الأدب الإسلامي
بقلم : الأستاذ ياسر نديم القاسميّ
تمتاز اللّغة العربيّة وآدابها بين لغات العالم ، بحيث أن الشعراء والأدباء في عدد يتجاوز العدّ والحصر، قدّموا بقريحتهم إنتاجات أدبيّة ، وجعلوا اللغة العربية أثرى اللّغات والآداب، دون أي ظلّ من الشك. فكم من شاعر ألهمه الله الحكمة ، فكسا صفحة الكون من فيض خاطره ثوب الجمال ، وخلّد الأطلال والدِّمن التي وقف لديها ، والتي نسيها من قطن بها، وأمضى أيّامًا لا تُنْسَىٰ بين طيّاتها ؛ حتى أصبحت جزءًا من تاريخ صحرائي ؛ ولكن الشاعر العربي خلّدها بين صفحات تاريخنا الأدبي. وكم من أديب أودعه الله البيان، فنقل المشاعر الحسيّة إلى العواطف المعنويّة الخلاّبة ، ورسم ألوانًا زاهية في صفحات الأدب ، وعبّر عن أحاسيسه المرهفة في عبارة سلسلة اُعْتُبـِرَتْ فيما بعد نموذجًا أدبيًّا رائعًا .
ولكنّه من فطرة الله عز وجلّ أنّ الأصابع الخمس كما لاتتساوى ، كذلك مؤهّلات الناس ومواهبهم لا تتوازى ؛ فالأدب هو المراد الذي يتسابق فيه الناس شعرًا ونثرًا في كلّ لغة . فمنهم من يعدّ في مقدّمة المنافسين ، ومنهم في وسطهم ، وبعضهم في آخرهم ؛ ولكن السؤال يطرح نفسه ، أنّ من يقرّر جودة جيّد ورداءة رديء ؟ فالنقد هو الميزان الذي يجعل من تثقل كفّته فائزًا ، ومن تتخفّف كفّته فاشلاً، وهو القسطاس المستقيم الذي يُظهر حُسن جيّد ، وقُبح سخيف . وللنقد الأدبيّ هذا تاريخ طويل ، فلا نبالغ إذا قلنا إنّه ظلّ يوجد منذ أن ألِف الإنسانُ الأدب .
من أبدع النقد الأدبي :
شهد تاريخنا الأدبيّ المعاصر تيّارًا يجعل النقد الأدبي غربيًّا لا عربيًّا ؛ فهناك بعض الباحثين الّذين أصرّوا على أن اليونانيّين هم الذين أبدعوا النقد الأدبيّ ، وهم الذين جعلوا له قواعد تمهّد السبيل للناقد ، ومنهم ورثناه ، وفحصنا أدبنا حسب قواعده. فالعرب لم يعرفوه إلاّ بعد أن اتصلوا بهم ، وترجموا معارفهم ، واطّلعوا على علومهم . هذه نزعة عرضها المستشرقون عبر كتبهم ، ثم نقل منهم بعض من يُعْتَبَرُ رائدًا للأدب العربيّ المعاصر، مثل الدكتور طه حسين ، رغم أن القول بكلّ ما أثر ونقل ، واعتناق كلّ ما تروّج واشتهر، والاتسام بكلّ ما جاء من المستشرقين الغربيين ، كلّ ذلك لا يليق بأهل التنقيب ؛ فإن تاريخ الأدب الجاهليّ حافل ببراهين تدل على وجود ملكة النقد ، حينما بدأ العرب قرض الشعر والاشتغال به . وكانت هذه الملكة تسير مع الشعر جنبًا إلى جنب . فما اجتماعهم في الأسواق واختيارهم للمحكمين أمثال النابغة ، وتعليقهم القصائد في الكعبة بعد كتابتها بماء الذهب إلاّ لونًا من ذلك كلّه . على أن المؤرّخين قد نقلوا إلينا أمثلة من نقدهم مثل قول حسّان :
لنا الجفنات الغُرّ يلمعن في الضّحى
وأسيافنـــا يقطـــرن من نجــــدة دمًا
وقد علّقت عليه الخنساء بما يفيد نقدها له ، إذ قالت له : «قد استعملت جمع القلّة في الجفنات والأسياف . واستعمال جمع الكثرة أحسن . وقلتَ «في الضحى» ولو كان في الدُّجى لكان أفضل» .
