولا مفخرةً أَفْخَرَ من الخير الذي يفعله مع أخيه في المجتمع حوله، ولا بهاءً أَبْهَىٰ من الخدمة اللازمة التي يقوم بها نحو ملهوف عضّه الدهر بنابه أو نحو يتيم انحسر عن رأسه ظلّ أبيه، أو نحو أرملة لاسندَ لها بعد زوجها الذي فارقها في ريعان الشباب وعنفوان الأمل الحالم والرجاء الباسم، أو نحو عجوز فقد ابنَه الوحيدَ الذي كانت قد اختصرتْ فيه كلُّ أمانيه، أو نحو امرأة عجوز أظلمتْ عليه الدنيا بعد موت وحيدها الشابّ الذي كان هو دنياها كلَّها يَطْلُع عليها من أي جانب من جوانب دارها الواسعة فينير لها كلَّها كما ينير لها جنباتِ الدنيا كلِّها.

       لاخير في الدنيا إذا خلت من هذه القيمة الكبيرة التي اسمها »العارفة« أو »الجميل« أو »المعروف« أو «الصنيع« أو »البرّ« أو ما إلى ذلك من الكلمات. إنّها أغلى القِيَم، وأشرف الأعمال، وأَعَزُّ الصنائع، وأَحْوَجُ الحاجات، وأَلَحُّ الضرورات، وأَحَبُّ المطالب. بفضلها يسير من الأعمال الخيريّة ما لا يُعَدّ، ويسير من المدارس والجامعات الأهليّة الإسلاميّة ما لا يُحْصَىٰ، ويعمل من المراكز والجمعيّات والمنظمات الإسلامية ما لا يقبل الحصر؛ وبها يتمّ الإبقاء على حياة أناسيّ لا يُعَدُّون، وتُغَطَّى ضرورات نفوس لا يأتي عليها الحصر؛ وبها تنشط مستشفيات ومستوصفات وعيادات خيريّة تعمل ليل نهار وفي السلم والحرب وعلى جبهات القتال وفي غمار الحرب الدامية والاشتباكات الشديدة؛ وبها يجري تجهيز وتكفين ودفن موتى لا يعدّون يُعْثَرُ عليهم في العراء أو في الخلاء ولم يوجد من يقوم فيهم بما يجب نحوهم على الأحياء بعد الموت، وبها يُعطْعَمُ الجيعان، ويُسْتَر العريان، ويُعَالَج المرضى، ويُجْبَر كسرى العظام، ويُوَاسَى الحَزْنَى، ويُعْطَف على كلّ من نَبَا به الدهرُ أو انفضَّ عنه المعارفُ والإخوانُ أو خَذَلَه الأقاربُ أو من ترتبطه به صلةٌ من الصلات، أو أعراه الأصدقاءُ والندماءُ الذين كان جِمَاعَهم ورِبَاطَهم.

       رأيتُ شابًّا لم يكن بمكان من الجمال والوجاهة الشخصية؛ بل كان مائلاً إلى قباحة الصورة، يحنو على رجل وامرأة كانا على درّاجة ناريّة داستهما سيّارةٌ مسرعةٌ آتيةٌ من الجانب المقابل وتَرَكَتْهما مُصَابَيْن بجروح غائرة مُضَرَّجَيْن بدماء فوّارة منها، على شارع يُخَيِّم عليه السكونُ لا داعي به ولا مجيب لمسافات شاسعة، ويمسح دماءهما ويضع على جروحهما بعضَ ما عنده من القطن الطبّي ومن المرهم ومن أدوية الإسعاف الطبّي الأوّلي الذي كان يتوافر في سيّارته، وكان يسقيهما من المياه الـمُعَبَّأَة التي كانت لديه في سيارته ليستعين بها لدى الصدى يصيبه في رحلة من الرحلات، ويلقي في فميهما كسرات من البسكويت الموجود لديه بعد ما شعر بإفاقة في حالتهما تلك البائسة.

       فبدا لي ولمن حولي من بعض المسافرين الذين أَوْقَفَهم الحادثُ المؤلمُ أجملَ شابّ وقعت عليه عيناي وعيونهُم؛ حيث شُغِفْتُ وشُغِفُوا بشخصه شغفاً لم أُشْغَفْ بأحد في حياتي منذ أدركتُ الجمالَ واكتنهتُ الحبَّ ولذِذْتُه، وحَسِبْتُ عندَها كأن الجمال كلَّه اجتمع فيه، وأنه وحده موضعُ الحبّ ومحطُّ الأنظار ومهوى الأفئدة، وأن مثله لم يولد لحدّ اليوم، وأنه الحبيب رقم واحد لكل من يودّ أن يحظى بالحبيب الذي يصفو فيه الحب من جميع المكدرات.

