الفكر الإسلامي
بقلم : أ. د. محمد إبراهيم الجيوشى
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، أوجبه الله سبحانه وتعالى على المستطيع من عباده، في قوله جل شأنه: ﴿وَلِله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ آل عمران: آية 97، وهو عبادة العمر، وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين، وإنما كان بهذه المكانة لأن الله سبحانه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع آية الإتمام والرضى والإكمال في قوله عز من قائل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا﴾ المائدة: آية3.
وهذه المكانة قد غرسها الله في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإنك تجد المسلم مهما تباعدت به الديار، ونأى به المزار يتحرق شوقًا إلى زيارة البيت الحرام، وتظل أطياف هذه الزيارة تداعب خياله، ويملأ الحنين إلى البيت قلبه حتى يأذن الله له بتحقيق هذه الأمنية التي يعتبرها كل مسلم تتويجاً لرحلة العمر، وبابا للفوز برضوان الله، وهذا تشوق الذي يختلج في قلب كل مسلم إلى بيت الله الحرام، إنما هو تحقيق لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حينما أسكن ابنه إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر في رحاب البيت وتركهما، ثم اتجه إلى ربه يناجيه ويتضرع إليه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْـمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلٰوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ إبراهيم: آية 37، وهذا الحنين إلى البيت الذي تفيض به قلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض إنما هو استجابة لهذه الدعوات التي فاض بها قلب أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهذه الأرزاق التي تملأ جوانب الأرض المقدسة قادمة من كل صوب وحدب من جنبات الأرض المعمورة إنما كانت ببركة هذه الدعوات أيضا.
فلعل في ذلك الحنين الذي يغمر القلوب، والأرزاق التي تأتى لتلك البقعة المطهرة، لعل فيها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والذي يعمل فكره، ويرى ما حبًّا الله به هذه الأرض المقدسة من كل خيرات الدنيا يدرك على وجه اليقين صدق قول الله في كتابه بأن ثمرات الأرض ستجنى إلى تلك البقعة المطهرة، وكأن ذلك في مجال الرد على أهل مكة حينما تعللوا بأنهم يخشون من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم أن تطمع فيهم القبائل، وتعدو عليهم، فأبرز الله نعمته عليهم وقرر هذه الحقيقة التي نرى آثارها واضحة بينة للعيان، في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا﴾ القصص: آية 57.
والمسلم في هذه الأرض المقدسة يرى ثمرات الشرق والغرب تصب فيها، فالحمد لله على نعمائه، ونسأله دوامها، والمزيد منها، وأن يلهمنا شكرها ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ النمل: آية 40.
فضل الحج وعظيم أجره:
وفضل الحج عظيم، وحسبنا لندرك عظمة هذا الركن أن نعلم أن ثوابه الجنة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قيل وما بره؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام»(1). وأجدر بعمل يكون جزاؤه الجنة أن تسارع النفوس إلى الحصول عليه وإلى بذل الجهد في تحقيقه.
والحق أن المسلم حينما يترك بلاده وأهله وماله وأولاده، ويسعى إلى أداء هذه الفريضة مستهينا بمشاق السفر وتحمل فراق الأهل والأولاد مضحيا بالمال والرحة مبتغيا رضي الله إنما يفعل ذلك إدراكا منه لفضل هذه العبادة التي اجتمع فيها كل ما في ألوان العبادات الأخرى من الأعمال والأفعال، فهنيئا لمن وفقهم الله لحج بيته الحرام، ورجاء لمن لم يتحقق له ذلك هذا العام أن ييسر الله له السبيل إلى الحظوة بهذا الشرف والحصول على هذه النعمة التي يفيضها الله على من حج بيته الحرام.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: «إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور» متفق عليه.
وقد تحقق هذا الفضل لعبادة الحج، لأن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، وأخبر في كتابه أن الاستجابة لهذا الأذان ستكون عامة: وشاملة يلبيها المسلمون من أقاصي البلاد كما يلبونها من أدانيها، فالله سبحانه يقول: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرِ يَأْتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوْا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ للهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الحج: الآيتان 27، 28.
فهؤلاء الحجيج الذين جاءوا من كل حدب وصوب يرفعون أصواتهم بالتلبية قائلين: لبيك أللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك.. بهذه التلبية يعلنون عن استجابتهم لأمر الله لما أمر نبيه إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج، فمعنى لبيك استجابة لك بعد استجابة.
آداب الحج:
الحج فرصة للمسلم كي يتدرب على عفة اللسان، والبعد عن الجارح من الكلام، المسيء للمشاعر والأحاسيس، ذلك النهج من الحديث الذي يدعو الإسلام المسلم أن يترفع عنه، فالحج فرصة للتدريب العملي على صيانة اللسان، والتحلي بمكارم الأخلاق، وأخذ النفس بالسلوك السوي حتى يعتاد المسلم ذلك في كل أمور حياته، حينئذ يهيئه الحج لأن يكون نموذجاً فذا للإنسانية الراقية السلوك، المهذبة الأخلاق، الطيبة الحديث الهادية إلى الصراط القويم ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ الحج: آية 24، فيعف عن القبيح، ويقبل على الحسن الخيّر من الأقوال والأفعال، والتصرفات، وحسب المؤمن فوزًا وفلاحاً أن يخرج من هذه التجربة، وقد تطهر لسانه من دنس القول، وتعودت نفسه على السمو والرقى، وتطهر قلبه من شواغل السوء، ودواعي الأذى حتى تصير تلك سمة لكل أفرادالمجتمع المسلم، وقد أشار الله سبحانه في كتابه الكريم إلى أن الفوز بهذه القيم والمعاني العليا إنما هو خيرزاد يتزود به المسلم في دنياه وأخراه، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ البقرة: آية 197.
ويحدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الذي يوفقه الله لأداء تلك الفريضة، ثم يسلم من الوقوع في الفسوق والرفث والجدال يكون ذلك بمثابة ميلاد جديد له، فعيود وقد تطهر من كل سوء كأنه وليد جديد، يقول – صلوات الله وسلامه عليه – : «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه.
نسأل الله أن يطهرنا من الخطايا، وأن ينقينا من الآثام، وأن يجعل حجنا مقبولا، وذنبنا مغفورًا، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.
أهيمة المحافظة على هذه الآداب:
الحاج الذي فارق الأهل والبلاد وترك الأعمال، واكتساب الأموال، والاستزادة من الربح في سبيل الحصول على ربح أكبر واسمى، وهو رضوان الله وغفران الذنوب، لابد أن يأخذ في أعتباره أن ذلك لا يتحقق إلا إذا كان شديد الحرص على التحلى بهذه الآداب التي ذكرتها الآية الكريمة والحديث الشريف إلى جانب الحرص على طيب النفقة والخروج من المظالم، والتوبة النصوح، فالمال الحلال يكون عونا لصاحبه على جلب ما يقربه إلى الله، ويجيبه إذا دعاه ويغفر له إذا استغفره تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: «ياسعد أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة».
نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويزكى نفوسنا ويجعل عبادتنا خالصة لوجهه ﴿فَاْعبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيْنَ * أَلاَ لِله الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ الزمر: الآيتان 2، 3.
* * *
الهوامش :
- رواه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة والبيهقي والحاكم مختصرا وقال صحيح الإسناد، راجع الترغيب والترهيب ج2، ص165.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35