دراسات إسلامية

بقلم : الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)

مُسحّر  رمضان (المسحراتي)

       الفنان الرمضاني الأول وصاحب الجاذبية والتأثير الوجداني.

       كان المُسحّر، أو المسحراتي، معلماً من معالم رمضان الرئيسية، وكان شخصية أثيرة يُنتظر ظهورها مع انتظار الشهر الفضيل وتحنناً لقدومه. وإذا كانت تسمية «المُسحّر» مشتقة من «السحور» أي تناول وجبة في وقت «السّحر» فإنه اكتسب أيضاً بعض معاني الجذر الآخر: «سحر» بما اكتسبه من جاذبية وتأثير وجداني، وخاصة بالنسبة للأطفال والصّبية.

       أن المُسحّر لم يحقق هذه المكانة دفعة واحدة، وإنما نمت هذه المكانة بنمو عمله في التسحير إلى أن أصبح مهنة متخصصة. ومن ثم توفّر المسحر على قدراته الفنية، ووسع محفوظه وأثري أساليب أدائه، حتى يقدم عرضاً فنياً متكاملاً: قولياً وموسيقياً ودرامياً. وواضح أن المجتمعات الشعبية قد عملت على تحول التسحير من عمل عارض ومؤقت إلى مهنة وتخصص، بأن جعلته عملاً مأجورًا يتشارك أبناء المجتمع المحلي في دفع مكافأته، عيناً أو نقدًا. وقصد المجتمع الشعبي بذلك أن يتيح للمسحر التفرغ والحافز لتجويد عمله وتنميته، وبذا انتقل عمل المسحر من مجرد تنبيه الناس إلى حلول موعد تناول وجبة السحور، وأصبح عمله بالإضافة إلى التنبيه والإعلام عن الوقت – أداء فنون من القول والموسيقا والحركة، مما جعل الوظيفة الجمالية في أدائه برز على حساب الوظيفة الإعلامية. وكان هذا التحول في كيفية عمل المسحر مثارًا لصعود مكانته وتوطد دوره في الحياة الشعبية؛ ولكنه أصبح أيضاً – سبباً في هبوط هذه المكانة و وشوكها على التلاشي في أيامنا هذه، ما لم يتمكن المسحر من إحداث تحول كبير آخر في عمله، يتوافق مع تحول أسلوب المعيشة والتغيرات الاجتماعية المعاصرة ودخول مستحدثات و وسائط ذات هيمنة جماهيرية ونفاذ أشد.

       ومع السحور والمُسحّر نقضى بعض الوقت.

       السحور طعام مبارك ارتبط بشهر رمضان وعرفه المسلمون منذ شرعت عبادة الصوم ودعا إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أكثر من حديث شريف فقال «تسحروا فإن في السحور بركة» وقال: «من أراد الصيام فليتسحر ولو بشربة ماء» وقال «لا تزال أمتي بخبر ما عجلوا الفطور وأخروا السحور». والسحور بفتح السين: اسم لما يؤكل من طام وقت السحور، والسحور بضم السين: تناول الصائم طعام السحور، وسمي كذلك إشتقاقة من السحر، والتسحير: دعوة لإيقاظ النيام ليتزودوا بالطعام والماء استعدادًا لمواجهة مشاق اليوم التالي قبل فوات الأوان، ومن يتولى هذه المهمة يسمى المسحراتي. وهو الرجل الذي يقوم بعملية التسحير – أي دعوة الناس إلى ترك النوم وتناول الطعام قبل حلول أذان الفجر.

       والتسحير في شهر رمضان فن تعددت أساليبه ووسائله عبر العصور والبلدان فكانت بدايته أذان بلال الحبشي الذي كان يؤذن قبل الفجر في العهد النبوي لإيقاظ الصائمين، ثم ظهر شعر القوما في العصر العباسي ليتغني به المسحراتي واستمرت أساليب التسحير في التنوع، حتى ظهرت مواويل المسحراتي المصري – فؤاد حداد في العصر الحديث، والتي كان يقوم بأدائها على الطبلة الفنان سيد مكاوي.

