إلى رحمة الله
بقلم : رئيس التحرير
بعد معاناة مع المرض عاشها صابرًا محتسبًا وبعد حياة حافلة بالعطاء العلمي الأدبي الفكري التأريخي الإسلامي رَحَلَ عن دنيانا الأستاذُ الكبيرُ والكاتبُ الأديبُ المؤرخُ الإسلاميُ الشهيرُ الدكتور عبد الحليم عويس المصري إلى رحمة ربه الغفور الشكور، فجرَ يوم السبت: 14/محرم 1433هـ (بالتقويم الهندي) 15/منه بالتقويم العربي، الموافق 10/ديسمبر 2011م عن عمر يناهز 69 عاماً بالتقويم الميلادي و 70 عاماً بالتقويم الهجري؛ فإنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وفي اليوم نفسه بعد صلاة العصر أُدِّيَتِ الصلاة عليه وشُيِّعَت جنازتُه في مسقط رأسه قرية «سند سيس» بـ«المحلة الكبرى» بمحافظة الغربية. وحَضَرَ الصلاةَ عليه وتشييعَ جثمانه وتوريتَه في القبر آلافٌ من العلماء والدعاة والمفكرين والأدباء والباحثين وذويه وأهل قريته وقيادات الجمعية الشرعية ومُشْرِفِي فروعها بمن فيهم رئيسها العام الأستاذ الدكتور محمد المختار المهدي؛ حيث كان الفقيد رئيس تحرير مجلة الجمعية «التبيان» الشهرية، كما حَضَرَ المناسبةَ مندوبُ الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والمفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور محمد عمارة، والأستاذ الدكتور راغب السرجاني.
وقد أَجْمَعَ العلماء والمفكرون والدعاة الإسلاميون في العالم كله على أن وفاته رحمه الله خسارةٌ للأمة الإسلامية لايُعَوَّض؛ حيث كان داعياً كبيرًا بعلمه وقلمه وتدريسه ودماثة خلقه وتواضعه ونبله، وعلماً من أعلام الفكر الإسلامي، ورجلاً شامخاً من رجالات التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وجُنْدِياً في سبيل الدين والدعوة، يدافع عن الإسلام ويدعو إليه على بصيرة وهدى بقلمه السلسال الذي كتب به مئات من البحوث والمقالات إلى جانب أكثر من سبعين كتاباً أَلَّفَه في شتى الموضوعات الإسلامية، تتسم كلُّها بعزارة العلم، وإشراقة الفكر، ورواء الأدب الرفيع، وعمق الدراسة، وسعة الفكر، وثقوب النظر، وألمعيّة المؤمن، وغيرة الكاتب الإسلامي الغيور على دينه وعقيدته، وحضارته وثقافته، وأصالة تراثه، وغناء تأريخه. وإلى جانب ذلك كان خطيباً مُفَوَّهاً يُمِدُّه قدرةُ الإقناع، وتَنَوُّعُ الدراسة، وغزارةُ المعرفة، وسِعَةُ الاطلاع؛ فكان يملك أفئدةَ مُسْتَمِعيه بلهجته القوية، ونبراته المؤثرة، وأدائه البارع، ولفتاته الجميلة الفذة.
وكان يُعْجِبني؛ بل يُدْهِشني سرعةُ كتابته في أيّ موضوع كان يريده، وفي أي وقت من أوقات الليل والنهار، فقد وجدتُه في إحدى قَدَمَاتِه إلى الهند، التي زار خلالها جامعتنا: الجامعة الإسلامية الأم في شبه القارة الهندية «دارالعلوم/ ديوبند» عاكفاً على الكتابة في الفندق الذي كان نازلاً به في الساعة المُتَأَخِّرَة من الليل، بعد ما كان قد أمضى النهارَ حافلاً بالنشاطات المُتْعِبَة المُكَثَّفَة، واللقاءات المزدحمة. قلت له: كيف تُوَاتِيكَ الكلماتُ والتعابيرُ وتنثال عليك المعاني والأفكارُ، وتخضع لك هذه الصياغةُ المُحْكَمَةُ في مثل هذا الوقت، الذي تتثاقل فيه القريحةُ المُفَكِّرَةُ لدى الكاتب والمفكر، ولاسيّما بعد ما يكون قد عاش النهار مُثْقَلاً بالأعمال، كما عشتَ أنت؟ قال: هذا من فضل الله أولاً ومن كثرة المران ثانيًا.
