دراسات إسلامية
بقلم : أ. د / أبو اليسر رشيد كهوس (*)
رابعاً- حق الكرامة:
يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنٰهُمْ مِنَ الطَّيِّبٰتِ وَفَضَّلْنٰهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء:70].
هناك حقوق تحفظ للإنسان كرامته التي وهبه الله إياها، فمن تلك الحقوق:
1-النهي عن سب المسلم والتنابز بالألقاب قال تعالى:﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقابِ﴾ [الحجرات:11].
قال الإمام ابن جرير الطبري: «إن الله تعالى ذكره نهي المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها»(4).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»(5).
2- تحريم الغيبة: إن الغيبة كبيرة من الكبائر، محرمة في الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾ [الحجرات:12]. قال ابن جرير: «ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه»(6).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟». قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»(7).
3-تحريم السخرية من الإنسان: قال تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ﴾ [الحجرات:11]. وفي هذه الآية نجد عموم النهي عن أن يسخر مسلم من أخيه المسلم، فلا يحل له ذلك.
4- تحريم التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم: قال تبارك وتعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات:12]. «أي: ولا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره»(8).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا»(9).
5- تحريم ظن السوء بالمسلم: قال سبحانه وتعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:12].والظن هنا هو التهمة بلا سبب يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، لذلك جاء التحذير من الظن والنهي عنه.
قال ابن كثير: «يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فليجتنب كثير منه احتياطاً»(10).
6- حفظ كرامة المسلم حتى بعد موته: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حياً»(11). فللمؤمن حرمة في حياته وبعد موته، ولهذا أشار الحديث النبوي إلى وجوب الرفق بالميت في غسله وتكفينه وحمله…
7- المسارعة إلى تجهيز الميت: قال ابن قدامة: «ويستحب المسارعة إلى تجهيزه إذا تُيُقن موته؛ لأنه أصون له وأحفظ من أن يتغير وتصعب معاناته، قال أحمد: كرامة الميت تعجيله»(12).
ومن هنا فإن الكرامة حق لكل عبد، وكرامته ملازمة لإنسانيته كما رأينا سابقاً، وللكرامة مظاهر كثيرة بمجموعها تتحقق الكرامة الكاملة؛ أذكر أهمها:
1- كرامة الأخوة الإنسانية: أول مظهر من مظاهر الكرامة، هو الأخوة بين المسلمين جميعهم، ولا فرق في ذلك في اللغات والألوان والأصناف، الكل سواسية، درجاتهم عند الله ومقامهم عنده سبحانه ليس بلون ولا لغة ولا صنف، ولكن بالتقوى، وبالمحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقٰكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِي عَلَى أَعْجَمِي، وَلاَ لِعَجَمي عَلَى عربي، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ﴾(13).
2- كرامة المساواة الحقوقية: لكل فئات المجتمع العمراني واجبات وعليها حقوق، فكلهم متساوون فيها، إذ كل حق من الحقوق يقابله واجب من الواجبات، لا يستثنى من ذلك أحد، والأحكام التي تجري على العالم تجري على الجاهل، وما يجري على الجاهل يجري على العالم، وقد قرر الفقهاء أن الحاكم يجري عليه ما يجري على سائر المحكومين من الأحكام، إلا ما تقتضيه مصلحة المجتمع وأمنه وسلامة الدولة وكيانها.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلـٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجـٰتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة الأنعام:165].
فهذا التفاوت في المواهب والكفاءات والطبائع والإمكانيات هو سنة من سنن الحياة في عمارة الأرض، به يخدم الناس بعضهم بعضاً، كل فيما يستطيعه ويحسنه، فالأب مسخر لأولاده يطعمهم ويربيهم، والأبناء مسخرون لآبائهم يعينونهم عند الشيخوخة، وينفقون عليهم عند الفقر والحاجة. وهكذا شأن الناس بعضهم مع بعض في واقع الحياة.
وذلك ما تحدثت عنه الآية الكريمة في قوله جل وعلا: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجـٰتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف:32].
والتساوي في الحقوق والواجبات مما لا يقوم مجتمع كريم سعيد إلا على أساسه، حتى لا يؤدي تفاوت الناس في المواهب والكفاءات إلى استعباد فريق لفريق، وانفراد فريق قليل بالمغانم وإلزام الجمهور بالمغارم.
