الأدب الإسلامي
بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
قمة في الخلق
حسن الخلق هبة من الله – سبحانه وتعالى – يضع بذرتها في المرء منذ ولادته، أو يهبها له بالتربية، أو التعليم؛ وحسن الخلق نعمة كبرى من نعم الله التي لاتحصى، وصاحبها علمٌ مضيء في مجتمعه، يستضيء به مجتمعه ويفاخر، ويُقْتَدى به؛ فهو في المقدمة، ينفع من حوله، ويضفي على مجتمعه نوراً يشع في جنباته، ويساهم في القضاء على بعض الظلمات، وما يجلبه منها بعض الأفراد ممن لم يمن الله عليهم بما منَّ به عليه.
وعمل صاحب الخلق الحسن مرموق، ويعلن عن نفسه، لا يجهله إلا مكابر، ولا ينكره إلا حاسد، أو مغالط، يتكلم الناس عنه، ويشيدون به، ويكون على الألسنة حلاوة، يستعاد طعمها، وزهرة يستمتع برائحتها، وإبزاراً يلتذ بنكهته، وصاحب الخلق الحسن أعماله تُسَجَّلُ، وتتداول من زمن إلى زمن، ومن جيل إلى جيل، يشرف بها التاريخ، ويزكوبها الأدب.
وحَسَنُ الخلقِ لا يقوم بالعمل الجميل؛ لأنه يشعر أن هذا واجبه العائلي، أو حقًّا وطنيًّا عليه، أو تقتضيه مصلحة ما؛ ولكنه يقوم به للجانب الإنساني فيه، وللذة التي يجدها في أنه في المقدمة في أداء حق مُسلَّم به؛ ويتعدى أحيانًا صاحب الخلق الحسن ما تعارف الناس أنه المقدار المطلوب في أمر ما، ويبعد فيأتي بغير ما هو متوقع من زيادة الخير، وإيفاء المعروف أكثر من حقه، وزيادة الإحسان في هذا.
والقصة الآتية تبين جانباً من الجوانب التي ذهب فيها صاحبها في ارتقاء خلقه إلى القمة، وحمَّل نفسه ما يظن غيره أنه فوق الطاقة، وأنه لا داعي له؛ ولكنهم لم يتصوروا اللذة التي يجدها هو، ولا المتعة التي رتع في روضها، ولا الأجر الذي أمل فيه من الله – سبحانه وتعالى – :
«قال سعيد بن عبد الرحمن الزبيري:
سرقت نعل «عامر بن عبد الله الزبيري»، فلم يتخذ نعلاً حتى مات، وقال:
أكره أن أتخذ نعلاً، فلعل رجلاً يسرقها، فيأثم»(1).
ليت السارق علم بما سببه لهذا الرجل الخير من الأذى، صيفاً بحر الشمس، واحتراق القدمين، وشتاء بزمهريره، وما يعرضه من لسع البرد، وألم المفاصل، ونرجو أن يقبل الله من «عامر» عمله هذا الجميل، ونيته الصافية، وأن يعوضه بنعيم الجنة المقيم.
إن «عامراً» لم يفكر في نفسه، ولم يخطر على باله شيء في أمر دنياه، وما يطلبه الناس فيها من الراحة، والرفاهية، إنه أغمض عينيه عن هذا، واخترق الأجواء كطائر حر، سابح في السماء، لم يحط إلا على دوحته المختارة، الآخرة وما فيها من نعيم الله، وهي خير عوض عن أي متعة في الدنيا. لقد سبح «عامر» في طموحه، وتغلب على أمواج الدنيا، العاتي منها والهادئ، ورجال أن يوصله قاربه إلى الساحل المريف.
إذا كان للجبال قمم تفاخرها إفرست، فللخلق قمة وصل إليها خلق عامر بن عبد الله الزبيري، وحط هناك مستأنساً، وقر هناك مطمئنًّا، يؤكده أصالة عميقة، ويثبته تصميم نبيل.
