دراسات إسلاميــــــــــة
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن البجاوي
لقد نكتب الأمة الإسلامية في مطلع هذا القرن بفئة من الباحثين الذين يمموا وجههم شطر أوروبا، فارتشفوا سمومها، وخلبهم بريقها الزائف وحضارتها المادية، ثم عادوا إلى أمهم، فصوبوا نحوها سهامهم، محاولين النيل من صرح العقيدة الشامخ، تارة باسم التجديد لا التقليد، وأخرى باسم المدنية والحرية، حتى تكسرت نصالهم، وذاقوا وبال أمرهم، مصداقًا لقوله تعالى: (فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِيْ الأَرْضِ) (الرعد، آية/17)
ومن أعلام الأدب الذين نذروا أنفسهم لدحض شبهات المفترين، وتفنيد دعاوي المغرضين والمخدوعين بآراء المبشرين والمستشرقين – جاحظ القرن العشرين، ومؤيد الدين، وحارس لغة القرآن، وإمام البيان (مصطفى صادق الرافعي)
لقد وُلِد عام 1880م في بهتيم وحفظ القرآن الكريم في صغره، والتحق بالمدرسة الابتدائية حيث نال شهادتها سنة 1897 وتنقل بين طنطا ودمنهور والمنصورة من مدن مصر، حتى استقر به المقام في طنطا، حيث عمل كاتبًا بالمحكمة، وأصيب بحمى التيفوئيد التي أذهبت سمعه، وعكف على قراءة أمهات الكتب، والرجوع إلى مصادر العربية في عصورها الزاهرة، وصار يكتب للصحف والمجلات، حتى أضحى ملء السمع والبصر، وقدم للمكتبة العربية ما يزيد على خمسة عشر كتابًا، منها إعجاز القرآن، وتاريخ آداب العرب، وتحت راية القرآن، ووحي القلم، والمساكين، وديوان الرافعي. ومن القضايا التي عالجها بصدق وموضوعية ورؤية هادفة، قضايا شغلت – ولا تزال – أذهان شبابنا، كقضية المرأة وحجابها، وما يتصل بها من تعدد الزوجات والزواج بأجنبيات، وقضية العربية والدفاع عن القرآن والسنة المطهرة، والإشادة بالإسلام وحضارته وإصلاح الأزهر والجامعة، وتربية الشباب تربيةً إسلامية، وبيان مساويء المدنية الغربية والأمريكية التي تقتحم أبصارنا وأسماعنا عبر وسائل الإعلام الموجهة وغيرها، وسنحاول إلقاء الضوء على بعض هذه القضايا في أدبه تبصرة لشبابنا وإنصافاً لهذا النابغة الذي حورب طوال حياته حتى وفاته في العاشر من مايو سنة 1937م.
أولاً: الحجاب الإسلامي للمرأة
لاريب أن قضية المرأة الإسلامية وحجابها الذي يراد به منع الغواية والتبرج، وحفظ الحرمات وآداب العفة والحياء، قد شغلت أذهان بعض الباحثين في القرن الحالي، وأخرج في هذا المجال (قاسم أمين) كتابيه تحرير المرأة 1899، والمرأة الجديدة 1900 فلاقت دعواه صدى في أوساط دعاة التغريب أمثال (أحمد لطفي السيد 1872-1963) ومنصور فهمي الذي قدم بالفرنسية رسالة للسوربون عنوانها «حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها» تحت إشراف (ليفي بريل) وطبعت سنة 1913 وفيها يتجنى على الإسلام والمرأة وتعدد الزوجات، وجاء بعدهما سلامة موسى (توفي 1958) فدعا إلى تمزيق الحجاب وإباحة الزواج العرفي، وقد تصدى الرافعي لهذه الدعوى الهدامة طبواً للمرأة المسلمة كذلك الطب الذي أساسه الرائحة الزكية في البخور» وهو يعني طب المشعوذين والدجالين، كما سمى الرافعي كتاب قاسم – تجرير المرأة – بالجيم – لا تحريرها – بالحاء، وأكد أن الحجاب ليس إلا «الرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه وروحه الدينية، وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة؛ ولكن تربيها في الحجاب تربية لؤلؤية».
وقد أعجب الرافعي بكاتبة إنجليزية خالطت المتحجبات المسلمات ودرست معاني الحجاب فلما رجعت إلى بنات جنسها كتبت «إذا كانت الحرية التي كسبناها… ستزيل من القلوب كل ما يحرك أوتار الحب الزوجي فما الذي نكون قد ربحناه؟!» وقررت هذه الكاتبة أنه لابد من الحجاب الشرقي ليتعلمن من جديد فن الحياة الحقيقية.
وقد دعا سلامة موسى إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث مما جعل الرافعي يكتب عن المرأة والميراث مبينًا «أن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته، بل هو مرتب على نظام الزواج فيها وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العمليتين معًا، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية أخرى تقابلها»؛ ولأن الحكمة السامية من هذا الميراث أن المرأة لا تدع نصف حقها لأخيها يفضلها به؛ وإنما تتركه لامرأة أخرى هي زوج أخيها، فتكون قد أعانت أخاها وأسدت للأمة عملاً أسمى بتيسير زواج امرأة من النساء، فهل عقل هذا الحاقدون على الإسلام وشريعته الغراء؟!
كما أوضح الرافعي أن دعوى حرية المرأة دعوى لفظية يثرثر بها الملحدون وتجار العقائد، وهي في مضمونها دعوى إلى شرود المرأة وانسلاخها من الدين وفضائله وكبريائها الزائفة على الأنوثة والذكورة. وقد نتج عن إطلاق لفظة «الحرية للمتعلمة» إطلاق حرية الزواج والجري وراء العواطف والغريزة؛ مما أدى إلى فساد حالها، وهو ما يعاني منه عصرنا ويربأ عنه الذوق الفطري ويبرأ منه الله ورسوله.