بهذا ضمن الإسلام تعاون المجتمع مع تعدد فئاته، وتفاوت أحوال أبنائه، وتساويهم جميعاً في الواجبات الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فليس في الإسلام رجال دين لا يخضعون للقانون، وليس فيه أشراف لا يؤدون عملاً، وليس فيه أمراء لا تطولهم سلطة الدولة، وليس فيه أغنياء لا يدفعون ضريبة ولا يبذلون جهدًا، وليس فيه أذكياء يدعون لهم حقاً في استغلال «البلداء»! بل الكل شعب واحد وقانون واحد، رئيس يخدم الشعب، وشعب يؤازر رئيسه ويطيعه، وأقربهم إلى الله تعالى أتقاهم.
وشعار الحكم في مجتمع الإسلام ما أعلنه الصِّدِّيق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ولي الخلافة: «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله»(14).
3- كرامة العدالة القضائية: من حق كل فرد من أفراد المجتمع العمراني التمتع بالعدالة في الإجراءات القضائية والحرية في إبداء رأيهم من غير تمييز بين الغني والفقير، فيجب على القضاء أن يعدل بين القوي والضعيف، وأن يستمع لشكوى كل فرد من أفراد المجتمع، واستدعاء من أخذ حقهم منهم أياً كان غنياً أو رئيساً، وعلى القضاء أن يحكم بما نص عليه القانون دون أي إجحاف، ودون أي تمييز بين الحاكم والمحكوم، والقريب والبعيد.
وفي الشريعة الإسلامية نصوص كثيرة وجلية في هذا الباب:
يقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَـٰنٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [سورة النساء:58].
ويقول عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ [سورة النساء:135].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [صّ: من الآية26].
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله». ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»(15).
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ﴿الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ في النَّارِ وَقَاضٍ في الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ في النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ في الْجَنَّةِ﴾(16).
من خلال هذه النصوص الشرعية الصريحة يتضح لنا مدى حرص الإسلام على تحقيق الكرامة في ميدان القضاء في مراحله كله.
4- كرامة العدالة الاجتماعية: فالمجتمع الذي تطغى فيه الأثرة والترف وانعدام الرحمة والإيثار، مجتمع بعيد كل البعد عن الكرامة التي ينشدها الإسلام في مجال العدالة الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية التكافل الاجتماعي في تحقيق العدالة الاجتماعية للفئات المكونة لمجتمع الإسلام، فالمؤمنون إخوة، الغني يحن على الفقير ويساعده، وينفس عنه كربه، والعالم يعلم الجاهل ويخرجه من دهاليز الجهل بأحكام الشريعة، والقوي يأخذ بيد الضعيف، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: من الآية10].
5- كرامة المنزلة الاجتماعية: يقول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقٰكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:11-13].
من خلال هذه الآيات يتبين لنا حرص الإسلام على توفير كرامة المنزلة الاجتماعية، من خلال الأخلاق السامية التي تحدثت عنها الآيات السابقة التي لم تترك خلقاً جميلاً مما يحقق هذه الكرامة إلا وتحدثت عنه، ولم تترك خلقاً سيئاً في المجتمع إلى نهت عنه.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ﴿لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ﴾(17).
إن هذا الحديث النبوي الشريف يتحدث عن قمة كرامة المنزلة الاجتماعية، هذه الكرامة التي هي من مظاهر الكرامة الإنسانية الحقيقية، وهي أن يعيش الإنسان في مجتمعه موفور الحرمة، مصون المنزلة، ولهذه الكرامة مظهران: إيجابي وسلبي.
أما المظهر الإيجابي ففي مشاركته في أفراحه وأتراحه، ومعونته في مشاكله الخاصة، واحترامه في جواره وصداقته، وحفظه في حضوره وغيبته، ومن ذلك: السلام عليه عند اللقاء، وعيادته عند المرض، ومواساته في حزنه على فقد قريب أو صديق، وإبرار قسمه إذا قسم، وإجابته إذا دعى، ونصحه إذا زل أو أخطأ، والإشارة عليه بالخير إذا استشار، ونصرته إذا ظُلم أو اعتدي عليه.
وأما المظهر السلبي ففي البعد عن إيذائه بالقول والخطاب واليد والمعاملة، وفي اجتناب التحدث عنه بما يكره في غيابه، والسعي بينه وبين الناس بالنميمة والكذب، وعدم الازدراء به واحتقاره، وانتقاصه حقه من التقدير والاحترام.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإسلام ثبت هذه الكرامة للإنسان حتى بعد موته، فأمر بغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، كما نهى عن نبش قبره أو التمثيل به أو قطع جزء من أعضائه، أو اغتيابه. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ﴿اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ﴾(18).