ولتفنيد هذا الرّأي، يكفي لنا ما قال الأديب الكبير أحمد حسن الزيّات في كتابه «في أصول الأدب» : «هذا التاريخ على طوله وفضوله لم يُسَجَّلْ من الأمم ، التي بلغت رسالة الله بالخير والجمال والحق إلاّ أربعًا : العبران في الدين والسلم ، واليونان في الفن والعلم . والرومان في النظام والحكم ؛ والعرب في كلّ أولئك جميعًا .
وبالجملة لايصحّ القول بأن النقد الأدبيّ أبدعه اليونانيّون ؛ بل يمتلكه كلّ أمّة تمتلك الشعر أو لونًا آخر من الأدب ، لما أنّ النقد مصدره الذوق ، ومن المستحيل أن العرب الذين لا يزالون يقرضون الشعر منذ جاهليتهم ، لم يلمّوا بالذوق إلاّ بعد أن تمّ اتصالهم باليونان .
بين الذوق والنقد
إذا كان النقد العربي الحديث يقوم على القوانين المرعية ، والقواعد المتّبعة ، والأصول المتوارثة عن أساتذة العربيّة ، وقضايا علومها المختلفة ، كالذي توصي به علوم البلاغة من الخلّو من التعقيد والتنافر والغرابة ، أو الّذي توصي به قواعد النحو من الخلّو من ضعف التأليف مثل عود الضمير على متأخّر لفظًا ورتبةً ، أو فكّ الإدغام مثلاً ، أو الذي يوصي به علم القوافي من الخلوّ عن الإقواء والتضمين ، أو الذي توصي به معاجم اللّغة مثل البعد عن الألفاظ ، التي لم تكن مأنوسة الاستعمال أو من المشترك اللّفظي ، فإنّه – النقد الأدبيّ – يقوم كذلك على الذوق ، وهو حاسّة يخلقها الله في الإنسان ليكون مرهف الحسّ ، دقيق الإدراك ، قويّ الملاحظة ، بعيد النظر، شديد التمييز بين الأشياء ، فلا يتعدّى الإنسان الصواب ، ولا يجانب الخطأ ، ولا يخطئ في حدسه ؛ بل يُصبح حدسه قسطاسًا يفصل الرّديء عن الجيّد .
والحدس الذي نتحدّث عنه ، والذي نطلق عليه كلمة «الذوق» الذي يُعتبر مصدرًا للنقد الأدبيّ ، يجب أن يكون متغلغلاً في سويداء وجدان الأديب الناقد ، وعمق أحاسيسه . فيقدّر للأشياء حسب حدسه ، ويحكم على الأحداث ، ولا ينفعل بها ؛ بل ينظر إليها نظرة صيرفيّ إلى الدّراهم والدنانير ، ويفسّر لما يتخلف عنها من الخير والشر، فلا يختل «عقله» ، ولا يعتلّ حدسه ، وإلاّ تتزور الحقائق ، وتتموّه الصور، وتطمس المعالم ، ويثور الإحن ، وتنفر القلوب من الأدب الذي كانت تجد فيه الدوحة الفينانة ، والرّوضة المعطار ، والظلّ الوارف ، والماء الرويّ ، والغذاء الشهيّ ، ولأجل ذلك نجد للذوق أهميّة بالغة لدى النقاد ؛ إذ أنهم يجعلونه حكَمًا وفيصلاً حينما اختلّت المعايير، وغابت المقاييس ، واشتبهت الموازين التي تثقل الجيّد وتخفّف الرديء، وتفصل الصواب عن الخطأ ، وتميّز الأجود عن الجيّد.
والذوق الذي نتحدّث عنه لايحدّه حدّ ولا يعرّفه تعريف ، فلمّا حاول علماء الأدب العربيّ، أن يعرّفوه تعريفًا منطقيًّا قائمًا على الجنس والفصل ، كما هو دأب علماء المنطق ، وجدوا أنّه يتأبّى على التحديد ، ويخرج عن حدود العلوم والمصطلحات . وهو شيء يستخدمه الأديب الناقد استخدامًا أكثر من استخدام أي شيء آخره ، وعلى الرغم من ذلك يفقد لفظًا يصفه وكلمةً تحدّده . وفي كلمات أخرى هو يشبه السحر الذي تدرك أثره دون أن تدرك حقيقته ، وهذا هو السرّ في أنّهم يقولون : «إن الذوق شيء ليس في الكتب»؛ بل هو من الدقائق التي لايفطن إليها إلاّ الخواص من أهل هذا العلم ، والصفوة المختارة من جهابذة البيان ، وأصحاب أزمّة الكلام الذين يستفيدون من أدب الفحول ، وشعر العباقرة ، ودواوين الشعراء أمثال البحتري والشريف الرضي ، وعبّاس بن الأحنف ، وبشار ، والمتنبّي ، ومهيار الديلمي ، وغيرهم ؛ كي يرهف حسُّهم ، وينمو وعيهم ، ويدقّ تمييزهم ، وينضج فكرهم ، وينفتح شعورهم ، وتتجلى قريحتهم ، حتى يملكوا الملكة التي نطلق عليها كلمة «الذوق» ، والتي لا تتأتّى إلا بعد هذا الجهد المضني والمسيرة الطويلة .