ويكشف الزمن ضياءً مشعًّا من الخلق المنير، ويزيل الستار عن نبل دفين، وترتفع الحجب عن كرم أصيل؛ دلت عليه تجربة طارئة، وحادثة عارضة، لم تكن بالحسبان، ولم تخطر على البال؛ وكانت مثل الجمرة التي نشرت عطر البخور، وأشاعت الرائحة الزكية من ندّ أثير، والقصة كما يلي:
«مرض قيس بن سعد بن عبادة، فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل له:
إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين.
فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ألا من كان لقيس عليه حق فهو منه في حل وسعة، فكسرت درجته بالعشي، لكثرة من عاده»(2).
لقد غلب الحياء مدينيه، فلم يعودوه، وأرغموا بذلك عن عيادته، فافتقدهم، واشتاق إلى رؤيتهم، والمرء بأحبائه، خاصة وقت مرضه، ولما علم السبب سارع يزيله عنهم، ويزيحه عن طريقهم، وأسقط قيس ديونه مختاراً جذلاً؛ لأن وجوه مدينيه أكثر إشعاعاً من بريق الذهب؛ ولأن عنصرهم أثمن من معدنه، لقد عرف داء غيابهم، ومرض هجرهم إياه، فبحث عن كنه المانع، فعالجه العلاج الناجع، ولم تغب الشمس لذلك اليوم، حتى شكت عتبته دوس الأرجل، وثقل الأجسام، وتعاقبها، فكان هذا الدوس، وهذا الثقل، بردًا وسلاماً على كبد قيس، وهذه الأرواح الخيِّرة أخف على قلبه من ريش الخوافي.
رحم الله قيساً فقد كانت نفسه خيِّرةً، وروحه نديةً، أصعدته إلى قمة الخلق الحسن، وأجلسته هناك ممتعاً منعماً، في قلوب أصحابه، كما أراد، وكما اشتهى.
ونمر باثنين ملآ كفتي ميزان الخلق الوضيء، وتماثلا فيهما، وتعادلا، لم يكن أحدهما ليرجح في كفته على الآخر، وكلاهما كان يغرف من صحفة «محمد بن عبد الله»، عليه صلوات الله، التي لم يغب عنهما ما كان فيها من خير، ويتناول من حوضه الصافي المعين، مما لم تتبخر منه قطرة بعد، ولايزال يطفح بسنته المجيدة التي رضعا لبانها؛ لهذا كانا في تصرفهما في قمة حسن الخلق، ولم يهزّ أحدهما ما في الموضوع من حرج، ولا دقة منحنى، لقد تسابقا على الاعتذار، أحدهما على العمل، والثاني أبعد فاستحيا من مجرد النية، بله السعي والعمل، والقصة الجميلة تقص كما يلي:
«جاء سلمان يخطب امرأةً من قريش، ومعه أبو الدرداء، فذكر سلمان، وسابقته في الإسلام، وفضله، فقالوا: أما سلمان فما نزوجه، ولكن إن أردت أنت زوجناك.
فتزوجها أبو الدرداء، فلما خرج قال:
يا أخي، قد صنعت شيئًا، وأنا أستحيي منك. وأخبره.
فقال له سلمان: أنا أحق أن استحيي منك، أخطب امرأة كتبها الله لك!»(3).
تسابقا في ميدان الخير إلى قمة الخير فوصلاها معاً، وجلسا على أعلى مكان فيها. إن أبا الدرداء وثق من روح سلمان، وامتلأ قلبه بالعدل والإنصاف؛ ولربما كان متوقعاً أن يرفضه بيت من بيوت قريش، وهو الفارسي؛ ففكر في صديقه وفي المرأة التي فرح لها بمثل أبي الدرداء، فلم يحرمها حظها الحسن، ولم يحرم في داخل نفسه صديقه ممن كان اختارها لنفسه، لو كان من نصيبه أن يتزوجها، كما كان مقدِّراً.
