الفكرالإسلامي
بقلم: الشيخ إسماعيل صادق العدوي
إمام وخطيب الجامع الأزهر سابقاً
الحمد لله .. أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللّهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى أهله وصحبه حق قدره ومقداره العظيم.
أما بعد:
فيقول أهل اللغة حرف ساكن أي غير متحرك، وتسكن الأشياء في عدم الحركة.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيٰتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. (سورة الشورى، آية:33)
والسكينة هي السكون الذي يلقيه الله سبحانه – وتعالى – وينزله على قلب المؤمن. شيء عظيم؛ فالسكينة سكون القلب وطمأنينته، والثبات على العقيدة، وعدم التذبذب والحركة، وفرق بين المنافق والمؤمن، فالمؤمن سكن قلبه، والمنافق مذبذب لا ثقة فيما يصنع، وهو يتظاهر بالشيء دون سكن، والسكون في صدره مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذا عبث السكون، فلم يسكن القلب حيث لم يكن فيه معنى الذكر لله، فذكر الله سكن وطمأنينة وثبات، في الرخاء والشدة سكون وسكينة، في الصحة والمرض سكينة وسكون، في السلم والحرب سكن وسكينة وطمأنينة، ذلك ذبذب القلب بالأحداث فسكون القلب فوق الأحداث مهما عظمت ومهما اشتد وطؤها على النفس فالسكينة تُذيب كل ذلك كما يُذاب الجليد بحرارة الشمس، فالجليد يتحرك والشمس في حركتها هي سكون وطمأنينة للناس.
أيها المسلمون :
نحن نستقبل عاماً دهرياً جديداً عاماً فيه هجرة وكانت بعد هجرة، والهجرة حركة تحرك المسلمين إلى أرض جديدة، تحرك صراعاً بين الحق والباطل فلم يسكنوا هزيمةً أمام غيرهم وإنما سكنت قلوبهم إلى ربهم، فكانت الحركة بنَّاءةً عظيمةً جليلةً إلى يومنا هذا، وهي بداية حركة الإِسلام إلى آفاق العالمين ولا يُنْشر الإِسلام بذبذبة أهله، ولا بعدد سكونهم وثباتهم على الحق، وإنما سكينتهم حركت أفئدة الدنيا إلى الإسلام، فالمنافق هوالمذبذب لا يحرك قلباً؛ لأن قلبه غير ساكن، فالقلب المزعزع الذي لم يسكن إلى الحقيقة، والحق لا ينطلق فهو مُقيّد مسلسل والمقيد لا يتحرك؛ لأنه مُقيد بشهوات الدنيا وانصرافه إليها بما يهوى مهما كان مُخالفاً لذكر ربه وسكينة نفسه.
أيها المسلمون :
إن قيادة البشر تحتاج إلى سكينة في بداية الأمر، فإذا لم يسكن القائد في معارك قتاله: أصبح جنوده في إضطراب وقلق، ولا يتم النصر بذلك.
المعلم إذا لم يكن ثابتاً ساكنًا في علمه عُدِمت الثقة به وهو بين طلابه، وأي صاحب صنعة إذا لم يكن ثابتاً على علمها وخبرتها فلا ينتشر علمه، والطبيب إذا كان على هذا الحال لا سكينةَ في قلبه مما يعمل فإنه لا يعالج مريضاً.
أيها المسلمون :
السكينة لها أصل، ومدد أصلها: ذكر الله، ومددها: من الله فمنه وإليه ولا ثاني في ذلك.
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. (سورة الرعد، آية:28)
أي تسود وتثبت فهي على الحق، وعندما تقرأ آية الهجرة في حقه – صلى الله عليه وسلم – نرى كيف وضع الله كل أسباب النصر في هذه الحركة بالسكينة، بسكينة النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو صاحب رسالة سووِم عليها بكل أنواع المساومة، فلم يقبل وتآمر الناس عليه فخرج من «مكة» بل أُخرج منها وقال قولته العظيمة:
«يا مكة والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت». ولكنه خرج، أو أُخرج، خرج بأمر الله وسبقه المؤمنون وبقي آخرهم ليطمئن عليهم، لم يسبق، ليكن في سكن وهدوء نفسي، والمؤمنون في قلق وخوف من أعدائهم أو في صراع لا يؤمن عليهم منه، إنه الراعي الذي يتأخر من أجل رعيته حتى يطمئن إلى خروج آخر واحد منهم، إنه علم الهجرة وفلسفة القيادة التي ترتبط بالرعية ارتباطاً وثيقًا في سكينة جامعة.
إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (سورة التوبة، آية:40).
فخاف سيدنا «أبوبكر» عليه؛ ولكنها الرسالة المطمئنة، فالذي طمأن هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والذي طُمئن هو صاحبه، وهو رمز الأمة. يُطمئن صاحبه؛ لأنه مُطمئن، يبث في صدره السكينة؛ لأن الله أنزلها عليه، فلا يتحرك خوفاً ولا وجلاً.
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (سورة التوبة، آية:40)
إيمان مطلق، وعقيدة فائقة، لا يصل إليها عقل، ولا يخوفها أحد، مهما امتلأت بأعدائها، واحد يحرك الأمة إلى الإيمان؛ لأنه قد سكن فيه الإيمان، والقائد الذي يسكن فيه الإِيمان، يشعُّ نور قلبه في ثنايا صدور رعيته، أمَّا إذا كان غير ذلك، ففاقد الشيء لايعطيه.
إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.(سورة التوبة، آية:40)
إنه ترتيب رائع، وتبويب خطير للكلمات وآثارها، وعلمها، وفائدتها، فالسكينة لا تكون إلا من الله، ولا تأتي من غيره مهما عظمت قوته، واشتد بطشه فالسكينة سرٌ من أسرار الله، يضعها حيث يشاء، فأنزل الله سكينته عليه، فهذا نصر؛ بداية النصر: أن يكون الإِنسان على عقيدة راسخة راسخة راسخة.. الجبال تتحرك، والعقيدة لا تتحرك، فقد تُصاب الجبال بالزلازل كما نرى في عالمنا اليوم، زلزال في بضع ثوان، تتهاوى بسببه الجبال والبيوت، وكل ما على الأرض؛ ولكن الإِيمان القوي لا يزلزله شيء، ولا يتأثر بما يجري حوله.
أيها المسلمون :
عندما زاد عدد المسلمين، وذهبوا إلى غزوة «حنين» وكانوا كثرةً بخيلهم وعدتهم وعددهم، فقال بعضهم لبعض: لن نغلب اليوم عن قلة، فأين السكينة؟.. وأين الثقة في نصر الله تعالى؟.
إن الكثرة تجري بلا سكينة، وتهزم بلا سكينة وبلا ثبات وطمأنينة، حيث لا سبب للنصر فكيف تُنصر الأمة بهذا الفكر؟.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . (سورة التوبة، آية:25)
ولّى مَنْ لا سكينة في قلبه، تحرك القلب من الدنيا فظهرت بوادر الهزيمة بهذه النفوس؛ ولكن الذي في قلبه سكينة الحق وفيها قيادة الأمة سكن إلى الله، واطمأن إليه، وثبت قدمه، وانتظر النصر في قوة، فوقف يخاطب الناس جميعًا: –
«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»، وأمر العباس – رضي الله عنه – أن يُنادى في الناس أن يأتوا إلى السكينة، لا إلى الفزع والاضطراب، والوجل والهروب، فعدمُ السكينة يؤدي إلى ذلك.
تعالوا إلى السكينة التي فيها النصر، وفيها التَّأييد، وفيها الغَلبة، وفيها العزة.
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ (سورة التوبة، آية: 25، 26)
هذه مقاييس الأوائل مهما بدّل الناس عن ذلك، فهم في خوف، وعدم أمن، وهذا ما نراه في واقعنا المعاصر، وما ذاق الناس مرارة عدم الكسنية، إلا بَعْد بُعْدهم عن الله، وذكر الله وشرعه.
أيها المسملون :
الفتح الأعظم، والنصر الكبير، لا يتحقق إلا بالكسينة، وهي لا تتحقق إلا بأن يسكن الناس إلى الله إيماناً وتشريعاً، فإذا سكن القلب إلى ذلك، وأصبحت الشريعة سكينةً للنفس، فلا خوف، ولا حزن، ولا هزيمة. يقول الله – سبحانه وتعالى – في سورة الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمٰنًا مَّعَ إِيمٰنِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمٰوٰتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (سورة الفتح، آية: 1-4).
انظروا كيف أن الله يربط شأن الجنود بالسكينة كما يربط النصر بالكسينة، فإذا ما ذهبت السكينة حل الخوف والاضطراب، وزعزعت الصدور، وأصبح الناس في وجل وعدم أمن، والمن لا يكون بتأييد أعداء الدين.
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟.
يسأل الله – سبحانه وتعالى – بسؤال عظيم: مَنْ يستحق الأمن؟ إنهم أهل الإيمان واليقين، والثقة بالله – سبحانه وتعالى – .. وبعد:
فهل علمتم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو محرم وقد أتى إلى الحديبية فغار الناس على الإِسلام، فمدوا أيديهم مبايعين، وكانوا على إحرام، ولم يكن معهم إلا السهام فبايعوه على الموت، فذكر الله ذلك بأمة الإسلام.. يقول الله – سبحانه وتعالى – :
لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (سورة الفتح، آية:18).
كل يدعى لكنه ادعاء، أو مجرد ادعاء.
يقول المولى – عز وجل – :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجٰهَدُوا بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّـٰدِقُونَ (سورة الحجرات، آية:15).
إن الهجرة تمت بالصادقين لا بالمدعين، فأغناهم الله، يقول الله سبحانه وتعالى:
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰرِهِمْ وَأَمْوٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوٰنًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّـٰدِقُونَ (سورة الحشر، آية:8)
أيها المسلمون :
إن السكينة والصدق شيآن لا ينفصلان. فإن أردت أن تعلم السكينة في صدور الناس، فالصدق أمارة على أفعالهم.
وَقُلْ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِّي مِنْ لَّدُنْكَ سُلْطَـٰنًا نَصِيرًا (سورة الإسراء، آية:80)
لا نصر للكذابين والمدعين، وإنما النصر للصادقين الذين وَقَرَت في قلوبهم السكينة بالذكر والعقيدة والسلوك.
وَقُلْ رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِّي مِنْ لَّدُنْكَ سُلْطَـٰنًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـٰطِلُ إِنَّ الْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا (سورة الإسراء، آية: 80، 81).
نشيد الإِسلام الذي يرفع الهمم، ويبث العزة في صدور شباب المسلمين وفي أطفالهم، وشيوخهم ونسائهم، نشيد الإسلام، اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن السكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا».
أما الفتن التي يرجى بها أن تدخل على أرض الإِسلام، فليس ذلك من شعار الإِسلام، إنما من شعار الكذابين، نريد صدقًا، والصدق يدل على السكينة، والسكينة والصدق ثبات ونصر وشرف إلى يوم الدين.
إنها الهجرة.. سكنت القلوب إلى ربها فتحركت الأجسام لنصرة الله ورسوله، هي حقيقة الهجرة، ودونها الباطل، وأي كلام يخالف ذلك فهو ادعاء وبهتان وزيف..
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا..
عباد الله: أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، ولنذكر الله جميعاً، أو كما قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له.»
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36