إشراقة

       شريحة كبيرة في المجتمع البشري تنظر إلى كل شخص يتحلى بعلامات التدين من اللحية الشرعية – المطلوبة في الشرع – وهي قدر القبضة على الأقل، وملابس الصلحاء، وأمارات السجود في الجبهة، وما إلى ذلك أنه كائن يختلف عن بقية البشر، كأنه كائن ماورائي، معصوم من الخطأ وارتكاب الذنب؛ فالشيطان لن يجد إليه سبيلاً، ويصعب عليه أن يغويه، وينجرّ به إلى مواطن الزلل ومواضع التهم.

       من ثم نجد كثيراً من الناس يتعجّبون كثيرًا من شخص ظهرت عليه علامات التدين إذا وجدوه مثلاً مارس سرقةً، أو كذب في موقف، أو ماطل في سداد ما عليه من الديون، أو غشّ في البيع، أو خدع في التجارة، أو قصّر في أداء مسؤولية، أو أخلف وعدًا، أو غدر صديقاً، أو خذل زميلاً، أو صنع شيئًا يخدش الحياء، أو اغتاب صاحباً، أو فعل فعلاً لاينبغي أن يفعله من يبدو صالحاً ملتزماً بالدين.

       إن هذه الثقافة التي يتبنّاها المجتمع حول التدين ومقياسه الشكلي ومعياره الظاهر، ثقافةٌ متأصلة فيه – المجتمع – وظلّت هي من أهم العوامل التي ساعدت أناساً على أن يتخذوا من تلك المقاييس وسائل لتمرير مخططاتهم المغرضة وغاياتهم الرخيصة الخسيسة، فنسمع من حين لآخر أنه يضبط أشخاص ارتدوا ملابس التدين التي اتخذوا منها غطاءً لاستغلال الناس وخداعهم؛ فالإنسان مهما كان شكله ومظهره هو إنسان مُعَرَّض للوقوع في الخطأ. إن مجرد تبنيه لعلامة التدين لم يُحَوِّله معصوماً من الخطأ مُنَزَّهاً من الزلل. إن ذلك لايعني أننا ندعو إلى ترك التدين ومجانبة علاماته واحتضان مظهره، وإنما الذي ندعو إليه هو أن يعي المجتمع أن «المتدين» – المتبنى لعلامات التدين وشعارات الصلاح – هو بشر مثلنا يصيب ويخطئ. إن مجرد تبنيه للعلامات والشعارات لم يُخَرِّجه صالحاً في معنى الكلمة لاتُحَدِّثه نفسه بارتكاب سوء.

المفاسد تكمن في أن المجتمع إذا وَجَدَ «متديناً» – مُتَلَبِّسًا بعلامات التدين – صدر منه خطأٌ ما يلعنون جميعَ المتدينين بأسرهم، ويتناولونهم بأشنع التهم، ويقولون: إنهم كلهم مثله في الولوغ في الإثم، والمسارعة في السيئات، على حين كان ينبغي أن يكونوا ملائكة معصومين من الخطأ!

       المجتمع يخطئ حين يقف هذا الموقفَ من كل مُتَبَنٍّ لمظاهـر التدين؛ لأن تبنيه لها لم يَقْلِبْه ظهـرًا لبطن، ولم يُغَــيِّرْ حقيقته. إن التغيّر الداخلي الحقيقي للإنسان إنما يتحقق بملازمة الصالحين، والتخرُّج عليهم طويلاً، وبعد طول مصاحبتهم في التزكية والإحسان، والتذوق للعبادة، وتطهير النفس من الخبث الداخلي، والدنس الباطني، والرجس الذي يساكن روحَه. وبعد ذلك أيضاً يبقى هو إنساناً مُعَرَّضاً للخطأ والزلل مادام حيًّا. وذلك هو الفرق بين البشر والملائكة؛ حيث إن البشر مُرَكَّب من الخطأ والنسيان، والملائكة معصومون منهما، فلا يصدران منهم ابتداءً.