والتحمل والصبر، وسعة الصدر، والنظر إلى المعتدي بعين الحكمة والتبصر، وتفسير أفعال البشر بما يخفف وقعها، ويقلل من شأنها، وسائل توصل إلى قمة الخلق؛ لأنها تسقى من عين خيرة فياضة، داخل النفس، ماؤها معين، وطرحها فاكهة ناضجة، سهلة المستقى، حلوة المجتنى؛ لا يندم من تحلى بصفتها الخيره، ولبس ثوبها الدافئ، ونام على فراشها الوثير؛ تعود عليه براحة البال، وهدوء النفس؛ وإذا كان غيره يعاني من سورة الغضب، ورياح الحنق، فهو ينعم بنسيم الهدوء، وبرودة الطمأنينة، والقصة الآتية تمثل هذا الأمر، وتري السلامة التي تأتي رغم الاستثارة، والراحة رغم الإزعاج:
«عن فيثاغورس: شتمته امرأته، وظلت تسمّع به، وتؤذيه، وهو ساكت، فلما اشتد غيظها من سكوته، أخذت غُسالة ثياب كانت تغلسها، فصبتها على رأسه، وعلى كتاب كان في يده، فرفع رأسه وقال:
أما إلى هذه الغاية فكنت تبرقين وترعدين، وأما الآن فقد أمطرت»(4).
لقد كانت هي الأوْلى أن يصب عليها ذنوب من ماء، ليطفئ نار الغضب التي كانت تغلي في رأسها، فيندلع لسانها بشواظ من اللهب، قابله فيثاغورس ببرود متناهٍ، كان كأنه وقود يرمى على هذه النار المتاججة؛ ولعله لو كان رد لم يكن الأمر ليختلف، فإذا كان السكوت حطباً جافًّا، يسرع في اشتعال النار، ويزيدها قوةً في تلهبها، فالرد يكون حطباً رطباً، يعمي أوَّلاً بدخانه، ثم يزيد الاشتعال اشتعالاً، والإلتهاب توقداً.
ولا يستغرب موقف «فيثا غورس»، فهو فيلسوف حكيم، من الحكماء البارزين، ولعل مما شحذ عنصر الصبر والتحمل عنده، امرأته، التي لابد أنه كان يمرن أجهزة الصبر عليها، حتى وصل صبره إلى هذه القمة من حسن الخلق، وإنها الحياة تعيسة في نظرنا أن يعيش رجل مثل فيثاغورس مع امرأة غضوب مثل امرأته، ولكن من يعرف، فقد يكون احتسب أجراً على صبره، دنيويًّا أو أخرويًّا، وإن كان يكفيه – في رأينا – خميلة الصبر، التي لابد أنه أصبح يتقنها، بل يتمتّع بها.
وبر الوالدين يقع في قمة الخلق الحسن، وأجره عند الله عظيم، وكلما أوغل الإنسان فيه زاد حظه من الأجر والثواب، وبعض الناس يتفنن في هذا البر، وينوع فيه، ويجعله همه في كل خطوة يخطوها في حياته، والعمل اليومي المعتاد، من خدمة وقول وعمل، لا تكفي، بل يبحث عما يضيف جديداً، ويكون له أثره الحميد والمبهج عند من وجه إليه، وعند من يسمع عنه، خاصة إذا أخذ ممن يحتسب في الاقتداء بالخيِّرين، وهذا مثل من الأمثلة التي توجب التقدير والتبجيل:
«قيل لعلي بن الحسين – رضي الله عنهما – :
أنت أبر الناس، ولا نراك تواكل أمك؟
قال: أخاف أن أمد يدي إلى ما سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها»(5).
كل شيء قد يخطر على بال من يسعى إلى البر بوالديه إلا هذه الفكرة التي لا تأتي إلا من نية صافية وهَّاجة، وعنصر زاك نبيل. وإن كان المراقب لم يلحظ الحكمة في هذا العمل، فالفخر يعود إلى من عمله، وسَبَق من لاحظه، وتبصر فيه، واستغرب منه!
إن التفكير في أمر دقيق مثل هذا، لم يأت إلا من اهتمام عميق متواصل في البحث عن مجالات في البر، لم تطرق من قبل، وحرص متغلغل في الحذر مما قد يوقع في العقوق دون تنبه، وما قد يركس في العصيان عن غفلة وتهاون. هذه الأم تهنأ على ما أنجبت، وتهنأ على حُسن التربية، والتأديب الجميل.
