الفكرالإسلامي
بقلم: أ. د / مصطفى رجب
كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مدرسةً مفتوحةً يتعلم فيها الجالسون أرفع الآداب وأسمى الأخلاق ممن أدبه ربه فأحسن تأديبه ومن أجل ذلك كان حرصهم على حضورها شديدًا، فكان المكان يضيق بهم في بعض الأحيان فيتزاحمون في الجلسة.
وكان معروفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب إكرام أهل بدر من المهاجرين والأنصار لما لهم من مكانة سامية وسابقة في الجهاد.
وحدث ذات يوم جمعة وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في الصُّفة – وهي موضع كان بعض فقراء الصحابة ممن لا أهل لهم يقيمون به إقامةً دائمةً في أحد جوانب المسجد ويعيشون على صدقات الموسرين – وكان المكان غاصاً بمن حضروا من الصحابة، فجاء قوم من أهل بدر ووقفوا في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم انتظارًا لأن يوسع لهم في المجلس؛ ولكن حرص الجالسين على القرب من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم لا يتحركون فشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فالتفت إلى الجالسين من غير أهل بدر وقال: قم يا فلان وأنت يافلان وأنت يا فلان – بعد الواقفين القادمين – ثم أمر أهل بدر بالجلوس.
وقد شق ذلك على من أقيم من مجلسه وربما ظهر أثر ذلك في وجهه فاستغل المنافقون هذا الموقف وقالوا: «والله ما عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه» فأنزل الله سبحانه الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة/11).
وروى الإمام «الفخر الرازي» في تفسير هذه الآية عن «ابن عباس» أنها نزلت في «ثابت بن قيس بن الشماس» وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم أماكنهم فأراد أن يجلس قريبًا من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم نظرًا لما كان به من ضعف السمع فوسعوا له حتى اقترب منه، ثم جرى بينه وبين بعضهم كلام أو عتاب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» وكان يقدم الأفاضل من أصحابه سواء في المجلس أو في الجهاد أو في أي باب من أبواب الخير التي كانوا يتنافسون عليها. قال الفخر الرازي:
«إن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة».
وقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ جواب الأمر في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ أي إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا للصلاة أو للجهاد أو غير ذلك من أعمال الخير. فكأن رفع الدرجات نتيجة لازمة لامتثال الأمر بالتفسح والنهوض فما السبب في اختصاص أهل العلم هنا بين المؤمنين جميعًا؟.
روى الزمخشري – رحمه الله – عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذه الآية يقول: «يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم».
قال العلماء: إن الممتثل للأوامر الإلهية والنبوية بالتوسع والنهوض يخفض نفسه عن مكان يحبه ويحرص عليه التزاماً بالأوامر الشرعية ومن هنا كان جزاؤه أن يرفع الله مكانته ودرجته؛ لأن الجزاء من جنس العمل فلأنه تواضع لله رفعه الله، وهذا النوع من الجزاء يناسب العلماء خاصةً من دون الناس؛ لأن مجالسهم عادةً تكون أرفع من مجالس مستمعيهم فكان الواحد منهم إذا نزل عن مكانه بإرادته وتواضع زاده الله عزًا ورفعه درجات أكبر. وقد اختلفت مواقف الصحابة – رضي الله عنهم – من هذا الأدب السماوي الرفيع باختلاف شخصياتهم.
فكان سيدنا «عبد الله بن عمر بن الخطاب» رضي الله عنه وعن أبيه لايجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه التزاماً بحديث رواه هو نفسه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «لايقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» (حديث صحيح أخرجه الشيخان من حديث نافع) أما سيدنا أبي بن كعب – سيد الفقراء – فكان إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلاً يكون من أفناد الناس (أي من العامة) ويدخل هو في الصف المتقدم ويحتج لعمله هذا بحديث صحيح رواه مسلم وأهل السنن – عدا الترمذي – عن عبد الله بن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
وقال الإمام «ابن كثير» في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة/11) أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل وإذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصاً في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله والله تعالى لا يضيع ذلك له بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره والله تعالى خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحق.
التربية في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم
وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مفتوحة الأبواب، لا شروط مسبقة للقبول فيها، ولا حجاب على الأبواب يدفعون الضعاف ويأذنون للأقوياء، ولا رسوم تدفع ولا استثناءات تحول بين الفقير والتعلم.
وكانت تربية محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه ورواد مجالسه تقوم على أسس تخالف ما تقوم عليه المدارس الحديثة:
أ – من حيث إن مصادرها إلهية ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتْلُوْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة/2)، قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة:
«قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.