6- كرامة السمعة العائلية: وهذه من أبرز مظاهر الكرامة في جميع الشرائع والعادات، ولهذه الكرامة مظهران:
أولهما: في سمعة الإنسان داخل الأسرة؛ فقد حرم الإسلام الزنا، وشدد في تحريمه، واعتبره من الكبائر التي تلقي بصاحبه في النار، يقول الله جل جلاله: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء:32]، ويقول الله تقدست كلماته: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:2].
كما شدد الإسلام في الأنساب، ونهى عن اختلاطها، وجعل الزواج الشرعي وسيلة لإثباتها، يقول الله جل في علاه: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: من الآية3].
ونهى أن ينسب الرجل إلى غير أبيه، قال الله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله﴾ [الأحزاب: من الآية5].
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهْوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»(19).
والمظهر الثاني: في سمعة الإنسان في نفسه، ولذلك حرم الإسلام أن يتهم الإنسان بالزنا، وشدد في عقوبة القذف رجلاً كان أو امرأةً، ومن اتهم رجلاً شرط له الإسلام أن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم يأت بهم، جلد ثمانين جلدة.
يقول الله جل جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19].
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰنِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفٰسِقُونَ﴾ [النور:4].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰتِ الْغٰفِلـٰتِ الْمُؤْمِنٰتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور:23].
وسبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تشديد العقوبة على قاذف المحصنات الغافلات، وأنها من أكبر الكبائر ومن الموبقات السبع.
عن الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه، قال: عن سَهْلٍ بن أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ»، فَسَكَتَ النَّاسُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلا تَسْأَلُونِي عَنْهُنَّ؟ الشِّرْكُ بِالله، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكلُ الرِّبَا، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ(20)» (21).
7- حق الإنسان في بيئة سليمة: لقد حفل الإسلام بالمبادئ السامية الهادفة إلى إسعاد الإنسانية؛ ومن ذلك حق الإنسان في بيئة سليمة وهو ينطلق في ذلك من حق الكرامة الإنسانية والاستخلاف في الأرض، ومن مكارم الأخلاق ومقاصد الشريعة الإسلامية التي تأبى الفساد في الأرض بكل أنواعه.
لذلك حرص الإسلام على سلامة البيئة بكل أبعادها؛ سلامة الطبيعة من ماء وهواء وتربة… وسلامة البيئة الاقتصادية بالعمل والاستغلال لنعم الله المبثوثة في السماء والأرض، واستغلال كل الموارد التي تعود على الإنسان بالنفع وتحقيق الاستخلاف في الأرض.
كما حرص على سلامة البيئة الاجتماعية؛ من كل ما يضر بها من الفساد والانحلال الأخلاقي والذنوب والمعاصي؛ وتطهير عقل الإنسان من الكفر والضلال والإلحاد وكل ما يبعده عن الإيمان، والحفاظ على العقل والابتعاد عما يضر به من المسكرات والمخدرات… إذ العقل السليم في الجسم السليم.
كما حرص الإسلام على سلامة البيئة السياسية وأولى لها عناية هامة، ودعا إلى الشورى في الحكم والعدل في الرعية وإقامة الشرع في الحياة السياسية.
خامساً- حق العلم:
إن للعلم في الإسلام مكانةً كبيرةً، وقد فضل الله العلماء على غيرهم قال جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: من الآية11]. وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: من الآية9]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طـه: من الآية114]. وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:122].
فطلب العلم والتعليم والتعلم واجب، وحق العلم ثابت في المجتمع الإسلام بلا استثناء للذكر والأنثى، والغني والفقير، والقوي والضعيف، وابن البادية وابن المدينة، فالكل لهم حق التعلم، وكلهم مفتقرون غاية الافتقار أن يأووا إلى ظله الظليل الواقي من الشر الطويل.
فالتفقه في الدين من أهم الأمور. ومن لم يتفقه في الدين، ويتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع، فقد حرم الخير.
وقد نهى الله تعالى عن كتمان العلم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنٰتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـٰعِنُونَ﴾ [البقرة : 159]. قال ابن كثير: «هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله»(22).
سادساً- حق التملك:
يعتبر العمل أهم وسيلة من وسائل التملك، عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أي الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»(23).