       بطول التهذيب النفسي والتطهير الروحي اللذين إنما يتحققان بمداومة صحبة الصالحين المتزكين المتقين الخاشعين المتأسِّين بأسوة الرسول ﷺ، قد يعود الإنسان مُتَخَلِّياً من السلبيات الخلقية من الهوى والغضب، والحسد والحزن، والطمع والجشع، والأنانية والغرور، والكذب والخديعة، والفخر وحبّ الذات، والحرص على الشهرة والدعاية، والجاه والمنصب، والماديّة الجامحة، وتفخيم الشخصية، وتضخيم الذات، والرغبة في فرضها في كل مكان، والشعور المحبط بالدونية ومُرَكَّب النقص، والإخلاد إلى الدنيا؛ وإيثار العاجلة على الآخرة، وجعل الدنيا أكبر همّ في الحياة، والتنافس في حطامها.. وبالمقابل يعود متحلِّياً بالايجابيات الخلقية، من القناعة الطمأنينة، والمسرة الروحية، والحبّ والأمل، ومشاركة المجتمع في الآلام والأحلام، والإخلاص والتواضع، واللطف والعطف، وصنع الخير والإحسان، والأخوة والصداقة، والجود والكرم، ومصاحبة الحق، ومجانبة الباطل، والإيثار والانكسار، وإنكار الذات، والتألم للآخرين، وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق التي من تَحَلَّى بها تخرّج إنساناً سويًّا منشودًا لدى الإسلام، مطلوباً في الشريعة، مقصودًا في المجتمع البشريّ، محبوباً لدى الخلق.

       التلبّسُ بعلامات التدين يعين على التدين؛ ولكنه لايُخَرِّج صاحبَه على التدين فعلاً؛ ولكن المجتمع يحسب كل متلبس بالعلامات متديناً حقًّا، فيتعامل معه صادرًا عن هذا الحسبان، فإذا وجده لايتفق ومستوى التدين ينقم من كل متدين وكل صالح في الواقع، وقد يلوم الدين ذاتَه؛ حيث لم يقدر على إصلاح أبنائه وتخريجهم على الأخلاقيات التي لابدّ من تبنّيها لكل متدين صادق.

       المجتمع يكمن خطؤه في اعتباره لكل مُتَبَنٍّ لعلامات التدين مُتَدَيِّناً، واعتقاده أن تلبّسه بالعلامات حَوَّلَه فجأةً كائناً يختلف عن أفراد البشر كلهم في السيرة والسلوك، والخلق والعادة، وجميع التصرفات التي يقوم بها؛ من ثم لايغفر له زلّةً، ولا يعذر له تصرفاً غير لائق، ويرجو منه أن يَتأتَّى على مستوى مَلَك مُقَرَّب أو نبيّ مُرْسَل.

       تعليقُ الآمال الكبيرة على كلِّ متبنّي علامات التديّن، والمبالغة في إحسان الظن به، والرجاء منه أن لايرتكب في حياته خطأً، ولايـاتي تصرفاً غير لائق، وأن يظلَّ محافظاً على «مَلَكِيَّته» ومتسامياً عن «بشريته» أحدث خللاً كبيرًا في إصدار الحكم على كل ما يقوم به هذا المتبني لعلامات التدين؛ حيث إنه قد يعود يفكر أن يتخلّى عن هذه العلامات، و يتبنى علامات «التحرر» من حلق اللحية، وارتداء البنطلون والشورت وما إلى ذلك من الملابس التي يرتديها غير المتدينين في الأغلب، ويعود حانقاً على مجتمعه الذي حَرَّم عليه الزلل والخطأ الذي معجونةٌ به طينة البشر ومركبة معه طبيعته.

       لابدّ أن نضع كلَّ شيء في موضعه، وأن نزنه يميزان قسط، وأن نتجنب اللا اعتدال، والغلوّ والمبالغة، وتعدّي الحدود، وتخطّي الخطّ الأحمر في جميع تصرفاتنا في الحياة. إن الإسلام بطبيعته يحبّ العدل والقسط والتوازن والوسطية، ويكره الكراهية كلّها ما يعاكسه من المعاني. وبذلك وحده تستقيم خطى البشر على طريق الحياة، وبدونه تنحرف به الطريق يميناً وشمالاً.

       يجب أن نتأكد أن علامات التدين لا تـُحَوِّل المرأ متديناً في الواقع، وإنما تعينه على التدين والعمل بمقتضياته، ثم إنه إذا تحوّل متديناً صادقاً، فإنه يبقى فردًا من البشر مركباً من الخطأ والنسيان، ولا يتحول كائناً مَلَكِيًّا معصوماً من كل زلل ومنزهاً من كل خطأ.

أبو أسامة نور

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الإثنين: 22/جمادى الثانية 1433هـ = 14/مايو 2012م)

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36

Related Posts