لقد دَرَسَ رحمه الله التأريخَ الإسلاميَّ دراسةً واعيةً، وخلص منها بالأسباب الواقعيّة التي أدّت إلى تقدم المسلمين أولاً ثم تأخرهم ثانياً، وكان أحرص الكُتَّاب الإسلاميين على دعوة الشباب المسلم إلى دراسة التأريخ هذه الدراسةَ المُثْمِرَةَ، حتى يعود بالأمة إلى الأخذ بأسباب التقدم واجتناب أسباب التأخر. وركّز على ذلك خلال تدريسه مادتي التأريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، حتى عُرِفَ ببراعته في «صناعة المؤرخ» و«تفسير التأريخ».
وكان دائم الحركة والنشاط، مُفْعَمًا بالانتعاش والحياة، يمشي بسرعة، ويفكر بسرعة، ويتكلم بسرعة، ويكتب بسرعة. وكانت السرعةُ سمةً على شخصيته، فلم يُرَ بطيئاً في أي من سلوكيات الحياة. وكان يحبّ الدينَ وأهلَه، ويتمنّى سيادةَ الإسلام، ويعمل لها، ويجاهد في سبيلها بقلمه ولسانه، وتفكيره وتدبيره، وكان مُعْجَبًا للغاية بالعلماء الهنود، ويُثْنِي على تضلّعهم من علوم الكتاب والسنّة، وصلاحهم وتقواهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة، وبساطتهم في الحياة. وكان يحبّ كثيرًا دارالعلوم/ ديوبند – وقد زارها بصحبة معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي حفظه الله عندما كان مديرًا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان هو رحمه الله أستاذًا بها. وذلك في 24/نوفمبر 1987م (الثلاثاء: 2/ربيع الثاني 1408هـ) – وكان يحب ندوة العلماء، ويحبّ الداعية المفكر الإسلامي الشيخ أبا الحسن الندوي رحمه الله ويتواصل معه دائماً، كما يتواصل مع العلماء والمفكرين الكبار في شبه القارة الهندية. وقد أدّى دورًا بارزًا في تأسيس «رابطة الأدب الإسلامي العالميّة» التي كان الداعي إلى تأسيسها سماحة الشيخ الندوي رحمه الله تعالى.
لقد كان يحمل في جنبه قلباً خفّاقاً بآمال الصحوة الإسلامية وعودة الأمة إلى عهدها الأول: عهد التقدم والازدهار والوصاية على العالم وقيادة الدول والأمم، مُتَخَلِّصَةً من جميع مُخَلَّفَات التأخّر والانهيار والتبعيّة. لقد كان ذلك أكبر أمانيه، والعمل على ذلك أنبل أعماله في الحياة، كان يحلم بذلك في المنام واليقظة؛ لأنه كان متخرجاً فكريًّا في المدرسة الفكرية للمفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
وكان منهجه العلميّ الفكريّ الثابت: التقريب والإصلاح، والتوفيق وردم الفجوات بين الأفكار الإسلاميّة. وقد أرسل إلينا عددًا من مقالاته وبحوثه الرامية إلى هذا الغرض، فنشرناها في «الداعي». ومن أهم العوامل التي كَوَّنَت شخصيته الفكرية: 1 – تلمذه على الشيخ محمد الغزالي، الذي أشعل فيه الروح الإسلامية والفراسة الإيمانية ممزوجة بالنظرة العقلية. فكان يصدر في جميع أفكاره وكتاباته عن القلب والعقل معاً. 2 – تواصله الدائم مع توجيهات الكاتب والصحفي السياسي الكبير محمد جلال كشك (1347-1414هـ = 1928-1993م) منذ أيام تعلمه. 3 – إعجابه واستفادته المتصلة من العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله، ومن أعلام المفكرين الإسلاميين الملتزمين في العالمين العربي والإسلامي، أمثال الأستاذ محمد قطب ومحمد سليم العوا وعماد الدين خليل ومنير الغضبان والشيخ أبي الحسن الندوي. 