       وقد عرف المسلمون السحور منذ صدر الإسلام وكان ذلك يتم عن طريق الأذان. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن بلال ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه يؤذن، أوقال: ينادي ليرجع قائمكم وينبه نائمكم».

       وعلى مر العصور ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد الولايات بدأت تظهر وسائل أخرى للتسحير وإيقاظ النيام لتناول هذا الطعام المبارك، وبدأ المسلمون يتفننون في وسائله حتى ظهرت وظيفة المسحراتي. ويعتبر والي مصر – عتبة بن إسحاق (تولى 238هـ) أول من طاف شوارع القاهرة ليلاً في رمضان لإيقاظ أهلها إلى تناول طعام السحور وكان يتحمل مشقة السير من مدينة العسكر إلى الفسطاط منادياً الناس «عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة».

       وفي العصر الفاطمي أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرًا بأن ينام أهل مصر مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجلاً للقيام بمهمة المسحراتي، كان ينادي «يا أهل الله قوموا تسحروا» ويدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها في يده، تطورت مع الأيام إلى طبلة يدق عليها دقات منتظمة.

       وفي العصرالعباسي كان هناك رجل يسمى «أبو نقطة» اشتهر بتسحير الخليفة العباسي (أحمد الناصر لدين الله) وكان يتقاضي أجرًا على ذلك. وكان هذا الرجل هو أول من قام بدور المسحراتي. وعلى أثر ذلك طالب الأعيان من الخليفة أن يقوم هذا الرجل بتسحيرهم، فأذن له الخليفة بذلك، ثم أصبح عرفاً سائدًا على مر الزمان.

       وهذا الرجل – أبو نقطة – هو مخترع شعر القوما والذي هو فن استدعته الحاجة إلى ما يوقظ النيام وينبه الناس إلى حلول وقت السحور، و«القوما» (شعر شعبي له وزنان مختلفان، الأول مركب من أربعة أقفال: ثلاثة متوازية في الوزن والقافية، والرابع أطول منها وزناً وهو مهمل بغير قافية) وهو لون من الشعر اخترعه البغداديون في الدولة العباسية ليتغني به «المسحرون» و«اشتقاق اسمه من قول المغنين للتسحير في آخر بيت منه: قوماً للسحور، ينبهون به رب المنزل ويذكرون فيها مدحه، والدعاء له» يقول عن فن القوما – صفي الدين الحلي – في كتابه «العاطل الحالي والمرخص الغالي» – كان يسحر الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله (ولد في 572هـ وبويع بالخلافة 595هـ وتوفي بعد 27 سنة) رجل يدعى – ابن نقطة  – فلما توفي خلفه ابنه الذي أعلم الخليفة بطريقة مسرحية؛ حيث اصطحب أتباع أبيه وراح يغني أمام قصر الخلافة بصوت رقيق أصغي إليه الخليفة وطرب له، فلما وصل إلى «القوما» كان أول ما قاله:

يا سيد السادات         لك بالكـرم عادات

أنا بنـي نقطــة     تعيش، أبي قد مات

       فأعجب الخليفة منه هذا الاختصار، واستحضره وأعطاه ضعفي ما كان يعطي أباه. وكلفه وظيفة سنوية هي إيقاظ الناس عند السحور.

       والقوما سمي كذلك بسبب قول بعضهم وهم يوقظون الناس لتناول السحور «نياماً.. قوماً قوماً للسحور» ومع «القوما» تبارى الشعراء – خاصة الظرفاء منهم – في التعبير عن ألوان الطعام في شهر رمضان، ووصف حالهم مع صيامه من ذلك أن شاعرًا مملوكياً راح يدعو للكنافة قائلاً: «سقى الله أكناف الكنافة بالقطر» وآخر أخذ يشكو من «الفول» أو «البقلاء» كما كانوا يسمونه، والذي يكثر على موائد رمضان خاصة في السحور، وقال مخاطباً رمضان: – فقد تركتني باقلاؤك باقلاً – أي أنه كان شاعراً مفوهاً فأصبح مثل «باقل» الذي يضرب العرب به المثلَ في العي – وهو العجز عن التعبير – وذلك بسبب كثرة أكله الباقلاء في رمضان.