و(رسولاً منهم) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا حي تغلب(1) فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم فلم يجعل لهم عليه ولادة. وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي: فإن قيل ما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: إحداها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها(2).
ب – ومن حيث إنها مفتوحة للجميع بلا استثناءات ولا شرط للقبول ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ/28).
قال الإمام الطبري(3):
أي وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصةً، ولكنا أرسلناك كافةً للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرًا من أطاعك، ونذيرا من كذبك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر.
ج – ومن حيث إنها مجانية لا تطلب رسوماً ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى/23).
قال الإمام ابن كثير(4):
«قوله عز وجل: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
الملامح العامة للتربية في المجالس النبوية:
تميزت التربية في المجالس النبوية بعدد من السمات والملامح العامة التي تجعلها النموذج الأسمى للتربية، ومن أهم تلك السمات أو الملامح:
1 – الحرية:
ففي أي مؤسسة تربوية معاصرة توجد قيود متعددة تحد من حرية المعلم أو حرية المتعلم. ومن هذه القيود: الالتزام بنظام المجتمع السائد الذي تعمل فيه تلك المؤسسة التربوية، والانصياع للقرارات والقوانين المنظمة لعمليات التحصيل الدراسي والتقويم والقياس التربوي، والارتباط بأعمار معينة للمتعلمين وشروط خاصة للانتقال من مستوى تعليمي إلى مستوى أعلى. أما في ظل التربية المحمدية في المسجد فقد كان لكل أحد حق التعلم وحق السؤال دون قيد أو شرط؛ لأن ضوابط السلوك التعليمي كانت إلهيةً والمثال على ذلك عندما كان بعض المسلمين يتصايحون بأصوات مرتفعة وهم ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج إليهم نزلت آية كريمة نبهتهم إلى خطأ سلوكهم فذلك قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ (الحجرات/2)، قال الإمام القرطبي في سبب نزول هذه الآية:
«روى البخاري والترمذي عن «ابن أبي مليكة» قال: حدثني «عبد الله بن الزبير» أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوبكر: يا رسول الله استعماله على قومه فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافى. فقال عمر: ما أردت خلافك قال: فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه».
2 – الاستمرارية:
من شأن المؤسسات التربوية المعاصرة التخلى عن واجباتها عند حد معين يبلغه المتعلم، أو تقلص دورها عند ذلك الحد، فمثلاً إذا نظرنا إلى الأسرة كمؤسسة تربوية نجدها تمارس دورها التربوي حتى سن السادسة، ثم تكل الطفل إلى مدرسة وترفع يدها عن تربيته شيئًا فشيئًا، حتى إذا تزوج أو بلغ مبلغ الرجولة لم يعد لأسرته أثر في تنشئته وتقويم سلوكه. وكذلك الحال بالنسبة للمدرسة، فما أن يتركها المتعلم إلى الجامعة أو غيرها حيث تستقبل غيره ولم يعد لها سلطة عليه. وقل مثل ذلك في دور العبادة وجماعات الرفاق والأندية ووسائل الإعلام، فكل تلك المؤسسات يظل أثرها محدوداً بالمدة التي يقضيها الفرد بين جنباتها.
أما المجالس النبوية فقد كان للتربية المنبثة فيها أثر سلوكي دائم روادها. إذ كانت تمتد آناء الليل وأطراف النهار من جهة ومن جهة ثانية كان الصحابة يذكر بعضهم بعضاً بما سمعوا وما شاهدوا من مواقف تعليمية للنبي الأعظم – صلى الله عليه وسلم – فصفة الاستمرارية متحققة في هذا النموذج التربوي أدق تحقق.
3 – الشمول:
وإذا كانت التربية المعاصرة تأخذ بمبدأ التخصص، فتتيح للمتعلم أن يتلقى علماً معيناً أو علوماً بعينها، فإن التربية في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كذلك بل كانت تشمل جميع جوانب الحياة. فقد يسأل سائل عن الميراث، ويسأل ثان عن الجهاد، ويسأل ثالث عن علاقته بأهله، ويسأل رابع عن أمور صحية.. إلخ.
فكان التوجيه النبوي يشمل كل شؤون الحياة دون إهمال شأن منها، وكيف يكون الإهمال – حاشا لله – وقد بعث الله – سبحانه وتعالى – نبيه وأجرى على لسانه الشريف سنته المطهرة تبياناً للكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لم يفرط في شيء من الأشياء.
* * *
الهوامش:
- تفسير القرطبي، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- تفسير الطبري، طبعة دار الفكر، بيروت، 1980م.
- تفسير ابن كثير، طبعة دار الفكر، بيروت، 1981م.
- القرطبي، مرجع سابق.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36