4 – تلاحمه مع الحركات الإسلامية المؤثرة في العالم الإسلامي، وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعة الدعوة والتبليغ الهندية، والحركة النورسية في تركيا، والجمعية الشرعية في مصر، والحركة الإسلامية المغاربية، وحركة محمد بن عبد الوهاب النجدي. وما إلى ذلك من الحركات التي كان يراها تعمل للإسلام، وتسعى لإعلاء كلمة الله، وتجاهد من أجل النهوض بالأمة. 5 – إيمانه بالعمل المؤسسي، ولذلك ساهم في بناء عدد من المؤسسات الإسلامية التي كان لها الأثر الفاعل في توحيد الصف، ورأب الصدع، وملء الفراغ الإسلامي. مثل «رابطة الجامعات الإسلاميّة» التي تضم أكثر من 150 جامعة في العالم الإسلامي بما فيها الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند بالهند، وكان من المساهمين في تأسيس «رابطة الأدب الإسلامي العالمية» وفي تأسيس «جائزة الملك فيصل العالمية» وجامعة روتردام الإسلامية بهولندا، والجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا ومؤسسة المسلم المعاصر. 6– إيمانه بفعالية رسالة الإعلام والصحافة. فظل من كُتَّاب مجلة «الدعوة» الناطقة بلسان الإخوان المسلمين، كما كتب محررًا متجولاً في مجلة «الاعتصام» الناطقة بلسان «الجمعية الشرعية» المصرية. وكتب في نحو خمسين مجلة شهرية دورية في العالمين العربي والإسلامي. وكانت له برامج تلفزيونية وإذاعية مكثفة.
* * *
تَعَرَّفْتُ عليه أولاً عن طريق الصحف والمجلات عند ما كان أستاذًا للتاريخ والحضارة الإسلاميّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وذلك في الفترة ما بين 1978م و 1993/1994م. ولم يكن أستاذًا بها فقط، وإنما كان سندًا لمدير الجامعة ومستشارًا له، وساعده الأيمن في تيسير الأعمال وبَرْمَجَتها.
وتَعَرَّف عليَّ عن طريق مجلة «الداعي» ولاسيّما زاويتها الشهيرة «إشراقة» التي أكتبها بتوقيع «أبوأسامة نور». كنتُ عاكفاً في مكتب المجلة في يوم من الأيام إذ ألقى إليّ ساعي البريد خطاباً مظروفاً، وفتحتُ الظرف فإذا فيه إشادة رطبة من الدكتور عبد الحليم عويس بـ«إشراقة» وكاتبها «أبوأسامة نور» مع طلب لجميع كتاباته لينشرها من مكتبته «دارالصحوة» بالقاهرة، التي كان قد أسسها بالاشتراك مع العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله. وسَرَّني ذلك طبعًا سرورًا بالغاً، فجمعتُ بعضَ الإشراقات، وانتظم لي السفر إلى الرياض، فأخبرتُ الدكتورَ أني نور عالم خليل الأميني، وأكتب أيضاً بتوقيع «أبوأسامة نور» وكنتم قد رغبتم في طبع كتاباتنا؛ فها أنا ذا في الرياض نازل لدى أحد أصدقائي: الشيخ عبد الباري شمس الحق الهندي، فمتى تسمحون لي بزيارتكم، فقال: اِدْفَعِ السّماعةَ إلى صديقك، فتَسَلَّمَها الشيخ عبد الباري، فأحاطه علماً بعنوان منزله بالرياض وميعاد اللقاء، وأكّد عليه أن يحضر محطّة البترول بمكان كذا؛ حيث سيكون هو منتظرًا ليتلقانا ويصل بنا إلى منزله. قصدنا المحطةَ فوجدنا الدكتور ينتظرنا بكيانه النشيط، وشخصيته المتحركةِ الجذّابة، وتَبَادَلْنَا السلامَ واستخبارَ الأحوال، ووصلنا منزلَه، فوجدناه مزدحماً بالضيوف: الأساتذة المصريين في جامعة الإمام وغيرها، فعَرَّفَنَا إليهم وعَرَّفَهُمْ إلينا، وتناولنا مأدبةً شهيّة، وسَلَّمْنا إليه مُبَيَّضَةً من مختارات بعض الإشراقات، ثم طلب إليّ أن أكتب في موضوع «الصحابة ومكانتهم في الإسلام» فور عودتي إلى الهند. وقد وفيت بوعده خلال شهور.