       ومن مقطوعات – القوما – الطريفة قطعة – لابن العميد – قالها عندما علم أن قاضياً أفطر خطأ في أول رمضان، وصام خطأ أيضاً في أول أيام عيد الفطر فقال فيه:

يا قاضياً بات أعمى عن الهلال السعيــد

أفطـرت في رمضان   وصمت في يوم عيد

       ومن مقطوعات القوما المشهورة الشائعة في بغداد قول المسحرين:

مازال برك يزيـد       دايم وباسمك شديد

ولا عدمـنا نوالك     في كل فطر وعيـد

       ومن أشهر مقطوعات القوما على مر العصور. «نداء حبيب تردد على مر الأيام. طارقاً القلوب والأسماع، داعياً إلى السحور» هو:

       أيها النوام قومـــوا للفلاح

                     واذكروا الله الذي أجرى الرياح

       إن حبيس الليل ولى وراح

                     وتدانى عسكــر الصبح ولاح

       اشربوا عجلى فقد جاء الصباح

       «تسحروا رضي الله عنكم.. تسحروا غفر الله لكم.. تسحروا فإن في السحور بركة.. تسحروا».

       وقد مر التسحير خلال التاريخ بمراحل عدة، كان لكل منها طابعها المتميز. وقبل أن تظهر شخصية المسحراتي التقليدية، كان لكل بلد إسلامي طريقته الخاصة في إيقاظ الناس لتناول السحور.

       أما طريقة التسحير فقد تباينت في المدن الإسلامية؛

       ففي مكة المكرمة، كان التسحير يتولاه المنادون، يصعدون أعلى جبل أبي قبيس، وينادون بالسحور ويستمرون في قراءة القرآن، حتى يحل وقت الإمساك. كذلك كان التسحير في مكة المكرمة يتولاه المؤذنون؛ إذ كان مؤذن الحرم المكي يتولى هذه المهمة من أعلى المئذنة الموجودة في الركن الشرقي من الحرم، لقربها من دار أمير مكة، معه أخوان يجاوبانه ويقاولانه، ويرد عليهم المؤذنون من سائر المآذن مذكرين محرضين على السحور.

       ثم اشتهر في مكة – الزمزمي – الذي كان يقوم بعمل مشابه لما يقوم به المسحراتي، وإن كانت تفاصيل عمله تختلف بعض الشيء. ذكر ابن جبير (ابن جبير زار مكة سنة 579هـ/1183م) أن المؤذن الزمزمي كان يتولى التسحير وهو في صومعته بأعلى المسجد الشريف داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه: تسحروا غفر الله لكم تسحروا؛ فإن في السحور بركة، كما ذكر ابن بطوطة عاش في القرن 8هـ/ 12م أن التسحير في مكة يتم بطريقتين: إما عن طريق المؤذن؛ حيث كان مؤذن الحرم المكي يتولى التسحير من أعلى المئذنة التي في الركن الشرقي من الحرم، لقربها من دار أمير مكة، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه ويرد عليهم المؤذنون على سائر المآذن داعين ومذكرين ومحرضين على السحور.

       أما الطريقة الثانية فإنه كان ينصب في أعلى المئذنة سفود خشبي في رأسه عمود كالذراع وفي طرفيه بكرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج ولا يزالان ينيران مدة التسحير، فإذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حط المؤذن القنديلين وبدأ في الأذان، فمن لم يسمع الأذان ممن يبعد مسكنه عن المسجد يبصر القنديلين ينيران من أعلى المئذنة، فإذا لم يبصرهما علم بأن وقت السحور قد انقضى.

