الفـكر الإســــــــلامي
بقلم : عبد الله سليمان الحصين
* في أدبيات الشعوب شكّل العيد مناسبةً لتعميق العفوية عند الطفولة التي اعتادت أن تنتظر العيد لتتقاسم اللهو والألعاب والحلوى والهدايا والملابس. وحتى الكبار قد يعبرون عن عفوياتهم في لحظات الاحتفال بالعيد.
* لكن العيد لم يكن في دنيا البشر فرحة للأطفال فحسب ولم يكن إجازات يستمتع بها الكبار والأطفال والفتيان فقط، وإن كان هذا هامشًا مهماً من إشراقات العيد.
* لكن يظل العيد في وعي المسلم أعمق من هذا. إنه مرحلة مواجهة بين الإنسان وبين أخطائه، بين وعيه وبين دونيته. بين إشراق وجدانه وظلام نفسه، بين انكفائه وبين انطلاقه وسمو نفسه وانتصاره على ضعفه.
* كأنما العيد مناسبة لتعميق المحبة الصادقة واللقاء الباسم ونسيان الأخطاء والخطايا. فالبشر خطاؤون، العيد مناسبة لتجاوز الإساءة والانتصار على العقد.
* والعيد يأتي بعد شهر كامل من لقاء العبد مع ربه في صيامه وقيامه وقراءاته وصدقاته ليُشكّل في نهاية المطاف يوم الجوائز.
* العيد كما جاء في الحديث القدسي هو يوم الجوائز. ملائكة الله تنتشر في الطرقات من أجل يوم الجوائز.
* والإنسان الذي يتحفّز أو يتطلّع إلى الجائزة مع إشراقة يوم العيد، لا بد أن يكون إنسانًا متساميًا مُترفعًا قادرًا على العطاء.
* كأنما فلسفة العيد في دنيا البشر تجربة للحب. ينشر الفرح. يجسد النشوة. فالمسلمون الذين دَعوا تجربة الصيام، تجربة الإيمان والأمان والإيثار ومواساة العاجزين والمحرومين والمرضى والبائسين، إنما خرجوا بنفوس يغمرها الأمل، تملأها الثقة، يُوسَع في آفاقها الفرح، يُوشَحها الرجاء في الله والأمل في جنبه.
* كأنما ترتفع إلى أجواء المعرفة بالله أملاً ورجاءً وحبًا واقترابًا من لحظات الفرح. فليس في الدنيا أجمل من كلمة حب تترجمها ابتسامة صافية ولقاء باسم أو قراءة هادئة في عيون يغمرها الفرح، فرح العيد وفرح اللقاء.
* ومن ثم جاء في الأثر الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري: (إذا التقى المسلمان فأحبهما إلى الله البادئ بالسلام).
* إذا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافات أو قعدت بهما الحزازات فأعظمهما أجرًا البادئ أخاه بالسلام والابتسامة.
* ولما كان العيد رمزًا للسلام مع النفس فهو رمز للسلام مع الآخرين، لأنه رمز للإيثار ومساحة لمراجعة النفس بكل أوحالها وأنانيتها.
* كأنما العيد فرصة لكل مسلم ليتطهّر من درن الخطاء، ليستعيد ألق وجدانه وصفاء نفسه وتطبيع علاقاته. فلا يبقى في قلبه إلا بياض الإلفة ونور الإيمان لتشرق الدنيا من حوله في لحظة انتشاء في كلمة حب، في اقتراب من إخوانه ومحبيه ومعارفه وأقاربه وجيرانه، لهذا كان العيد يوم الجوائز، وكان العيد يوم الفرحة.
* كان العيد في دنيا المسلمين – وسيظل – لحظة احتفال إيماني للاقتراب من منابع النور والحب والتسامح.
* ولن يكون العيد في دنيا الناس مناسبة للسهرات والحفلات والموسيقي أو السهر الطويل أو النوم العميق فحسب، وإنما هو مناسبة نقرأ فيها مواقفنا، نُراجع أعمالنا نرى فيها حسناتنا فنزيدها إحساناً ونرى سلبياتنا وسيئاتنا فنعمل على تحويل ظلامها إلى إشراقة العمل الصالح. العيد مناسبة للمراجعة الصادقة مع النفس نتأمل فيها حكمة الله وقضاءه، نتأمل قدرته وحكم آجاله. نتذكّر إخوة لنا، وأصدقاء أو أقرباء كانوا معنا في أعياد مضت، كانوا ملء السمع والبصر يتحاورون ويفكرون ويأملون اخترمتهم يد المنون، ندعو لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان ونتصدّق عنهم..
ترى هل فكرنا كيف نستثمر هذه المناسبة التي تتكرر مرتين في العام؟. ألا يمكن أن نُسجّل في مذكراتنا الخاصة ماذا فعلنا في العيد الماضي؟ ما هي السلبيات وما هي الإيجابيات؟ لماذا أخطأنا أو قصّرنا في حق صديقنا فلان أو تساهلنا في السؤال عنه فلم نتصل هاتفيًا؟ أحسب أن مثل ذلك يجعلنا قادرين على ترجمة مشاعرنا ومعرفة سلبياتنا في علاقتنا مع الآخرين.
وإذا كان العيد في حياة المسلمين مظهرًا إيمانيًا، فإنه مناسبة للاحتفال واللقاء والفرحة، وقد نجد اهتمام الشعوب الأخرى بأعيادها ومناسباتها وأعوامها وكيف تصرف الملايين للاحتفال والاهتمام لإثبات المناسبة في ذاكرة الأجيال، وما أكثر ما يجب أن نتذكّره في مناسبات الأعياد.
فهل نتذكّر في لحظات إشراقات العيد أولئك الذين يتألمون على أسرّة المرض في المنازل والمستشفيات أو مراكز العناية؟ نخصهم بالسؤال، بالزيارة والدعاء والمشاركة الوجدانية، تعميقًا للإخاء والمحبة واستثمارًا للمناسبة وكل عام وأنتم بخير، كل عام وأنتم أقرب إلى حقائق العيد في دنيا التسامح والمودة والإخاء.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35