وقد أصدر رحمه الله المجموعة الأولى من إشراقات الداعي بعنوان «الدعوة الإسلاميّة بين دروس الأمس وتحديات اليوم» من «رابطة الجامعات الإسلامية» بتوجيه من معالي رئيسها معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي. وذلك 1409هـ/ 1989م، والمجموعة الثانية منها أصدرها من «دارالصحوة» بالقاهرة في العام نفسه، بعنوان «المسلمون في الهند» والمجموعة الثالثة أصدرها من «دارالصحوة» في العام نفسه بعنوان «مجتمعاتنا المعاصرة والطريق إلى الإسلام» وأصدر كتابنا «الصحابة ومكانتهم في الإسلام» من دار الصحوة ومن «رابطة الجامعات الإسلامية» معاً في العام 1409هـ/1989م.
ثم أرسلتُ إليه عن طريق الأخ الشيخ عبد الباري شمس الحق كتاباً كنتُ قد نقلتُه من الأردية إلى العربية كان عنوانه بالأردية «من الظلمات إلى النور» لصاحبه المهتدي إلى الإسلام «غازي أحمد»مسلماً، و«كرشن لال» هندوسيًّا. فأصدره عام 1410هـ/1990م بعنوان «مأساة شاب هندوسي اعتنق الإسلام»من مكتبته «دارالصحوة» بالقاهرة بالاشتراك مع مكتبة شمس بالرياض.
وقد كتب رحمه الله مُقَدِّمةً موجزةً على مجموعة «إشراقة» الأولى التي أصدرها باسم «الدعوة الإسلامية» أشاد فيها بكاتب السطور بكلمات كانت نابعةً من قلبه ومُعَبِّرَةً عن مدى الحب الذي كان يكنه له في قلبه؛ فقد قال فيها فيما قال:
«والحقُّ أننا يجب أن نكتب كثيرًا – بإخلاص وبعمق – وأن نتحاور كثيرًا في ندوات ومؤتمرات حول كلِّ ما يتصل بقضيته الدعوة الإسلاميّة وأبعادها.
«ولقد كان حسنًا أن يهتمّ أخونا وصديقُنا الكاتب الإسلاميّ والصحافي الكبير نور عالم خليل الأميني بهذه القضية، وأن يدير حولها عددًا من بحوثه ومقالاته التي تتصل بالجوانب المختلفة لقضية الدعوة الإسلامية بين الأمس واليوم، وهي بحوثٌ ومقالاتٌ تتميز بالإخلاص الشديد، والرؤية الواعية، والمعايشة الواقعيّة لمشكلات الدعوة، فضلاً عما عُرِفَ به الكاتبُ من بيان عربيّ مُشْرِق، مع أنه وُلِدَ وعاش وتَرَبَّى – وما زال يعيش أطال الله عمره – في شبه القارة الهندية». (ص5-6).
وقال في مقدمته التي حَرَّرَها في القاهرة في محرم 1408هـ، لترجمتنا العربية لكتاب «من الظلمات إلى النور» التي أصدرها بعنوان «مأساة شابّ هندوسيّ اعتنق الإسلام» ما يُؤَكِّد مصافاته للحبّ لهذا الكاتب العاجز الذي لايعرفه من الكُتَّاب العرب إلاّ القليل:
«ويسرّني أن أحيط القارئ الكريم علماً بأن مترجم هذا الكتاب، كاتب إسلاميّ هندي شابّ يشرف على تحرير جريدة «الداعي» التي تصدر باللغة العربية، وهو يتمتع ببيان مُشْرِق عَذْب رائع يُذَكِّرنا بالنفحات الهندية العظيمة التي تصلنا عَبْرَ الحدود من خلال أقلام عظماء كبار، على رأسهم الشيخ ولي الله الدهلوي، والشيخ عبد الحي الحسني، ومولانا أبوالحسن الندوي، وفقيد الكلمة المؤمنة صديقنا وحبيبنا منشئ مجلة «البعث الإسلامي» محمد الحسني رحمه الله.
«إنّه الأخ والصديق الواعد (نور عالم خليل الأميني) الذي يكتب أيضاً باسم (أبى أسامة نور) أعانه الله وأَمَدَّه بالصحّة وأطال عمره».