       وفي مصر: أول من باشر التسحير هو «عنبه بن إسحاق» والي مصر عام 238هـ ويؤثر عنه أنه كان يذهب على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وكان ينادي بنفسه على الناس بالسحور قائلا: – عباد الله! تسحروا؛ فإن في السحور بركة- .

       وبمرور الوقت، تطور التسحير، وظهرت شخصيه المسحراتي التقليدية، الذي يوقظ الناس لتناول السحور من خلال التجول في الشوارع والحارات، والمرور أمام البيوت وهو يحمل طبلته التي يدق عليها بين الحين والآخر، مرددًا بعض الأناشيد التي تحمل في طياتها النصح والإرشاد والتذكير بفضائل الشهر الكريم؛ ففي عام 737هـ ظهرت لأول مرة بالقاهرة والفسطاط «الطبلة» -البازة – (حيث يمسكها المسحراتي يبده اليسرى وبيده اليمنى سير من الجلد أو عصا خشبية كي يطبل بها. والبازة أو الطبلة هي وجه واحد من الجلد مثبت بمسامير، وظهرها من النحاس أجوف، وبه مكان يمكن أن تعلق منه) يطوف بها أصحاب الأرباع وغيرهم على البيوت ويضربون عليها.

       وبعد ذلك أصبحت مهنة المسحراتي في مصر من أبرز المهن الموسميه؛ حيث يسير المسحراتي في طوافه ليلاً في الأزقة والطرقات طبلاً صغيرًا – الباز –  ويضرب عليه بقطعة من الجلد ثلاث مرات متتالية فاصلاً بها بين ما يقوله من النداءات والشعار، ويصاحب المسحراتي في جولته صبي صغير يحمل قنديلين في اطار من الجريد، ويقفان أمام كل منزل يقطنه مسلم من المستورين القادرين على مكافأة المسحراتي، وبعد أن ينشد يقول: لا إله إلا الله ومحمد الهادي رسول الله، فاصلاً بينهما بـ3 دقات من الباز، ويواصل إنشاده بالنداء على صاحب البيت وإخوانه وأولاده الذكور، ويتحاشى ذكر أسماء النساء إلا البنات الأبكار منهن إذا ما وافق صاحب المنزل على ذلك، وفي هذه الحالة ينشد المسحراتي قائلاً: أسعد الليالي إلى ست العرايس فلانة – اسم البنت البكر – ويضرب طبلة بعد كل تحية. وكان السماح للمسحراتي بذكر أسماء البنات الأبكار إنما يعد نوعاً من الإعلان المدفوع الأجر عن أنهن بلغن سن الزواج، ومن هنا كان المسحراتي يؤدي جزءًا من عمل الخاطبة، ولو لبعض الوقت. كما كان يتناول في إنشاده القصص مثل قصة الإسراء والمعراج والهجرة النبوية أو غيرهما من القصص القرآنية والروايات الشعبية ذات الطابع الفكاهي، ضارباً في كل الأحوال بطبلة بعد كل قافية، ومن أشهر أناشيد المسحراتي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر «يا غفلان وحد ربك، وبالتقي عمر قلبك، مايوم تقلق على رزقك، دار بنا عالم بالحال، يارب قدرنا على الصوم واحفظ إيماننا بين القوم، وارزقنا باللحم المفروم لأحسن يا أسيادنا ماليش أسنان». وكانت نساء الطبقة المتوسطة يعمدن إلى وضع قطعة فضية من النقود في ورقة تلقي بها إحداهن من النافذة إلى المسحراتي، وكانت بعض النساء يشعلن الورقة ليرى المسحراتي مكان سقوطها فيستدل عليها ويأخذها، ثم يرفع صوته بقراءة الفاتحة لصاحبتها، أو يشرع في رواية قصة تمتع النساء.

