كلمــة المحرر

       عندما جلا الاستعمارُ الأجنبيُّ – الإنجليزيُّ البريطانيُّ أو الفرنسيُّ أو الإيطاليُّ أو البرتغاليُّ – عن البلاد الإسلاميّة والعربيّة، لم يَجْلُ إلاّ مُخَلِّفًا مكانَه استعمارًا بديلاً عميلاً محليًّا – أو قل إذا شئتَ: داخليًّا – عَمِلَ على إعداده وتخريجه بدقّة وإحكام حتى يُكْمِل المِشْوَار، ويُنْجِز من المشروع ما بَدَأَه ولم يتمكّن من إنهائه.

       وكان الاستعمارُ المحليُّ الداخليُّ وفيًّا صادق الولاء لسيِّده الاستعمار الأجنبيِّ الذي صَنَعَه على عينه، ورَبَطَ مَصَالِحَه بمصالحه؛ فتداخلت وتَفَاعَلت. وربّما صَنَعَ الاستعمار المحليُّ «الوطنيُّ» مع الشعب والبلاد من الأفاعيل مالم يصنعه معهما لسبب أو آخر الاستعمارُ الأجنبيُّ.

       الاستعمارُ الأجنبيُّ لم يُتِحْ لشعوبنا خيارًا في تقرير مصيرها؛ حيث زَرَعَ حدودًا مُصْطَنَعَةً وقوانين وضعيّة بدلاً من الشريعة الإسلامية، ورَسَّخَ في بلادنا مناهج حياة غربيّة بدلاً من التقاليد العربية والأعراف الإسلامية والثقافة التي عرفها بنوجلدتنا أبًا عن جدّ. وزرع في بلادنا العناصر العلمانيّة المتنكرة للدين والعقيدة والموروثات الثقافية والحضاريّة، التي تقود قطاعات الثقافة والإعلام، وزَرَعَ القيادات المصنوعة على عينه، حتى تسوس بلادَنا كما يريد ويهوى وكما يكون قد خطّط، ليحلّ محلّه الاحتلال المحليّ الداخليّ الوطنيّ، الذي نهب الثروات، ونشر الفساد الماليّ والإداري والاقتصاديّ، وحَوَّلَ الجيشَ والشرطة وأجهزة الأمن إلى أداة طَيِّعَة بيده، كتمت أنفاسَ الشعوب، وأذاقتها ويلات ربما لم تعرفها على عهد الاستعمار الأجنبيّ، و رَوَّعها عن طريق السجون والمعتقلات والمحاكمات، وفرض الضرائب الباهظة، ونشر الجهل والأميّة، وعمل على ترسيخ حالة التخلف الاقتصاديّ.

       الاستعمارُ الداخليُّ أو الاحتلالُ المحليُّ الوطنيُّ كان نظيرَ الاحتلال أو الاستعمار الأجنبيِّ أو أشدَّ منه في «الخصائص الاستعمارية»Colonial characteristics  : في استزاف الخيرات ونهب الثروات، ونشر الأميّة والتخلف والمرض والفساد المالي والإداريّ، وتغليف الأمر بقناع سياسيّ للتمويه، لإيهام الشعب بأنه يعيش في ظلّ نظام كفيل للتحضر والتقدم، بينما يكون سعيُه مُتَّصِلاً لنشر الجهل والأميّة والتخلف وإخفاء الحقائق المُرَّة والتزوير والقبضة الأمنيّة الحديديّة، للإبقاء على الوضع، وإذلال الشعب، وامتهان حقوقه، وترويعه الدائم، وتركيعه المُتَّصِل، والمُرَاهَنَة على الجبن والخنوع الحاصل فيهم عن طريق أساليب الإذلال الوحشية.

       وبما أن الاستعمار يكونُ متَحَكِّمًا في وسائل البلاد كلِّها، وبيده الحلُّ والعقدُ، والسيطرة الكاملة على الأجهزة الإداريّة والجهات الأمنيّة ومراكز القوة والصلاحيّات، بما فيها الجيشُ والشرطةُ وثرواتُ البلاد، فهو يستخدمها بأسرها في ترسيخ قبضته، ويُوَظِّفها لاستنزاف الشعب ماديًّا ومعنويًّا، ولا يتحرج من إعمال أيّ نوع من الظلم والوحشيّة والتعذيب والتخريب والتدمير حتى من بيع البلاد والمساومة على الشعب، ورهنه بيد الأجنبيّ المعادي له في كل من العقيدة والدين، والتراب والطين.