في الفترة ما بين الأحد: 18/صفر والخميس: 22/صفر 1408هـ الموافق 11-25/أكتوبر 1987م عقدت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة يوبيلَها الفضّي الكبير بعنوان: المؤتمر الإسلامي العامّ الثالث» تحت موضوع: «الدعوة الإسلامية وسبل تطويرها نظرةً إلى المستقبل» في فندق «إنتر كونتيننتال». وقد حَضَرَ المؤتمرَ مع أعلام العالم الإسلامي الدكتورُ عبد الحليم عويس رحمه الله بصحبة معالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي أمين عام رابطة العالم الإسلامي حاليًّا لدى كتابة هذه السطور (يوم الثلاثاء: 17/ جمادى الأولى 1433هـ الموافق 1(أبريل 2012م) وقد سُرَّ رحمه الله كثيرًا بحضور كاتب هذه السطور (نورعالم خليل الأميني) المؤتمرَ؛ لأنه هو الذي لفت انتباهَ أمينها العامّ آنذاك معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف حفظه الله إلى توجيه الدعوة إليّ بصفتي رئيسَ تحرير لمجلة «الداعي» الناطقة بلسان حال دارالعلوم/ ديوبند، وكنتُ نازلاً بأحد الفنادق ذي النجوم الخمسة الذي كان على مقربة من المسجد الحرام؛ بل على غلوة منه، وكان اسمه «فندق الحرم» من جهة باب الملك عبد العزيز الشهير. وكان الدكتور مع رفاقه نازلاً بفندق «إنتركونتيننتال» الذي كان على مسافة كبيرة من المسجد الحرام، وكانت جلسات المؤتمر كلُّها قد أقيمت في هذا الفندق فكان – كلما كنتُ أحضر جلساته قادماً من فندقنا ويتفق لي اللقاء معه وهو دائمًا مع جمع كبير من أساتذة الأزهر أو فضلاء مصر الكبار – كان يُعَرِّفُني إليهم بقوله: «هذا هو الأخ الأستاذ الكاتب الإسلامي نور عالم خليل الأميني رئيس تحرير جريدة «الداعي» – لأن «الداعي»كانت عندها جريدة، وإنما تحوّلت شهرية بدءًا من العدد 1، السنة 17/ الصادر في صفر – ربيع الأول 1414هـ الموافق أغسطس 1993م – وهو محمد الحسني الثاني في الهند؛ لأن كتاباته تحاكي كتاباته في الابتكار والبراعة والطرافة وعنفوان الأفكار الإسلاميّة».
وقد ظلّ حبّه رحمه الله دائمًا لي طَوَالَ حياته؛ حيث كان يتابع إرسال نسخة من مجلته «التبيان» من القاهرة كما ظلّ يوافيني بمقالاته من وقت لوقت لأنشرها في مجلتنا «الداعي» كما ظلّ يراسلنا من حين لآخر، ويبدي في خطاباته إليّ حبَّه لي ولطفه بي وعطفه عليّ. وقد انتظم لي اللقاءُ معه – وكان آخر لقاء معه – في أحد مهرجانات الجنادرية منذ سنوات بمدينة الرياض. وكنا نازلين في «فندق الرياض» الذي ينزل به ضيوفُ المملكة في الأغلب، فتَكَثَّفَ لقاؤنا وتَبادَلْنَا الآراءَ أيامَ المهرجان كلِّها، وقد نظَّم لي الحديثَ في الإذاعة السعودية والتلفاز السعوديّ. وعَرَّفني إلى عدد من رجال الصحافة بكلمات رفيعة كانت فَضْفَاضَةً على قامتي العلميّة والصحافيّة؛ ولكن الحبَّ له آدابٌ وتَقَيُّدَات لاتقبل قيودًا وشروطاً. جزاه الله خيراً، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه وجميع محبيه في الدنيا الصبر والسلوان.