       واستمر المسحراتي يمارس عمله على مدار قرون متخذًا مختارات من أشعار أبي العتاهية وابن سناء الملك وظافر الحداد وابن النبيه والقاضي الفاضل والبهاء زهير وابن مطروح، مادة لعمله.

       وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وتحديدًا مع بدايات الصحوة في مطلع القرن العشرين نجد أن المسحراتي استفاد كثيراً من إسلاميات شوقي وحافظ وأحمد محرم ومحمود حسن إسماعيل. ثم أخذ هذا الفن شكلاً جديدًا ومبتكرًا حينما تولاه مجموعة رائدة من شعراء العامية، الذين أضافوا لأبعاده واقعية جديدة تتصل بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي. وكانت البداية على يد – بيرم التونسي. وبديع خيري.

       وفي العام 1964م أصبح التسحير في مصر فناً حقيقياً يذاع عبر الإذاعة والتلفاز يكتبه الشاعر – فؤاد حداد – وينطلق به صوت – سيد مكاوي – من خلال إذاعة القاهرة وأصبح من أهم ملامح شهر رمضان ومع انتشار التليفزيون وسهر الناس أمامه حتى الفجر. انتظر الناس المسحراتي من خلال فنون القومة والموال وحفظ الناس كلمات حداد التي أنشدها مكاوي والتي تقول:

       أصحي يا نايم.. وحد الدايم

       وقول نويت.. بكرة إن حييت

       الشهر صايم.. والفجر قايم

       الصحي يا نايم.. وحد الرزاق

       رمضان كريم.

       وفي مقطع آخر يقول:

       المشي طاب لي والق على طبلي

       ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال

       الرجل تدب مطرح ما تحب

       وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال

       حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال

       وكل شبر وحتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال

       وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال..

       اصحي يا نايم وحد الدايم

       السعي للصوم خير من النوم

       دي ليلي سمحه نجومها سبحة

       اصحي يا نايم يا نايم اصحي

       وحد الرزاق.

       وكان لزاماً على فؤاد حداد أن ينشد هَمّ الإنسان العربي، وفلسطين في القلب منه، بلسان المسحراتي، فمس القلوب، بلا تفريق بين الوجد والنضال، إنشاد مووزن خالص، شغف «سيد مكاوي» فلعلع به صوته شجياً، يوقظ «النائمين» من غفلتهم، لا نومتهم، علهم يدركون الوطن، مثل طعام السحور:

       لما تقول أجمل ما في الدنيا الميه للعطشان

       يعرفوك عربي

       أما للراوي ريحة البرتقان في مداخل يافا

       يعرفوك عربي

       لما تقول ابني اتولد لاجئ

       يعرفوك عربي

       لما تقول يارب

       يعرفوك عربي

       لما تباشر جهادك، ترمي أوتادك

       في قلب دابح ولادك

       يعرفوك عربي.

       ولحداد تجربة لغوية مبتكرة في تفصيح العامية وتبسيط الفصحى ستظل مثالاً يحتذى، وغزارة الإنتاج وجودته ستظل عجباً، كأنما كان يتنفس الشعر لا يكتبه، بموهبة لا تقل شأناً عن موهبة المتنبي الذي سرت أشعاره مسرى الأمثال والحكم:

       يا رب علمني العطش والجوع

       واجعل لعيني دموع

       واجعل لقلبي ضلوع

       واجعلني صوت الشهيد

       في النبض والتنهيد

       شريان فلسطين شجر مزروع

       في الأرض جدر وفي الليالي فروع

       يسمعني خال في كل بلدة وعم

       جرح الملاجئ عمره ما يتلم

       تفني الليالي ولا يبور الدم

       ولا طيارات الأمريكان تمنع

       النور من المصنع

       ولا كل ريف تحت السما يسمع

       طير الحمام يسجع

       ولا ابن إنسان الأمل يرضع

       ولا ليل شجاع يولد نهار أشجع

       ولا بد يوم أرجع

       ويمد في كل العرب حبلى

       المشي طاب لي

       والدق على طبلي.

