العالم الإسلامي
بقلم: ن. ع. الأميني
اتفاقُ المصالحة الفلسطينية الذي كان قد تمّ التوقيع عليه في القاهرة تحت الرعاية المصرية وعلى ضغط من الشارع الفلسطيني الذي كان قد ملّ الخلاف الطويل القائم بين «حماس» و«فتح» والذي كان قد استبشر به الشعب الفلسطيني ورآه أملاً بعد يأس طويل وبعد ويلات ذاقها من حالة الخلاف والتباعد بين حركتي «فتح» و«حماس»والآثار السلبيّة التاتجة عنه. وانهيارُ نظام «مبارك» الذي كان يُدَعِّم السلطة الفلسطينية بأسباب الثبات والقوة، وجمودُ عمليّة النسوية الجارية بين السلطة الفلسطينية وبين الحكومة الصهيونيّة كانا من أقوى العوامل الدافعة إلى المصالحة.
وكان الشعب الفلسطينيّ عَلَّقَ على اتفاق المصالحة الآمالَ الكبيرةَ وكان يراها بصيص نور ساطع في نفق الظلام الطويل، سيضيء الطريق إلى التغلّب على المشكلات والأزمات الشديدة التي يتعرض لها من أجل الصراع القائم بين «فتح» و«حماس»الذي يسدّ الطريق إلى مقاومة العدوّ بأسلوب مثمر قويّ.
بعد اتفاق المصالحة، اتفقت الأطراف الفلسطينية في الاجتماع الليلي الذي تَمَّ بين «محمود عباس» وبين «خالد مشعل» على ثلاث قضايا محوريّة، وهي: إطلاق المُعْتَقَلِين، وتشكيل الحكومة المُوَحَّدَة، وبدء اجتماعات القيادة الفلسطينية الموحدة؛ ولكنها ظلّت عالقة على عكس ما كان يُتَوَقَّع؛ لأن «محمود عباس» منذ البداية لم يكن مرتاحاً إلى هذه المصالحة من أجل علمانيته المتجذرة، ومن أجل كونه لا يخدم المصالح الفلسطينية عن صدق النية الذي يخدم به المصالح الصهيونية الصليبية، وظلت شخصيتُه مشبوهة منذ اليوم الأوّل، وظلت المصادر العليمة تتحدث عنه بما لا يُرْضِي المسلمين في العالم.
فالمُعْتَقَلُون لم يخرج أحد منهم من السجون؛ لأن السلطة الفلسطينية التي يرأسها «محمود عباس» لم تصحّ نيتها بشأن إطلاق المعتقلين؛ حيث إن الحوارات التي دارت على هامش الاجتماعات في القاهرة أكدت أن السلطة ليست لديها إرادة جديّة لإطلاق سراح المعتقلين من «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى؛ لأنها ظلّت خلال الحوارات متشبثة بذرائع واهبة، من بينها: أن هناك تهمًا بـ«الإرهاب» لبعض المعتقلين، وأن الاحتلال الصهيوني ربّما يقتل ويغتال من يتمّ إطلاقهم، فالأحسن بقاؤهم في السجون.
ورغم أن أطرافاً كثيرة فلسطينية وغير فلسطينية طلبت من رئيس السلطة «محمود عباس» أن يتخذ ما يُؤَكِّد جديته نحو تنفيذ المصالحة على أرض الواقع، من التحرك الإيجابي لبدء الاجتماعات بين الأطراف الفلسطينية؛ لأن ذلك يعطي ضمانات بنجاح المصالحة، ويوجد الثقة والارتياح لدى الفلسطينيين ولاسيّما الذين هم يعيشون مشردين في الخارج، ويبعث الأمل لانتقال الفلسطينيين نحو مرحلة جديدة.. رغم ذلك لم يحصل شيء يشف عن جدّيّة «محمود عباس» وسلطته بشأن تنفيذ محتويات المصالحة على أرض الواقع.
ولذلك لم يتخذ «محمود عباس» أيّ خطوة نحو تشكيل حكومة فلسطينية موحدة؛ حيث إن اتفاق المصالحة كان قد نصّ على تشكيل الحكومة الموحدة بالتوافق وبشخصيات مستقلة غير مختلف فيها، وخلال شهر فقط؛ ولكن السلطة صنعت ما يسدّ الطريق دون تشكيل هذه الحكومة؛ حيث طرحت أسماء مختلفا فيها لن ترتاح إليها «حماس» والأطراف الفلسطينية الأخرى، مثل «سلام فياض» رئيس الوزراء في حكومة السلطة، الذي ظل شخصيته غير مرغوب فيها لدى «حماس» وجميع فصائل المقاومة الفلسطينية؛ لأنه معروف بعلمانيته وخدمته للمصالح الصهيونية وتطبيقه – مثل «محمود عباس» – لإملاءات أمريكا بشأن القضايا الفلسطينية. و«محمود عباس» يصرّ دائمًا منذ اليوم الأوّل أن الحكومة الموحدة إنما هي حكومته هو، وأنه لاحاجة به إلى أخذ الثقة من المجلس التشريعي الموحد، على حين إنّه لم يطرح، خلال اللقاءات التحضيريّة المنعقدة في القاهرة، اسم «سلام فيّاض» كرئيس للحكومة الموحدة، وإنما طرح اسمي فلسطينيين آخرين، هما «محمد أبو شهلا» من «غزة» و«محمد مصطفى» من «الضفة».