وكان ثاني أديبين إسلاميين أَحَبَّاني هذا الحبَّ الغامر الصافي، أولهما كان معالي الشيخ عبد العزيز أحمد الرفاعي رحمه الله (1342-1414هـ = 1923-1993م) صاحب الندوة الخميسية التي كان يعقدها في بيته بالرياض والتي دامت أكثر من ربع قرن من الزمان، الذي دعاني إلى إحدى خميسياته خلال نزولى الممتد على ثلاثة شهور بالرياض بجامعة الملك سعود، ثم أتاح لي الفرصة أن أتحدث إلى الأُدَبَاء والكُتَّاب والأساتذة والشعراء الكبار الذين كانوا قد حضروا الخمسيةَ في تلك الليلة الماتعة التاريخية التي لن أنساها ما دمتُ حيًّا، عن حال العلم والأدب واللغة العربية والثقافة الإسلاميّة في الهند، ثم ظلّ يحبني على مدى حياته يراسلني، ويشتري أعداد «الداعي» بانتظام ويُنزِلني ضيفاً لديه كلما زرتُ الرياض، فكنت أحسب أن لي أهلاً وذوي قربى في الرياض، ولستُ أجنبيًّا غريباً فيها، وزرتُ الرياض بعد وفاته مراراً فشعرتُ بالغربة حقًّا، رغم حبّ الإخوان المحبين من الهنود وغيرهم في الرياض. ولقد صدق شاعر الحكمة وتجارب الحياة العربي الكبير المتنبئ:
إِذَا تَرَكَ الإنسانَ أهلاً وَرَاءَهُ
وَيَمَّمَ كافــورًا ، فما يَتَغَرَّبُ
وقد زار الدكتور عبد الحليم رحمه الله جامعتَنا دارالعلوم/ ديوبند في 2/4/1408هـ الموافق 24/نوفمبر 1987م مع مدير جامعة الإمام آنذاك معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي (أمين عام رابطة العالم الإسلامي حاليًّا) فكتب في سجل الانطباعات: «زرت دارالعلوم/ ديوبند لأول مرة في حياتي في ربيع الآخر 1408هـ، مع أني زرت الهند قبل ذلك خمس مرات، وقد أسفت؛ إذ فاتني هذا الخير العظيم وضاعت مني فرصة التعرف على هذا الصرح الإسلامي العملاق قبل ذلك». كما ألقى في حفلة الترحيب التي عُقِدَتْ في القاعة الكبرى التي تُعْقَدُ فيها حلقةُ تدريس دواوين الحديث الشريف، كلمةً حَماسيَّةً ضافيةً تَحَدَّث فيها إلى الطلاب عن الغزو الفكري وأخطاره نحو الإسلام والمسلمين ومدى تدميره للشباب الإسلاميّ بصفة خاصّة والأمة بصفة عامّة. كما أشاد بدور الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند في إرساء دعائم الإسلام في القارة الهندية، وخدمتها للكتاب والسنة في العالم كله.
* * *
موجز عن حياته:
هو الدكتور عبد الحليم عبد الفتاح محمد عويس. وُلِدَ في 12/ يوليو 1943م (8/شعبان 1363هـ) بقرية «سندسيس» مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية. حفظ القرآن الكريم مع التجويد بقريته وحصل على الثانوية الأزهرية من معهد طنطا الديني .
حصل على ليسانس الدراسات العربية والإسلاميّة من كلية دارالعلوم جامعة القاهرة عام 1968م، وعلى درجة الماجستير عام 1977م، في الحضارة والتاريخ عن دراسته: «دولة بني حماد في الجزائر» وحصل على درجة الدكتوراه عام 1978م عن أطروحته: «ابن حزم الأندلسي مؤرخًا» ثم حاز على شهادة الدكتوراه الفخريّة من الجامعة الدوليّة بأمريكا اللاتينية عام 2009م، كما حاز على الوسام الذهبي للعلم والآداب والفنون من الجمهورية السودانية عام 2011م.
شغل الدكتور مناصب علمية فكرية ثقافية عديدة، فعمل عضوًا في اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين بمصر، وعضوًا في اتحاد المؤرخين العرب، وعضوًا في المجالس القومية المتخصصة.
وعَمِلَ أستاذًا على مدى خمسة عشر عاماً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ولم يكن أستاذًا بها فقط، ولكن ظل سندًا قويًّا وساعدًا أيمن لمديرها ومستشارًا له في تيسير أعمال الجامعة الثقافية والتعليمية وربّما الإداريّة أيضاً. كما عَمِلَ أستاذًا للتاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الزقازيق، وعَمِلَ نائبًا لرئيس جامعة «ووتردام» الإسلامية سابقاً، وظلّ يعمل أخيرًا لآخر لحظة من حياته رئيس تحرير لمجلة «التبيان» القاهرية الناطقة بلسان حال الجمعية الشرعية بمصر.