       والاستعمار الداخليّ الحالُّ محلَّ الاستعمار الأجنبيّ يُرَبِّي كلاًّ من الجيش والشرطة ورجالات الإدارة والجهات الحكوميّة كلّها على العلمانيّة والتنكّر للدين وعلى المنهج الغربي للحياة والإعجاب بالغرب في كل من حضارته وثقافته، ومجونه واستهتاره، وفجوره وخلعه لعِذَاره، وعدائه للإنسان وإنسانيته، وحبّه للبهائم و وقاحتها وبهيميّتها، ومحاربته للقيم والمثل الإنسانيّة، وسخطه العارم على الإسلام وعلى كل ما يمتّ إليه بصلة قريبة أو بعيدة، واتخاذه لمحاربة الإسلام شعارًا له ودثارًا.

       فإذا حَدَثَ أن ثار الشعبُ على قيادات الاستعمار الداخليّ بعد ما يكون قد ملَّ الليلَ البهيمَ وطال انتظارُه للصبح، واضْطُرَّتْ – القيادات – للتخلّي الظاهر عن الحكم والسلطة، فإن الجيش والشرطة يعملان بمُقْتَضَيات الولاء لها، ويُعَذِّبَان الشعبَ تعذيبًا تقشعرّ له الجلود، وربّما يحلاّن محلَّ القيادات في الإبقاء على وتيرة الحكم الذي حكمته القيادات، ويسيران مسيرتَها في الأخذ بالعلمانية، والإبقاء على أساليب الظلم والقمعيّة، والحيلولة دون سيادة العدل والمساواة، وتنفيذ الديموقراطيّة، وإحلال الشريعة الإسلاميّة، وتطبيق الشرعيّة العامّة في كل من الحكم والإدارة، وإقامة الشفّافيّة في الأجهزة الحكوميّة كلّها، وإجراء الانتخابات النزيهة في البلاد. ويعملان على الأقلّ على تأجيل البرامج كلِّها التي من أجلها يكون الشعبُ قد نَاضَلَ وكَافَحَ طويلاً، وبَذَلَ دماءَه سخيّة، وضحّى بعدد كبير من أبنائه وأفلاذ أكباده؛ ليستفيدا من عنصر الوقت والإطالة المُمِلَّة في العودة إلى العهد القديم: عهد الظلم والبطش، والفمعيّة والوحشيّة، والفساد والتزوير، والضرب بالحديد والكرباج، لو وَجَدَا إلى ذلك سبيلاً.

       هذا ما يحدث الآن في كلّ من تونس ومصر اللتين قَدَّمَ الشعبُ فيهما كثيرًا من التضحيات التاريخيّة، حتى تخلت القيادتان الدكتاتوريتان فيهما عن السلطة تحت ضغوط كبيرة منقطعة النظير؛ حيث إن الجيش والشرطة يحاولان الإطالةَ، ويُعْمِلاَن التسويفَ والتأجيلَ، ولاسيّما في مصر العربيّة العزيزة التي بدأ الشباب الذي قاد الثورةَ ضدَّ الرئيس المخلوع «حسني مبارك» يملّ طريقة تعامل الجيش مع القضيّة، ويتخوّف أنه يودّ أن يُبْقِيَ على الوضع السابق بحيلة أو بأخرى، وبشكل أو بآخر. وقد أفادت الأنباءُ الأخيرة أنّه كان هناك صدام مؤخرًا بين الشباب وبين إدارة الجيش، وأنّ الجيش استخدم القوة أكثر من اللازم، وأنه سقط من الشباب جرحى وقتلى، واعتقلت الإدارة العسكرية عددًا منهم؛ وأن هناك قلقًا شعبيًّا عامًّا يسود البلادَ، وأنّ الوضعَ تأزّم مُجَدَّدًا، لحد أنّه يكاد يتفجّر ينحو لا تُحْمَد عقباه. والأملُ كبير في القيادة السعوديّة الرشيدة التي أدّت دورًا محوريًّا في تدعيم الاقتصاد المصريّ المتأزم من الثورة، أن تؤدي دورًا محوريًّا آخر في التفاهم مع الإدارة العسكرية المصريّة الانتقاليّة، وفي إرضائها لأن تستجيب لمطالب الشعب عاجلاً، قبل أن يستفحل الأمرُ، ويشتدّ الخطبُ، ويصطاد الأعداء – وعلى رأسها الصهيونية المُدَعِّمَة للصليبيّة – في الماء العكر، وهم فعلاً يحاولون دائمًا «تعكير الماء» والصيد فيه، الأمر الذي ليس خافيًا على أحد.

[التحرير]

(تحريرًا في الساعة 11من صباح يوم الأحد : 30/رجب1432هـ = 3/يوليو 2011م)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس – سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35

Related Posts