       * وفي الثلث الأخير من شهر رمضان المعظم كان المسحراتي ينشد ما يسمى بالتوحيش والتوديع الذي كان يكرر فيه الحسرة على قرب انتهاء شهر رمضان، والبكاء على أيامه التي ستنتهي قريباً، ويتمنى لو دامت أيام الصيام طوال العام. ومن أشهر أغاني التوحيش القديمة نذكر:

       لا أوحش الرحمن منك قلوبنا

       فلقد حوت بوجودك الإحسانا

       لا أوحش الرحمن منك دعانا

       لا أوحش الرحمن منك خضوعنا

       وسجودنا وخشوعنا وبكانا

       بالله يا شهر الهدى لا تنسنا

       واذكر لربك خوفنا ورجانا.

* السحور في البلاد الإسلامية:

       ويوجد السحور في مختلف البلاد الإسلامية عملاً بقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ (187) سورة البقرة.

       – ففي مدينة طرابلس «ليبيا» في العصر القرمانلي (1711-1835) كانت تتجول فرقة من الحرس الخاص في كل أنحاء المدينة قبل الفجر لإيقاظ الناس ويطرقون على علب وصحون معدنية بقطع من الحديد.

       – وفي الغرب العربي (تونس – الجزائر – المغرب) يُعْتَبَرُ المؤذنُ هو وسيلة السحور؛ حيث يصعد المؤذن مئذنة المسجد سواء في المدينة أو القرية فيؤذن ثلاث مرات: مرة لإيقاظ الأهالي، ومرة أخرى للتنبيه، وثالثة إيذاناً بالإمساك عن الطعام وبدء الصوم. وفي بعض الأماكن من المغرب يوجد النقار (الذي يشبه المسحراتي) لكنه ينفخ في البوق لإيقاظ الناس للسحور ولا يضرب على الطبلة. وفي بعض الأماكن يتم السحور بالنفخ في بوق أو نفير سبع مرات لإيقاظ الناس، فإذا ما قرب السحور من الانتهاء يضرب البوق خمس مرات.

       وبعض أهل المغرب يسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت وينادون على أصحابها بقولهم «قوموا كلوا».

       – وفي السودان: يطرق المسحراتي البيوت ومعه طفل صغير يحمل فانوساً ودفتر به أسماء أصحاب البيوت؛ حيث ينادي عليهم بأسمائهم قائلاً «يا عباد الله! وحدوا الدايم ورمضان كريم».

       – وفي الكويت: يقوم المسحراتي الذي يسمى أبو طبلة بالتسحير ومعه أولاده فيردد بعض الأدعية وهم يردون عليه.

       – وفي العراق: إن المسحراتي يستخدم طبله صغيرة «باز» كتلك التي يستعملها المسحراتي في مصر ويردد عليها عبارات الإشادة بالشهر الكريم والدعاء أن تدوم بركته وكرمه.

       – وفي اليمن يقوم بالتسحير واحد من الأهالي بالحي؛ حيث يدق بالعصا على باب البيت وهو ينادي على أهله قائلاً: قوموا كلوا.

       – أما في السعودية: فيوقظ المسحراتي النائمين بقوله «ربي! قدرنا على الصيام واحفظ إيماننا بين القوم».

       – وفي عمان: يوقظ المسحراتي النائمين على الطبلة أو بالناقوس وهو يقول: يا نائمين الليل قوموا تسحروا سحور.. يا مسلمين سحور يا صائمين.

       – أما في سوريا ولبنان وفلسطين: فكان المسحراتي يوقظ النائمين بالقرع على طبلة صغيرة منادياً: اصحي يا نايم وحد الدايم.. وقبل رمضان يطوف على البيوت ويكتب على باب كل بيت أسماء أفراده حتى يناديهم بأسمائهم أثناء التسحير، وفي الأيام العشرة الأخيرة من رمضان التي يصنع فيها الناس الكعك يقول المسحراتي «جوعوا تصحوا حديث عن سيد السادات.. له العيان بينة والتجربة إثبات.. إن كنت تسمع نصيحتي والنصحية تفيد.. قلل من الأكل ما أمكن بدون ترديد.. وأكل الكعك بعد الصيام يوم العيد يتعب الصحة، يسبب الضرر ويزيد».