ولأجل إيماننا بأن من ملك ذوقًا ناضجًا ، لابدّ من أن يسلك ويجوب هذه المساحات الطويلة الأدبيّة، فلذا يُقَدَّر ذوقُه ويُحْتَرم رأيه الناشئ عن ملكته الكامنة . فمن نماذج الذوق الأدبي استخدام الألفاظ، التي لا يتطيّر منها المخاطب ، أو يكره أن يسمعها ، أو لا يحبّ أن يبتدئ بها الحديث . وكذلك عدم استعمال كلمات أثناء الحديث تُعْتَبَر قفزةً من موضوع إلى موضوع آخر . إضافة إلى ذلك عدم انقطاع القول دون تمهيد لهذا الانقطاع الذي كان غير مترقب ؛ ولكنّه لا يعني أنّ من لا يراعي الأمور المذكورة – ويستخدم كلمات في بداية حديثه لايرضى بها المخاطب ، أو يقفز في أثناء كلامه من موضوع إلى آخر فيفاجئ مخاطبه ، أو ينهي حديثه دون إشارة إلى ذلك – يعوز كلامه جمال المعنى وفخامة الأسلوب ، كما لا يعتبرها البلغاء من الأشياء التي تتعلّق بنضارة الكلام ، وسلاسة البيان ، وحسن رونقهما ، إلاّ أنها من الكماليات التي يهدي إليها ذوق سليم ناضج ناشئ عن الجهد المضني ، الذي أفرغه الأديب الناقد في أدب سلفه ، فمن لايتّسم كلامُه بهذه الكماليات يعيّبه ذوقُ ناقدٍ ، ولو كان الكلام بليغًا سلسًا ومن أعلى نماذج الأدب الرائع ، ولذلك يذكر السكّاكي في «تلخيص المفتاح» بعد أن انتهى من حديثه عن علوم البلاغة الثلاثة ، أنَّه ممّا ينبغي على أصحاب الأذواق أن يلاحظوا المطلع والمقطع والانتقال ، باعتبار أنَّها من حقوق الصناعة ، ولطف التناول ، وأدب القول ، ولباقة التعبير .
وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه «الصناعتين» أمثلة عيّبها أو استحسنها الذوق ، فيقول: وقالوا ينبغي للشاعر أن يحتذ في أشعاره ، ومفتتح أقواله مما يتطيّر منه ، ويستجفى من الكلام والمخاطبة به ، فوصفُ افتقار الديار ، وتشتّت الآلاف ، ونعي الشباب، وذمّ الزمان من الأمور البغيضة ، ولا سيّما في القصائد التي تتضمّن المدايح ، والتهاني ، ولهذا عيب على ذي الرمّة في مدحه لعبد الملك بن مروان ، حيث يقول في مطلعه :
ما بال عينك منها الماء ينسكب
كأنّــــه من كلى مفــريـــة سرب
وكان بعين عبد الملك علّة تجعله يدمع ، ولذا قال له : وما سؤالك يا ابن الفاعلة ، في حين أن الشاعر يخاطب نفسه .
والأمر الثاني هو الانتقال من موضوع إلى آخر، حيث جُعل المعنى الأوّل سلّمًا صُعد عليه ، أو قنطرة عبرها الشاعر للوصول إلى معنى آخر. فالجاهليّون كانوا يجعلون الغزل في مطالع القصائد ، ثم ينتقلون منه بمهارة نادرة وأسلوب أخّاذ ، إلى المديح أو الفخر أو الاعتذار ، فمن أمثلة حسن الانتقال قول الشاعر:
وصافيــة تعشى العيــون رقيقــــة
سليــــلة عم في الــــدنان وعــــام
أدرنا بها الكأس الـــرويّــــة بيننا
من اللّيل حتى انجاب كلّ ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأنّنا
من العيّ نحكي أحمـــد بن هشام
فنظن أنّه يتحدث عن الخمر في الكؤوس ، وفعلها بالرؤوس ، وأن أحمد بن هشام مجرد مشبّه به، كأنّه يريد أن الخمر عقدت لسان المخمورين ، فلا يحسنون النطق مع أن ذلك لم يكن مقصودًا ، فإن الخمر إذا لم تفعل بشاربها هكذا ، فما ذا تفعل ؟ وإنّما المقصود من ذلك رمي أحمد بن هشام بالعيّ البالغ ، فحسن الانتقال هذا براعة دون أي شك تجعل الشعر من أعلى نماذج أدبنا العربي .