ففي جو الأخوة الحانية وسط مجتمع الإسلام يندفع الناس إلى العمل ليكسبوا ما به قوام حياتهم ومعيشتهم، لا يوصد باب العمل دون واحد منهم، ولا تستأثر بخيرات الدنيا فئة منهم، لكل إنسان منها بحسب طاقته وجهده وكفاءته: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم:39]، فإذا حاز شيئاً منها كانت هذه الحياة حقاً لا يُنازع فيه ولا يُغلب.
ومن وسائل التملك أيضاً؛ الهبة والصدقة والإرث، والسعي والاكتساب بعيدًا عن الظلم والغش والسرقة والتعدي على الناس، وغيرها من الوسائل المشروعة.
سابعاً-حق العمل:
إن العمل في الرؤية الإسلامية يتجاوز كونه حقاً ليصبح واجباً بحكم دعوة الإسلام إلى السعي والكسب، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [سورة الملك: 15]. أي سهلها لكم ويسرها وطوعها لتسيروا فيها وتبحثوا عن الرزق؛ لأن العمل في هذه الرؤية عبادة، وهو يدخل في نطاق أمانة الاستخلاف التي حملها الإنسان، وفي نطاق المحافظة على مقومات الحياة التي بها يستمر الكائن ويقوم المجتمع. فيه تتحقق العدالة، وبه يكون الصلاح. وبه في النهاية يحارب الظلم والفساد، ويختبر الله العباد: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7].
ثامناً- حق العباد في الأمن:
الأمن نقيض الخوف وهو سبب للاطمئنان والسكون، وهو نعمة إلهية عظيمة، من بها على عباده، وهي حق لهم ليس لأحد غير الله أن يسلبه منهم إلا ما كان في الحرب المشروعة في سبيل الله تعالى.
ولعظم قدره فقد امتن الله تعالى على قريش بنعمتين كان الأمن إحداهما. فقال عز من قائل: ﴿لِإِيلـٰفِ قُرَيْشٍ(1) إِيلـٰفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)﴾ [سورة قريش].
وكما جعل الله سبحانه وتعالى الأمن نعمة جعل الحرمان منه عقوبة لمن خالف سنن الأمن والأمان، فقال عز وجل: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهَ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [سورة النحل: 112]. وفي ظل الأمن تتحقق الكثير من حقوق العباد، وتحفظ لهم أعراضهم ومنجزاتهم، وحرياتهم في التصرف والانتقال…
ولا يتحقق الأمن إلا بعد أداء حق الله تعالى وتوحيده وعدم الإشراك به شيئاً، والإيمان بكل أركانه، والعمل الصلح، ثم إقامة العدل بين الناس وإقامة حدود الله (حد السرقة وحد الحرابة والقصاص)، قال الحق جل وعلا: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة النور: 55].
وقد جعل الإسلام هذا الأمن أساساً بل شرطاً لعبادته، ولا غرابة في هذا الربط، طالما أن الإسلام دين أمن. أضف إليه ما يوفره الأمن وينتج عنه من رحمة وألفة ونصر.
لهذا كله، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يسأل الأمن إلى جانب الإيمان، وها هو عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام يدعو يوم أُحُد فيقول: «اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف»(24).
هذه بعض الخصوصيات التي تميز حقوق الإنسان في الإسلام وتحدد إطارها وتوضح فلسفتها، انطلاقاً من منظور شمولي ومتكامل ومتفتح.
إن شرف العباد وكرامتهم وحريتهم تأتي من كونهم مخلوقات سماوية بأرواحها، يُثقلهم الجسمُ الأرضي بحاجاته، وظروفه الحيوية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، عن الصعود من سجنهم الأرضيِّ إلى سعادة الأبد. فيريد لهم الإسلام أن تُعَبَّدَ لهم الطريقُ، وتُوَفَّرَ لهم وسائلُ رحلة ناجحة، فيما بين نقطة ميلادهم ولحظة موتهم، من حيوانيتهم لروحانيتهم، من غفلتهم عن الله عز وجل لذكره، من كبَدهم في الدنيا لارتياحهم بلقاء ربهم وهو عنهم راض.
تاسعاً- حق ذات الإنسان:
إن من حقوق ذات الإنسان أن يحفظ نفسه فيستوفيها في طاعة الله، فيؤدي إلى لسانه حقه، وإلى سمعه حقه، وإلى عينيه حقها، وإلى يديه حقها، وإلى رجليه حقها، وإلى بطنه حقه، وإلى فرجه حقه، ويستعين بالله على ذلك.