ويشمخ حسن الخلق زلف الصعود، ويتسلق درج النبل، ويصعد سلالم الشرف، بحق وجدارة، ويتبوأ مكانه من القمة؛ ووسيلته هي صدقه مع نفسه، وحرصه على حق الآخرين، ونسيانه مصلحته، وتقديمه مصلحة الآخرين، واحترامه لنفسه، قبل احترام الآخرين لها، وخوفه من الله في السر، مثل خوفه إياه في العلن؛ هو يريد أن يكون صاحب الفضل في إعطاء الحق وافياً غير منقوص، صافياً لا تشوبه شائبة، وقد أكسبه هذا الاحترام في الدنيا حسب علمنا، بدليل تسجيل عمله الخيِّر، وقد انحدر الخبر مع الزمن، حتى وصل إلينا، ونرجو أن يكون عمله هذا مقبولاً من رب العالمين، القادر على عِظَم الجزاء، ووفاء الثواب، والقصة عن ابن عمر، وهي كما يلي:
«قال زياد بن سليمان:
أمر «ابن عمر» رجلاً أن يشتري له متاعاً، فاشتراه له، ثم أتاه، فرضيه «ابن عمر»، ودفع إليه الثمن، فانطلق إلى صاحبه، فدفع إليه الثمن، واستوضعه دينارين، ثم أتى بهما ابن عمر، فأخبره، فقال ابن عمر:
قد رضينا المتاع، فبأي شيء تأخذ هذين الدينارين؟ رُدّهما على الرجل»(6).
إن الغنى غنى النَّفس، والكرم سجية، ولا يملأ النفس إلا صفاؤها بمثل هذه الصفات الجميلة؛ إن الدينارين ليسا شيئاً مع قيمتهما المادية العالية، عند احترام المرء لنفسه، وإحقاقها الحق، وبعدها عن التدني، والارتفاع بها عن حُفَر الاحتقار، وهذه القصة تدل على مكارم الأخلاق، واختيار قمتها، وما فعله الوكيل اجتهاد ظن معه أنه مصيب فيه، وما درى ما في ذهن ابن عمر من تلافيف تنطوي على خير دفين، وحب للخير هو جبلة فيه.
وتبرق فكرة نيرة في ذهن «الوليد بن عبد الملك»، فتبدد ظلمة أراد شرير أن ينشرها في محيطه، فسارع يبدد دُجُنّتها، ويقضي على حلكتها؛ لأن الخير في نفسه غالب، والشر مغلوب، وللخير حيِّز واسع، ولا حيز للشر؛ والخير في صدر الحاكم، إذا سيطر، كانت معه السعادة له ولمن يحكم، ولهذا يُدعى للحاكم؛ لأن النفع منه يعم أمةً بأكملها، وليس مثل الفرد نفعه لنفسه، وقد يكون لمن حوله، وقصة الوليد بن عبد الملك تأتي كما يلي:
«قال رجل للوليد بن عبد الملك:
إن فلاناً نال منك.
قال: أتريد أن تقتص أو تارك من الناس بي؟»(7).
لم ينهره «الوليد» عن النميمة فقط، بل جاء هذا بطريقة مرعبة، فلقد نبهه إلى أنه أراد أن يستغفله، ويضحك منه، فيقتص من ثأر له عند الآخرين، عن طريق استنهاض الوليد، بخبر يلفقه حتى يستثيره، فيأخذ حقه، وكأن الوليد وكيل له، أو حارس له، أو شرطي يأخذ له حقه من أعدائه.
لقد التفت «الوليد» إليه التفاتة لابد أنها أوقعت قلبه من «معاليقه» لقد كشفه الوليد، وأعلمه أنه كشفه، وأبان له أين وضع الوليد من نفسه، وهي منزلة لم يرضها الوليد.
ولا يريد الوليد لهذا الرجل أن يعيد الكرة، فقفل الباب دون محاولته الحاضرة، وما قد يأتي منه من محاولة في المستقبل، وجعل نهرته العنيفة هذه درساً له، ولمن حضر الأمر، وسمع هذا القول، وسوف يعتبر من يعتبر.