       أما بعض أهل الشام فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابه «القيثارة».

       ومن الجدير بالذكر أن المسحراتي في بلاد الشام بلغت مكانته شأناً لم تبلغه في أي مكان آخر، ففي دمشق مثلاً: تزايد عدد المسحراتية مع اتساع المدينة، حتى أصبح لكل حي المسحراتي الخاص به. وأصبح التسحير مهنة لها أعراف وتقاليد. فجميع العاملين فيها ينضوون في تنظيم على غرار ما كان لسائر الحرف والصناعة الدمشقية. فهناك شيخ الكار، وهو الشخصية الأولى في التنظيم ويحتل قمة الهرم من حيث التسلسل الوظيفي، ومنصبه وراثي، وهو المسئول عن كل ما يخص مهنة التسحير، وهناك النقيب، وهو الذي ينوب عن شيخ الكار في حال غيابه، بالإضافة إلى قيامه بالدوريات على مناطق المسحراتية، للتيقن من عدم تقصيرهم في عملهم. بعد ذلك يأتي الشاويش والعضوات (الأعضاء) الذين يحلون المشكلات التي قد تنشب بين المسحراتية، أو ينوبون عمن يتغيب عن عمله لسبب أو آخر.

       – أما في القدس (فلسطين) فكان المسحراتي يطوف الشوارع والأزقة والحواري، ضارباً طبلته، ومرددا كلماته المعتادة، شأنه شأن أقرانه في المدن العربية، وقد أصبح بعض المسحراتية في فلسطين من تراث المدن والقرى، والتصقت أسماؤهم بذاكرة الناس، يذكرونهم كلما استطاعوا الحديث عن الماضي وتقاليده، وكثيرًا ما كان لبعض المسحراتية نشاط آخر. فقد كان بعضهم يجيد تغيير صوته وهيئته أثناء الكلام، ويلعب دورًا مهماً في نقل الرسائل بين القادة الفلسطينيين أثناء مقاومتهم للاحتلال وانتفاضاتهم ضد العدوان الغاشم، وكذلك بين القادة في الداخل – داخل القرى والمدن المحاصرة – وبين زملائهم في الخارج.

       – وفي نيجريا يضرب البوق مصحوباً بدق الطبول الكبيرة التي تحدث دوياً كما تطلق المدافع؛ حيث يقوم المسحراتي في كل قرية بالطواف على المنازل يضرب على الطبول أو ينفخ الأبواق التي يسمونها «جروه» و«كاهو» أما في المدن، فوسيلة الإعلان عن موعد الإفطار والسحور والإمساك بالمدفع.

       – وفي الصومال فإن عملية التسحير تعتبر إحدى الوظائف الحكومية حيث يعين موظف خاص للقيام بهذا العمل مستخدماً طبلة كبيرة يضرب عليها ثلاث مرات متتابعات وينادي على الناس بالسحور، ومن العادات الصومالية الفريدة تبعية المسحراتي للدولة أي أنه يتقاضي مرتباً نظير إيقاظ الأهالي للسحور، ويستعمل طبلة تسمى «درمان» يضرب عليها ثلاث مرات متتابعات ثم يقول (واسحورتي – واكورتي) أي قوموا للسحور، قوموا للسحور. أما الصغار فيخرجون من منازلهم حاملين الفوانيس وينشدون الأغاني طوال الليل حتى موعد السحور، ثم يقومون هم بالتسحير. ومن أناشيدهم (واصون وارمضان هنولا ضوي ننكي صوما رمضان) اي (يحيا من يصوم شهر رمضان).