وأما حق اللسان فإكرامه عن الخَنَى وتعويدُه على الخير، وحملُه على الأدب وحسن الخلق، وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه من الفضول الشنِعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها، ومنعه من الخوض في أعراض أهل القبلة وكل الناس؛ لأنها تعود على صاحبها بالويل والثبور وسوء الخاتمة، وتزيينه بذكر الله تعالى والصلاة والسلام على حبيبه صلى الله عليه وسلم.
وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك، إلا لفوهة كريمة تُحدث في قلبك خيرًا أو تُكسب خلقاً كريماً، فلا تسمع لمغتاب للناس ولا لماش بالنميمة، ولا لمن جعل نفسه قاضياً على الناس يخوض في أعراضهم بالتكفير والتبديع وإلصاق التهم بهم، وتزينه بسماع القرآن الكريم وكل قول حسن وكل خير وفضل يعود بالخير على الفرد والأمة.
وأما حق البصر فغَضُّه عما لا يحل لك وترك ابتذاله إلا لموضع عِبرةٍ تستقبل بها بصرًا، أو تعتقد بها علماً، أو تزداد بها لربك حباً وشوقاً أو منه قرباً وله طاعة، فإن البصر باب الاعتبار.
وأما حق اليد فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك، فتنال ببسطها بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ولا تقبضها مما افترض الله عليها، أنفق بها على الفقراء، وامسح بها رأس اليتيم وصافح بها أخاك وامسك بها يد والديك لتقبلهما، وافتح بهما كتاب ربك لتتلو آياته، وافعل بهما كل خير يعود عليك وعلى أمتك بالنفع العميم والخير الكثير، أي أن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها، وتبسطها إلى كثير مما ليس عليها؛ فإذا هي قد عقِلت وشُرفت في العاجل وجب لها حسن الثواب من الله في الآجل.
وأما حق البطن فأن لا تجعله وعاءً لقليل من الحرام ولا لكثيره وأن تقتصد في الحلال ولا تخرجه من حده إلى التخمة التي تثبط الهمة وتورث الكسل وتقعد عن كل بر وكرم.
وأما حق الرجلين فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك، ولا تجعلهما مطيتَك في الطريق المُسْتَخفةِ بأهلها فيها، فإنها حاملتك وسالكةٌ بك مسلك الدين والسَّبَق لك، فامش بها إلى الجُمَع والجماعات والخير للناس وطلب العلم وكل ما يقربك من الله ويبعدك عن الشر.
* * *
الهوامش:
(4) جامع البيان عن تأويل القرآن، 11/392.
(5) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ح48.
(6) جامع البيان، 11/394.
(7) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، ح2589.
(8) جامع البيان، 11/394.
(9) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ح5717. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس، ح6701.
(10) تفسير القرآن العظيم، 4/227.
(11) سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان، ح3207. قال الألباني: حديث صحيح.
(12) المغني، 3/366.
(13) مسند أحمد بن حنبل، 5/411. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(14) الكامل في التاريخ، لابن الأثير، 1/361، تاريخ الرسل والملوك، للطبري 2/120. تاريخ الخلفاء للسيوطي، 1/27، لإسماعيل ابن كثير، 6/301.
(15) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في حد إذا رفع إلى السلطان، ح6406. صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، ح4505.
(16) سنن الترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله r في القاضي، ح1322. سنن ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فصيب الحق، ح2315. قال الألباني: حديث صحيح.
(17) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ح13. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، ح179.
(18) سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ذكر محاسن الموتى، ح1019. والحاكم في مستدركه كتاب الجنائز.
(19) صحيح مسلم، كتاب الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه، ح6385. كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه، ح229.
(20) “التَّعَرُّبُ بعد الهِجْرة”: هو أَن يَعُودَ إِلى البادية ويُقِيمَ مع الأَعْراب، بعد أَن كان مُهاجرًا. وكان مَنْ رَجَع بعد الهِجْرة إِلى موضعه مِن غير عُذْر، يَعُدُّونه كالمُرْتد.
(21) المعجم الكبير، للطبراني، 6/103.
(22) تفسير القرآن العظيم، 1/206.
(23) مسند أحمد بن حنبل، 4/141، قال شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره.
(24) المستدرك على الصحيحين، كتاب الإمامة، وصلاة الجماعة، كتاب الدعاء والتهليل والتكبير والتسبيح والذكر، ح1868، 1/686.
* * *
(*) أستاذ بكلية أصول الدين / تطوان المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1433 هـ = يونيو 2012م ، العدد : 7 ، السنة : 36