ولرفع النزاع والخلاف القائم المستمر بين «حماس» و «فتح» كان قد تمّ الاتفاق على عقد اجتماع في القاهرة يوم 20 من يونيو الماضي 2011م بين «محمود عباس» و«خالد مشعل» حتى يتم فيه أيضًا حسم قضية الترشيح لرئيس الحكومة الموحدة، والاتفاق على اسم رجل مرضيّ لدى الطرفين إلى جانب حسم قضايا أخرى عالقة لحد اليوم؛ لكن محمود عباس لم يحضر الاجتماعَ، واعتذر عن الحضور قائلاً: إنّ لديه ارتباطات أخرى مسبقة، الأمر الذي يعني مُؤَكَّدًا أنّه لايريد العملَ بالمصالحة.
لاشك أن «محمود عباس» رئيس السلطة الفلسطينية إنما كان قد رضي بتوقيع اتفاق المصالحة بين «فتح» وبين «حماس» لأسباب اضطرته إلى ذلك، وإلاّ فإنه بعلمانيته المتناهية التي تُزَيِّن له خدمة المصالح الصهيونية الصليبية لم يكن ليرضى بالمصالحة مع «حماس»الإسلاميّة المؤمنة والعاملة بمقاومة الصهاينة وعدم التورط في فخّ مفاوضات السلام مع إسرائيل، التي ترغاها وتدعو إليها وتوجد وسائلها أمريكا الصليبية. ومن الأسباب المضطرة لـ«محمود عباس» إلى التوقيع على اتفاق المصالحة الفلسطينية كان رغبة الشعب الفلسطيني بجميع أطرافه وفصائله رغبة شديدة جامحة تغلبت على جميع المصالح، ومنها جمود عملية المفاوضات وتعثر إمكانية بدئها في الظروف الراهنة، ومنها سقوط حكومة «حسني مبارك» في مصر، التي كانت المناصرة القوية للسلطة الفلسطينية، وكان مبارك خادمًا وفيًّا كمثل «محمود عباس» للمصالح الإسرائيلية الأمريكية.
ولكن «محمود عباس» لم يكن راضيًا بالمصالحة والتوقيع على اتفاقها عن رغبة داخلية وطواعية قلبية، ثم حدث بعد الاتفاق وحوار القاهرة ما أرغمه على التراجع السافر عن تطبيق نصوص المصالحة والعمل بها. وهو أن «عباس» تعرض – كما يؤكد محللون صحفيون غربيون – لضغط قوى من الإدارة الأمريكية الأوباميّة لنقض الاتفاق؛ لأنَّ كلاًّ من الرئيس الأمريكي الحاليّ «أوباما» و وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلنتون» رفض المصالحة مع «حماس» بشدة، وأعرب عن استيائه الشديده نحوها أكثر من مرة، وقالت المصادر العليمة إن جهات أمريكية تستعد لعرض مشروع قانون على «الكونجرس» لوقف تمويل أي حكومة فلسطينية تشارك فيها «حماس» أو في تحديد وزرائها.
كما تلقى «محمود عباس» تعليمات واضحة من المبعوثَيْنِ الأمريكيين، «ديفيد هيل» و«دينيس روس» بتعطيل المصالحة مع «حماس» وباستئناف المفاوضات مع إسرائيل.
كما مارس الكيان الصهيوني ضغوطاً كبيرة على «محمود عباس» لإنهاء هذه المصالحة؛ حيث صَرَّح «نتنياهو» في خطابه في «الكونجرس» الأمريكي بأن على «عباس» أن يمزق اتفاق المصالحة. مضيفًا: إن ذلك شرط ضروري للعودة إلى المفاوضات.
ومن جانبها امتنعت الحكومة الصهيونية عن دفع الأموال العائدة من الضرائب لحكومة «فياض» لإغراقها في الأزمة المتمثلة في عدم التمكن من دفع المرتبات، مهددةً بسحب بطاقات التنقل للشخصيات الفلسطينية.
كما أن شخصيات فتحاوية كانت لديها من ذي قبل قناعات قوية برفض اتفاق المصالحة، لأنها ترى أن «حماس» تعيش حالاً أزمة سياسيّة كبيرة، والمصالحةُ تخدمها وتنقذها من الأزمة، فالأحسن إغراقها في الأزمة لا إنقاذها منها.
كما أن التوجّه الدولي غير الإسلامي أي الغربي الصهيوني الصليبي المعادي للمصالح الإسلامية الفلسطينية العربية يركز تركيزًا كبيرًا على استئناف المفاوضات بين الحكومة الصهيونية والسلطة الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات تفويتًا على الفلسطينيين فرصةَ تنفيذ نصوص ومحتويات المصالحة التي يراها القوى العالميّة ولاسيّما الغربية سمًا مميتاً لها ولمصالحها ولمصالح إسرائيل.
على كل، إن سقوط اتفاق المصالحة سيؤدي من جديد إلى تصعيد بين «حماس» و «فتح»، ولن يجني منه الشعب الفلسطيني إلاّ الخسران وخيبة الأمل، ولن يستفيد منه إلاّ إسرائيل وأمريكا والقوى الصهيونية الصليبية العالميّة.
إن المصالحة كانت قد تمت بعد جهود متصلة مخلصة بذلها أطراف فلسطينية على اختلاف وجهات نظرها، وعلى رغبة قوية من الشعب الفلسطيني كله؛ ولكن مخاوف انهيار المصالحة كانت قائمة منذ اليوم الأوّل، لأن المصالحة تعني موت الدولة الصهيونية على غير ميعاد، كما أنها تضر ضررًا بالغاً بالمصالح الغربيّة الأمريكية الصهيونية؛ لأن الغرب إنما زرع إسرائيل في قلب فلسطين لتحقيق مصالح كثيرة بعيدة المدى، وهي لا تتحقق إلاّ ببقاء إسرائيل قوية متماسكة وبسقوط الفلسطينين سقوطاً مروعاً لايتحقق إلاّ بالتصارع الداخلي والتمزق الأهلي والتناحر بين الفلسطينين.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35