وعَمِلَ في الفترة ما بين 1971م و 1975م باحثاً مراقباً للمناهج، بمركز بحوث المناهج والدراسات التربوية بدولة الكويت. وعَمِلَ محاضرًا بعد ذلك لمادة الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في الفترة الممتدة ما بين 1975م و 1977م. وبعد ما حاز على شهادة الدكتوراه عاد إلى الجامعة المذكورة فعُيِّنَ بها أستاذًا مساعدًا، ثم أستاذًا مشاركاً، ثم أستاذًا. وذلك في الفترة ما بين 1978م و 1993م – 1994م. وقد أوفدته جامعةُ الإمام إلى عدد من الجامعات في كلٍّ من الهند وباكستان والجزائر وماليزيا والسودان وتونس وتركيا وما إليها.
كما زار زيارةً ثقافيةً عددًا من بلاد الغرب وأمريكا بما فيها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا إلى جانب الدول العربية.
حضر أكثر من مئة مؤتمر عالمي إلى مؤتمرات أخرى إقليمية. وقام بالإشراف على نحو عشرين رسالة للماجستير والدكتوراه في الحضارة والتاريخ أثناء عمله أستاذًا بجامعة الإمام بالرياض، كما ساهم في مناقشة أكثر من عشرين رسالة في الجامعات السعودية؛ كما ناقش رسالة دكتوراه في كلية البنات بجامعة عين شمس بمصر في فلسفة الحضارة، وأشرف على رسالة دكتوراه في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الزقازيق بمصر، وأشرف على رسالتين للماجستير في مادة الإعلام الإسلامي بكلية الإعلام والدعوة بالرياض.
كما ساهم في التحضير لعدد من الندوات والمؤتمرات من على منبر رابطة الجامعات الإسلامية، وقد عُقِدَت عددٌ منها في دول الخليج، وعددٌ منها في مصر، من بينها سبعة مؤتمرات في جامعات مصرية بما فيها جامعة عين شمس، وجامعة المنوفية، وجامعة الزقازيق التي أشرف فيها على نحو عشرين بحثاً للماجستير والدكتوراه.
ساهم في إنشاء جامعة «ووتردام» الإسلامية بهولندا، وقام بزيارتها طَوَالَ عدة أعوام لمدة شهر ونصف. وقد دَرَّسَ بها موادَّ السيرة والعقيدة، والتاريخ الأموي، والتاريخ العباسي، وعلوم القرآن، والفرق والمذاهب.
الأعمال التأليفية والبحثية:
- ألف 71 كتاباً وبحثاً، إلى جانب إعداده للملف الفقهي لجريدة «الشرق الأوسط» على مدى خمس سنوات منذ 1982 حتى 1987م وأصدرته مؤسسة الشرق الأوسط في 13 مجلدًا.
- ألف تفسير القرآن الكريم للناشئين في 30 جزءًا، بالاشتراك مع الأستاذ علي عبد المحسن جبر.
- أشرف على تحرير موسوعة في نحو عشرة آلاف صفحة للتاريخ الإسلامي عبر العصور. وأنجز منذ عدة أعوام لسمو الأمير سعود بن سلمان بن محمد آل سعود بالرياض هذه الموسوعة التي ساهم في إعدادها نحو 60 مؤرخاً ومفكرًا.
- كما أنجز موسوعة في حدود 800 صفحة للجامعة الأمريكية المفتوحة.
- قام مع الاشتراك مع أربعة أساتذة بالإشراف على إعداد موسوعة الإدارة العربية الإسلامية في 13 جزءًا وسبعة مجلدات.
- أشرف على إعداد معجم مصطلحات علوم القرآن لحساب دارالوفاء بالقاهرة.
- قام برئاسة تحرير (بالاشتراك) لمجلة كلية العلوم الاجتماعية للكلية بجامعة الإمام بالرياض.
- راجع وَقدَّمَ للكتاب «بين الإنسان الطبيعي والإنسان الصناعي» للشيخ محمد تقي الأميني (المتوفى 1412هـ/1991م) الذي عمل مديرًا ثم رئيسًا لقسم الدينيات السنية بجامعة «علي جراه» الإسلامية ولكتابه «سنن الله في الرقي والانحطاط» ولكتاب الأستاذ وحيد الدين خان «الدين في مواجهة العلم» ورسالته «برنامج جديد للعمل الإسلامي» وكتابه «قضية البعث الإسلامي».