كما أن لحسن الانتهاء قيمة أدبيّة عظمى ، لا تقل عن أهمية حسن الابتداء وحسن الانتقال ؛ فلا يرضى المخاطب الذي يستمع إلى كلام المتكلّم بوعي وتيقّظ، وشعور ووجدان ، ورغبة وشوق ، وإصغاء وإقبال بانقطاع الكلام من غير مقدّمات تدل عليه ، ولا إشارات تمهّد له السبيل . فهاكم مثالاً للانتهاء الرابع ، يقول الشاعر الفحل المتنبي :
قد شرّف الله أرضًا أنت ساكنها
وشـــرف الناس إذ ســوّاك إنسانًا
ففحوى كلامنا أن الذوق قسطاس يثقّل الأجود ويخفّف الجيّد ، وهو ملكة لاتحصل إلا بالانقطاع إلى الأدب المأثور عن جهابذة البيان وفحول الكلام ، وليس لها قواعد تجعل من يطالعها صاحب ذوق ناضج ؛ بل هو شيء لا يوجد في الكتب . نعم يُدرك بها وبما تحمله من أدب جمّ خلّفه أصحاب الأذواق الواعية ، حتى عُدّ هذا الذوق ، من إحدى دعائم النقد الأدبيّ ومقوّماته .
مالا بُدّ للناقد :
النقد الأدبيّ وإن كان يتعلّق بالذوق أكثر من تعلّقه بأي شيء آخر، ولكن الذوق لا يكفي أيضًا ولا سيّما في النقد الأدبي المعاصر؛ بل هناك عدّة أشياء يجب أن نلاحظها ونراعيها في الناقد ، الذي جعل نفسه يتبوّأ مكان النقد لحسم النزاع بين الجيّد والأجود ، وكشف الغطاء عن الشخيف والثمين ، وإن كان الذوق هو الفيصل في الأدب القديم ، وخاصّة الأدب الجاهليّ وما يليه ، فليس قصّة أم جندب المشهورة إلاّ مثالاً للنقد الذي يتوقّف على الذوق فحسب ، حيث حكمت بين زوجها امرئ القيس وبين علقمة في حديثهما عن الفرس ، إذ قال امرؤ القيس :
فللسوط ألهـــوب وللساق درة
وللزجر منه وقع أخرج متعب
وقال صاحبه علقمة :
فأدركهن ثانيًا من عنانــه
يمرّ كمرّ الرائح المتحلّب
فقضت أم جندب لعقلمة لأنّه لم يُجهد فرسه، ولم يضربه بسوط ولا درة ، كما فعل امرؤالقيس مع فرسه. وما هو إلا نقد على الذوق لا على قاعدة علميّة ؛ بل وليس للذوق القائم على القواعد وجود في الأدب الجاهلي .
ولكن أدبنا العربي المعاصر لا يخضع للذوق تمامًا، بل إذ يطأطئ رأسه له ينحني لأشياء لابُدّ من مراعاتها في الناقد ، وإلاّ لايُقبل النقد ، ويُرفض رأي الناقد ، فيجب أن تكون هناك صفات تقوم عليها شخصيّته ، وقواعد يتوقّف عليها نقده .
الصفة الأولى التي يجب للناقد الاتسام بها، هي أن يكون أديبًا . والأديب هو ذلك الرجل الذي أوتي من الملكة البيانية ما يساعده على أن يكتب الكلام الجيّد ، الذي يعلن عن الأفكار الرائعة والمعاني الخلاّبة، والأغراض النبيلة بأسلوب يفيض بالسحر، وينبض بالحسن . والناقد لايكون أديبًا إلاّ بعد أن اجتاز مرحلة صعبة من القراءة والحفظ ، والاطلاع والتحصيل ، والتأمّل والوعي ، والإدراك والفهم . فإن لم يكن أديبًا لايعرف ما عاناه الرجل في نسج هذا النصّ الذي يزنه له ، ويقرّر حسنه أو قبحه .