ولا يستعمل الفكر، ولا يكد الذهن، إلا وتبرق أفكار نيرة، تأخذ صاحبها إلى مرتقى عالٍ، في أي حقل جاء هذا الأمر، وفي أي ميدان تسابقت خيله؛ وهذه الميادين منها ما يوصل إلى قمة حسن الخلق مثل القصة الآتية، التي قاد الفكر بطلها، إلى منتهى حسن الخلق، والتحسب لمصلحة الآخرين، والسعي لنفعهم، قبل أن يطلبوا هذا النفع، والقصة كما يلي:
«قَرَع بابَ أحد السلف صديقٌ له بالليل، فنهض إليه، وبيده كيس وسيف، وهو يسوق جارية له، ففتح الباب، وقال:
قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وعدو فهذا السيف، وأيمة (فقدان الزواج) فهذه الجارية»(8).
هذا الرجل لم يتوان، ويؤجل نفعه حتى يعرف من الطارق، وما الأمر خلف زيارة الزائر، وما قد يكون أحوجه إلى المجيء في هذا الليل البهيم، لم يسكت حتى يرى ويسمع، حتى يرى من الطارق، ويسمع ما جاء من أجله؛ إن عجلات فكره دارت بسرعة فائقة، واستقرت على أحد ثلاثة أمور ملحة، لا رابع لها، فاستعد بالمال إن كان السبب هو المال، ليقضي حاجته منه، فالمال رخيص عند قضاء حاجة صديق يلجأ إليه وسط الليل، وإن كان النجدة، أو الاعتداء، فالسيف مسلول، واليد على مقبضه، ولا وقت للأناة، ولا مجال للتأخير، وإن كان الحاجة إلى أهل فهذه الجارية تؤدي الغرض، وتقوم بالواجب.
إنه قمة الخلق أن يفكر المرء في الآخرين بدءًا، وأن يبادر في اتخاذ ما يراه مسعفاً، وما يعتقده منجداً، ولا يتوانى، ولا يتأخر، ولا يبحث عن الأعذار، ولا يتكل على الاحتمالات.
ولا غرابة أن يحدث هذا في زمن السلف الصالح، وغصن الدين أخضر، وزهره متفتح.
وصحبة الرجال الحقة تعمل مثل هذا العمل، ولا تتأخر عنه، ووصفوا الصديق الذي من هذا النوع، فقالوا:
«قال علقمة بن لبيد العطاردي لابنه:
إذا نازعتك نفسك صحبة الرجال، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن عركت به مؤونة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بفضل مدها، وإن بدت منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، اصحب من يتناسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه»(9).
كل هذه الأمور تُري الصديق الذي يبادرك بالنفع قبل نفسه، ولا ينسى مبادرتك إذا حاءته، فهي تغمره، يقدرها حق قدرها، يرى لك أكثر مما يرى لنفسه، في كل جملة قالها علقمة مرحلة من مراحل رقي معارج الخلق الحسن، توصل في النهاية إلى قمة صرحه.
حسن الظن بالناس من أرقى منازل حسن الخلق؛ لأن الحب يكمن داخلها؛ ولأن الحب يطوقها؛ ولأن الحب يغلفها، فهو لبّها ولحاؤها، والحب قالب خير ما مر به تأثر بطبيعته، وتشكل بشكله، والحب بسمة يشع النور فيما خالطته.
هذا خالد بن صفوان يقول قولاً يقعد خلفه حب الناس، والنظر إليهم بمنظار مبتهج صاف، والقصة هكذا:
«مر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج عليه أحدهما، وطواه الآخر، فقال:
عرج عليناهذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته»(10).
الاثنان في نظر خالد الخيّر متساويان عنده، رغم أن عمل أحدهما قد يؤول على أنه صدود، وتصرفه عزوف، أما خالد فأوله تأويلاً آخر، ينبع من قلب أبيض، مليء بالحب، طافح بالرضى، ولهذا لم يأت منه إلا صورة مضيئة، ونظرة حسنة؛ لأن صاحبه يجلس على قمة من قمم حسن الخلق.