- وقام بالتقديم والتحليل لكتاب في ترجمة العلامة المؤرخ عبد الحي الحسني الرائي بريلوي المتوفى 1341هـ/1923م (والد الشيخ أبي الحسن الندوي) للبروفيسور قدرة الله الحسني.
- قام بالتقديم لكتاب «صيحة تحذير من دعاة التنصير» لمؤلفه الكبير المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
- من مآثرة القابلة للتسجيل بحوثه الإبداعية حول الفتح الإسلامي لمصر، ومسيرة مصر الإسلامية، وطبيعة التاريخ الإسلامي البشرية والمثالية، وفلسفة التاريخ في أفكار بديع الزمان النورسي التركي، وأثر العرب والمسلمين في الحضارة الإنسانية، والتاريخ الحضاري الإسلامي للقارة الهندية، ومشكلات التعليم في إفريقيا، ودراسته الواعية لسقوط ثلاثين دولة إسلامية التي نشرت مُسَلْسَلَةً بمجلة «المجتمع الكويتية».
الصورة والسيرة:
كان رحمه الله رَبْعَةً من الرجال، أبيضَ مُشْرَبًا بالجمرة، واسعَ الجبهة، واسعَ العينين اللذين يَتَّقِدان ذكاءً وفطنةً، أشمَّ الأنف، باسم الشفتين المحمّرتين طبيعيًّا، جميلَ المُحَيَّا، مُشْرِقَ الوجه، بَهِيَّ الطَلْعَة، جذّابَ الشخصيّة، محلوقَ اللحية والشارب كعامّة العلماء والمثقفين المصريين، قد علا الشيبُ فوديه، وتخلَّل جميعَ رأسه، بعيد الهمة، كبيرَ الأمل بمستقبل الإسلام، كثيرَ الرجاء من جيل الشباب المسلم الذي أدرك أغوارَ مؤامرة الأعداء من الصهاينة والصليبيين والوثنيين والعلمانيين والليبراليين، وبدأ يأخذ عُدَّتَه، ويصطنع أُهْبَتَه للانتصار للعقيدة والدين، ولإدالة الإسلام على الجاهليّة.
وكان واسعَ النظرة، فسيحَ الأفق، ثاقبَ الفكر، كبيرَ القلب والعقل، مُرْهَفَ الحسّ، لطيفَ الوجدان، قويَّ الإيمان بالله تعالى ونصرته لهذا الدين، وتمكينه للمسلمين، وبأنَّ الإنسانيةَ التائهةَ الضائعةَ ستأوي عما قريب إلى ظل هذا الدين الذي رَضِيَه اللهُ لعباده. وكان يَعُدُّ الثورات العربيّة الأخيرة نعمةً من نعم الله وبادرةَ خيرٍ وإقلاعٍ عن عهود الظلم والجبروت والاستبداد.
وكان إلى ذلك حليماً كريماً، بشوشاً، طلقَ الوجه، سخيَّ النفس، رَضِيَّ البال، ذا نقاش حادٍّ وحوار ساخن في القضايا التاريخية والمسائل الفقهية العلميّة، ولاسيّما إذا واجه فيها المتحررين، والعقلانيين والليبراليين، متألماً لحال الأمة وتأخّرها في مجالات العلم والتكنولوجيا والعلوم الطبيعية التي كانوا فيها أساتذة العالم.
كما كان رحمه الله كبيرَ الاحتراز من التشكّي والعتاب وتبادل الملام، كثيرَ الاحتكاك بالعلماء والمفكرين المسلمين الملتزمين، ورجال الإعلام والصحافة الإسلاميين، يعطيهم ويأخذ منهم، وينصح لهم، ويدعو لهم بالتوفيق والسداد، والعمل بما يرضى الله، وينفع الأمةَ، ويُرْشِدِ الإنسانيّةَ، ويُصْلِح الأرضَ.
(تحريراً في الساعة 12/ من يوم الثلاثاء: 17/ جمادى الأولى 1433هـ الموافق 10/أبريل 2012م)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1433 هـ = يونيو 2012م ، العدد : 7 ، السنة : 36