       وعلمتُ برجل كان أجملَ ما يكون أَغْفَلَ عن كَهْل أصابتْه نوبةٌ قلبيةٌ شديدةٌ حالةَ نزوله من حافلة النقل الجماعيّ، وما هي إلا ثوانٍ حتى أُغْمِيَ عليه، والرجلُ مشغول بشأنه الشخصيّ، يُرَتِّب عَفْشَه، ويُنَسِّق حقائبه، ويشتري حبّات الموز من البائع الجوّال، ويتناولها إحدى بعد الأخرى، ثم يُشْعِل السيجارَ ويُدَخِّن به، و »يتفرّج« على منظر الـمُغْمَىٰ عليه، وينتظر حافلةً أخرى، ذاهبة إلى مدينته، وما إن تحضر حتى يركبها إلى منزله، دون أن يستيفظ فيه إنسانيته، ويلومه ضميره.

       فبدا لكلّ من علم بالقصّة أقبح ما يكون؛ لأنه تجاهل عن كل معنى من معاني البرّ والإحسان والمعروف في الوقت الذي صرخت هي في وجهه، ونادته بلسان الحال، وحَرَّكت ضميره المتجمد، وخاطبت إنسانيته الميتة دونما فائدة.

       إنّ أجمل الرجال يبدو أقبح ما يكون إذا قصَّر في القيام بالمعروف في الوقت الذي يتطلب هو منه أن يقوم به، وأقبحُ الرجال يبدو أجمل ما يكون إذا قام به في وقت الحاجة إليه.

       أجل، المعروفُ يُعَرِّف بالإنسان، ويُظْهِر خيره وشرّه، ويبديه على ما هو عليه من الصلاح والفسـاد، ومن الإنسانيــة وعـدم الإنسانية، ومن حياة الضمير وموتــه.. إذا قام به وسَابَقَ إليه وحَرَصَ عليـه، عُلِمَ أنه إنسان بمعناه، يصلح أن ينفع نفسَه وغيرَه ويعمر الكونَ بالفضائل والمكرمات، ويبني أولاه وعقباه، ويزرع الحسنات ويحصدها أضعافاً مضاعفةً. وإذا تَنَـكَّرَ لـه واستنكف منه، عُلِمَ أنه إنسانٌ فقط بلحمه ودمــه وصورته، وبهيمةٌ بالنسبة إلى صفاتــه وعاداته، لا يقدر أن يُسَجِّل مأثرةً، ويُخَلِّد ذكـرًا، أو يُقَدِّم للآخرة زادًا يُخَلِّصه من هول يوم القيامة الذي لاينفع فيه مالٌ ضاع دون الحسنات، ولا بنون لم يُؤَدُّوا دورَ »صدقةٍ جارية« وإنما ينفع فيه القلب السليم الذي يكون قد وصل صاحبَه بربّه ودفعه إصلاح الآخرة على حساب العاجلة.

       الجميلُ يُجمِّل صاحبَه مهما كان قبيحَ الصـورة، ويُحَبِّبـه إلى الخلق مهما فَقَدَ بهاءَ البشرة، ورونق الوجه؛ لأن جمالَ الخلق، وزينة السيرة، وبهاء السريرة، ورونق المعروف، وملاحة الصلاح، وصباحـة البرّ تغلب دائماً الجمالَ الظاهر، وتُكْسِبُ المتحليَ بها من الحبّ والقبول الثابت ما يتضاءل أمامه الحبّ الذي يدفع إليه جمال الوجه.

       البرُّ والمعروفُ يُطِيل قامةَ الإنسان مهما كان قصيرَ القامة في الظاهر، فيتضاءل أمامه الطِّوَالُ القاماتِ كلُّهم إذا كانوا بخلاء أشحاء يضنّون بكل ما عندهم على كل ذي حاجة بائس فقير منكوب. وقد صدق الشاعر صدقاً لا يفى أبدَ الآبدين:

إِذَا كُنْتُ فـي الْقَــــــوْمِ الطِّوَالِ

عَلَوْتُهُمْ بِعَارِفَةٍ حَتَّى يُقَالَ: طَوِيلُ

إِلَّا يَكُــنْ عَظْمِي طَوِيلاً فَــإِنّني

لَهُ بالْخِصَـالِ الصَّالِحَـات وَصُولُ

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأربعاء: 29/ذوالحجة 1433هـ = 14/نوفمبر 2012م)

أبو أسامة نور

nooralamamini@gmail.com

* * *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37

Related Posts