ويلتقي، اثنان جاران، تقارب بيتاهما، وائتلف قلباهما، فأصبحا في نظرتهما إلى الأمور متساويين؛ لأن حسن الخلق جمع بينهما، وأخذهما إلى قمة فيه، أقعدهما عليها، فثبتا هناك، غير منافسين فيما فعلا، وغير مجاريين فيما حدث، وقصتهما تدل على ما اتصفا به، وهي تروى هكذا:
«باع «أبو الجهم العدوي» داره، بمئة ألف درهم، ثم قال: فبكم تشترون جوار «سعيد بن العاص»؟
قالوا: هل يشترى جوار قط؟
قال: ردوا علي داري، وخذوا مالكم، ما أدع جوار رجل، إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني جائحة فرَّج عني.
فبلغ ذلك «سعيداً»، فبعث إليه مئة ألف درهم»(11).
رجل صاحب فضل يعرف أهل الفضل، وصاحب معروف، يعرف أين يزرع المعروف، وأرض خصبة داخل نفس أبي الجهم أنبتت من الحبة سبع سنابل، في كل سنبلة مئة حبة، لقد عدد أبو الجهم محاسن سعيد حتى لم يبق نوع من المعروف إلا بين أنه أسداه له، ولا جانب من جوانب العطف والإخاء إلا ألانه له ووطَّأه إياه.
لقد أحسن «أبو الجهم» بسط ما أسداه له «سعيد»، وما دأب على تفقده له به، فرسم صورةً مبهجةً، لم يسمع بها «سعيد» حتى درت دِرَّته، وسال وادي كرمه، وأمطرت أريحيته شآبيب عوضت «أبا الجهم» عن قيمة داره التي رفضها؛ لأنها لم تشمل جوار سعيد المفضال.
وتجد كلمةً مؤدبةً، ونظرةً صائبةً، وفكرةً نيرةً طريقها إلى قلب المهدي، جاء بها حسن الخلق، وبهاء الأدب، فوجدت صدى في قلب مفتوح لقبول الكلمة الطيبة، فجاءت بالثمرة المرجوة، والقصة كما يلي:
«طَلب المهدي من «بكار بن رباح» المدني منزله إلى جانب دار العجلة، بأربعة آلاف دينار، فقال:
ما كنت لأبيع جوار أمير المؤمنين بشيء.
فأعطاه أربعة آلاف دينار، وترك منزله»(12).
إن القول الحسن، وهو ظل الخلق الحسن، حفظ لبكار بيته، وحفظ له جوار الخليفة المهدي، وجاءه بمبلغ مجز، وهي أنوار متتالية، وأرباح متعاقبة، محورها هذه النعمة التي حباها الله بكاراً، فجاءته بما جاءت.
ويراد لرائحة كريهة أن تفوح، وشر نميمة أن يستطير، ومسعى مترد أن ينجح، فأبى ذلك حسن الخلق، وغلب بطبيعته الخيرة، طبيعة الشر المزجى، فجاء الخير يربع، واختفى الشر بحذافيره، وتوفيق الله وقف بجانب قاض من قضاة البصرة، جاءه صاحب نميمة، وحامل أسباب قطيعة، لابساً ثياب الناصح، ومرتدياً دثار الصداقة، باسماً والسم الناقع في نابه، ومتظاهراً بالقرب، ومرماه إبعاد قلبين، أبى القاضي إلا التحامهما، والقصة هكذا:
«قيل لبعض قضاة البصرة:
إن فلاناً يعضهك (يبهتك).
فقال: لكني أجعل صداقته ستراً لقلبي عن قبول سيئته.
فبلغ المأمون، فقال:
هذا والله عين الضن بالصداقة»(13).
* * *
الهوامش:
البيان والتبيين: 2/339.
البصائر: 4/241.
البصائر: 3/135.
البصائر: 2/171.
البصائر: 5/204.
البصائر: 6/31.
البصائر: 5/172.
ربيع الأبرار: 1/447.
ربيع الأبرار: 1/441.
ربيع الأبرار: 1/449.
ربيع الأبرار: 1/476.
ربيع الأبرار: 1/361.
ربيع الأبرار: 1/438.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1433 هـ = ديسمبر 2011م ، يناير 2012م ، العدد : 1-2 ، السنة : 36