ولا يكفي أن يكون الناقد أديبًا بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا ، بل ويجب أن يكون عالمًا بالأدب كصفة ثانية . «والأدب» يطلق على جميع أنواعه ، كما يحتوي على ما نسميّه باسم «تاريخ الأدب» ، الذي يخبرنا عن المراحل التاريخيّة والاجتماعية ، والسياسيّة والاقتصادية ، التي مرّ بها الأدب على مرّ الدهور وكرّ الأزمان . فالعلم بالأدب يمنحه بصيرة في الحكم ، واعتدالاً في الرّأي، وإنصافًا في القضية ، ووسطيّة في الوزن والفحص.
كما لا بدّ للناقد
أوّلاً : أن يكون له إلمام تام بالعلوم اللّسانية من النحو والصرف ، والعروض والبلاغة ، كي لايضلّ فيُضلّ ؛ بل يتبنّى السداد في القضايا الأدبيّة ، ويحكم في نور مقتبس من العلوم المذكورة .
ثانيًا : أن يكون وثيق الصلة بمعاجم اللّغة ، وكثير الاطلاع عليها ، كما يعرف طرق دلالة الألفاظ على المعاني من الحقيقة والمجاز ، بالإضافة إلى ذلك يعلم جميع المعاني للفظ ، أو جميع الألفاظ لمعنى ما نطلق عليه كلمتي المشترك اللفظي والمعنوي .
ثالثًا: أن يكون علمُه محيطاً بكتب النقد كـ«الموازنة بين الطائيين» للآمدي ، و «الوساطة بين المتنبي وخصومة» للجرجاني ، و«الموشّح» للمرزباني، و«عيار الشعر» لابن طباطبا ، و«نقد الشعر» لقدامة بن جعفر، و«طبقات الشعراء» لابن سلام، و«الصناعتين» لأبي هلال العسكري، و «العمدة» لابن رشيق القيرواني . كما يجب عليه أن يطالع كتب الأدب الأخرى كالكامل للمبرّد ، والأمالي لأبي علي القالي ، و«العقد الفريد» لابن عبد ربّه ، و«البيان والتبيين» للجاحظ ، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، و«نفح الطيب» للمقريزي و«زهر الأدب» للحصري، و«الأغاني» للأصفهاني وغيرها من الكتب الأدبيّة الأخرى ، التي تتناول القضايا الأدبيّة النقدية . إضافة إلى ذلك لابدّ له أن يطّلع على كلّ ما تجود به قرائح المعاصرين ، وتنتج أفكارهم في مؤلّفاتهم عن النقد الأدبي ، سواء فيما يتعلّق بالشعر أو بالنثر، وهكذا يصبح علمه محدقًا بأدب الأوّلين والآخرين ، فيسلم حكم عن الخطاء الناتج عن عدم الاطلاع على درب يحاول السير فيه .
رابعًا : يجب على الناقد أن يحصّن نفسه بالحق، ويجمّلها بالعدل ، ويزوّدها بالإنصاف ، ويحيطها بهالة من الطهر والعفاف ، والزهد والورع ، فيصون عرضه ، وينقّي ثوبه . حتى أنّه حينما يتبوّأ مكان النقد لايكون مرضًا لميوله ، ولا تكون نظرته للنص من زوايا تجاربه ووجدانه الخاص ، فلا يسجد للنصّ الذي يعبّر عن نزواته ، ولا يرفض النصّ الذي يناوئ لأفكاره ، ولا يكون كالشارب الذي يقرأ خمريات أبي نواس فيطرب طربًا ، ولايكون كالعاشق الذي يقرأ شعر عباس بن الأحنف فيفتتن به افتتانًا ، ولايكون كالزاهد الذي يطالع ديوان أبي العتاهية فيتزهّد تزهّدًا ؛ بل يجب أن يكون حكمه نموذجًا من الوسطيّة والعدل ، ورأيه مثالاً للسداد والإنصاف .
فالأديب الذي يتغذّى بالصفات المذكورة أعلاه، ويهتدي بالذوق الذي حصل عليه ، بعد أن أضناه جهد في سبيل الأدب على اختلاف أنواعه ، جدير بأن يعتبر ناقدًا ، وحريّ بأن يقبل نقده ، لا بهدف نقص مكانة أديب آخر؛ بل بغرض جعل الأدب ينبوعًا صافيًا يتفرّع منه الأنهار، التي تجعل وارديها جهابذة في ساحة الأدب. ولأجل ذلك لابد للنقد أن يقوم على مقوّماته ، ولابدّ للناقد أن يتحلّى بصفات تجعل رأيَه مقبولاً في الأوساط العلمية والأدبيّة.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.