       – أما في إندونيسيا فإن التسحير مهمة يتولاها كل أهل المدينة؛ حيث ينقسمون إلى مجموعات تتولى كل مجموعة منهم القيام بالتسحير لعدة أيام. حيث تقوم الجماعة صاحبة النوبة في إيقاظ الأهالي للسحور مستعملين في ذلك آلة تسمى «بدوق» وفي الليلة التالية تقوم جماعة أخرى بنفس العمل أي في شكل مناوبات. وفي العصر الحديث وخاصة في المدن الأندونيسية الكبرى تطلق المدافع لإيقاظ الأهالي للسحور، كما تطلق مرة أخرى بالإمساك إيذاناً ببدء صوم يوم جديد من أيام شهر رمضان.

       – وفي الفلبين توكل مهمة التسحير للأطفال الذين يستمرون في اللعب والغناء من الإفطار وحتى ساعة متأخرة من الليل وقبل أن يعودوا إلى منازلهم فإنهم يمرون على البيوت ويدقون الأبواب لإيقاظ الناس للسحور.

       واستمر المسحراتي في أداء مهمته حيثما وجد حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين، حينما اصطدم بتوسع المدن إلى ما يفوق قدرته على أن يجوب شوارعها. (هذا الحديث لايسري على القرى فمازال المسحراتي يقوم بوظيفته خير قيام رغم أن الناس تستيقظ للسحور بوسائل حديثه كالمنبه والهاتف وغيرهما) فحاول بعضهم أن يستنجد ببعض معالم الحياة العصرية لمواجهة بعضها الآخر. ففي طرابلس لبنان المعروفة بمحافظتها على التقاليد، لجأ المسحراتي إلى ركوب سيارة مكشوفة تعينه على أن يجوب أكبر قدر ممكن من شوارع المدينة الحديثة، وهو يقرع على طبلته ويردد أناشيده. وبقيت أزقة المدينة القديمة وحدها تستيقظ على إيقاع موكب السحور الذي يضم أكثر من طبل ومجموعة من الرايات يحملها الصبية المرافقون للمسحراتية. ولا تعرف أحياء كثيرة من المدينة الحديثة شيئًا لا عن الموكب ولا عن ذاك الذي يستقبل السيارة. بل تعتمد مثل سكان معظم سكان المدن الكبيرة في العالم الإسلامي والدول الأجنبية على المنبه في الساعة الإلكترونية أو في الهاتف الجوال. وساهم في ذلك أيضا تزايد معدل التغيرات الاجتماعية والثقافية وتبدل الأذواق والاحتياجات التي أثرت على طلب أداء المُسَحِّر، سواء الفني أو الترويحي. وهكذا تصاعد الحال الصراعي الذي يعانيه المُسَحِّر وإنتاجه في أيامنا، الأمر الذي يهدده بالتلاشي ما لم يبدل من طبيعة دوره وأشكال إنتاجه بما يتوافق مع تغيرات السياق الاجتماعي والثقافي الذي يوجد فيه.

       وفي الختام يجب أن نذكر أن السحور لم يكن على الرجال فقط فقد كان هناك بعض المُسحرات من النساء يقمن بهذا العمل فتغزل في أحداهن الشاعر زين الدين بن الوردي ووصفها بأنها شمس تطلع في وقت السحور، فكيف يأكل الناس والشمس طالعة:

عَجِبْتُ فِي رَمَضَانَ مِنْ مُسَحِّـرَهْ

قَالَتْ؛ وَلٰكِنَّهَا فِي قَـوْلِها ابْتَـدَعَتْ

تَسَحَّـرُوا يَا عِبَـادَ الله! قُلْتُ لَـهَا

كَيْفَ السُّحُورُ وَهٰذِي الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ

والله ولي التوفيق.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1433هـ = يوليو – سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36


(*)       مصر – طنطا – دمشيت.

         هاتف محمول : 0109356970(002)

         salahalsheehawy@yahoo.com

Related Posts