وهل ننسى ما جره مصطفى أتاتورك (1881: 1938) بدعوة السفور في تركيا واقتفاء أثر الغرب، وما كان من تذويب شخصية المرأة المسلمة وتنكبها حصن الإسلام الحصين؟! لقد سَجَّلَ الرافعيُّ داعيةُ الإسلام خواطرَه هذه شعرًا؛ حيث كتب قصيدة عنوانها (التبرج) يخاطب فيها المرأة المسلمة قائلاً:
أَمَا تَخْشَيْنَ أَنَّكِ فِي طَــرِيْقٍ
يَرِفُّ بِهِ الحَرَامُ عَلَىٰ حَلاَلِكِ؟
وَأَنَّ ذِئَابَ هٰذَا الْحُسْنِ تَمْشِي
مُسَعَّرَةَ اللِّحَاظِ عَلَىٰ غَزَالِكِ؟
وَحَالُكِ لِلأُبُــوَّةِ كُلُّ عَـارٍ
وَعَارٌ لِلْبُنُــوَّةِ كُلُّ حَـالِكِ
بَرَزْتِ لِقَتْلِ ذٰلِكَ أَمْ لِهَذَا؟
فَمَا هٰذَا وذٰلِكَ مِنْ رِجَالِكِ!!
ثانيًا: دفاعه عن لغة القرآن
لقد ساهم الرافعي مساهمة جليلة في الدفاع عن الفصحى ومحاربة الدعاوي التي نادت بالعامية، أو إيجاد لغة وسط بينها وبين الفصحى، أو نبذ الإعراب من أواخر الكلمات، أو استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية كما وجدنا عند أعداء لغة القرآن بداية من (ويليام ولكوكس) ولطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى ولويس عوض في مصر، واسكندر معلوف في سوريا ومارون عبود وسعيد عقل في لبنان ونهاية بأتاتورك في تركيا.
وقد رد على أحدهم قائلاً: «إننا لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية؟ وكيف يرضى لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبل لغات العرب جميعها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية؟» وضرب المثل على ركاكة العامية بما شاهده – ولا زال موجودًا في صحفنا ومجلاتنا وقاعات الدروس والمحاضرات وفي الأجهزة المرئية والمسموعة – مؤكدًا أن «العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدًا فلا تهرم ولاتموت؛ لأنها الفلك الدائر لكتاب الله وسنة رسوله». كما ربط بين الاعتداء على العربية والدين الإسلامي، وجعل غاية الهجوم عليهما واحدة فقال: «لن تجد ذا دخلة – نية – خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة» وهذا ارتباط عضوي يظهر لنا من تتبع أهداف هؤلاء الذين عبر عنهم حافظ إبراهيم قائلاً:
سَرَتْ لَوْثَةُ (الإِفْرَنْجِ) فِيْهِمْ كَمَا سَرَىٰ
لُعَابُ الأَفَـاعِـي فِي مَسِيـلِ فُـــرَاتِ
وأفاض الرافعي في مجابهة خصوم الفصحى الذين حاولوا أن يثنوه عن (الجملة القرآنية) شارحاً الأسباب التي أدت إلى ضعفها كالمستعمر الذي يهدم الأمة في لغتها وآدابها، أو النشأة على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية، أو الجهل بفصاحة العربية لغة القرآن الذي أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، وأكد أن القرآن والسنة النبوية المطهرة «يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر» وأن دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة مصداقًا لقول رسولنا (صلى الله عليه وسلم ): «ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل» وهو إشارة إلى انتشار الإسلام بعد ظلام آفاق الإنسان الروحية وسقوطه في حمأة المفاتن المادية، التي تطمس معانيه وكما يشيب النهار ويأتي الليل فلابد أن يبزغ فجر الإسلام الوضاء.
ثالثًا : الإشادة بالإسلام ودحض شبهات أعدائه
لا مراء في أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، قد شرع لأمتنا النهج القويم والموصل إلى سعادة المؤمن في الدنيا والظفر برضاء الله في الآخرة، وقد صمد هذا الدين لكافة النوائب التي أثارها المتعصبون في الشرق والغرب ضده؛ لأن عماد فلسفته المثالية تقوم على «أن النفس هي أساس العالم، والنظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة – دون عسر – وفيما يسهل بعض السهولة ولايبلغ الكسل والإهمال وأكبر غرض للإسلام هو أن يجعل خشية الله تعالى قانون وجود الإنسان على الأرض كما أنه «وضع طابع الجنة على أعمال الجنة وطابع النار على أعمالها وحاط كل فرد حياطة رياضية بما يكلف من أعمال جسمه وحواسه» وقد قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ض، آية/18) وقال (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ اَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت، آية/46)
ومن هذا الفهم لفلسفة إسلام نجد الرافعي قد تحدث عن الصيام الذي نحذف فيه تاريخ البطن شهرًا ليحل محله تاريخ النفس، وسمي الصيام (مدرسة الثلاثين يومًا)، كما سخر من دعاة الاشتراكية الذين يريدون المساواة بين الناس في المأكل والمشرب والملبس؛ ولكن قوانينهم القاصرة فشلت؛ لأنها كالطلاء الذي يخفي دخائل نفوسهم، أما الصوم فهو في نظر الرافعي «فقور إجباري تفرضه الشريعة على الناس ليتساوى الجميع في بواطنهم سواء من ملك المليون ومن ملك الدرهم» وهو قانون إلهي يؤدي إلى الاطمئنان النفسي والمساواة الحقة كما أنه تربية للإرادة التي لاتبلغ أعلى منزلتها إلا «حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكره مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها».
وعن معجزة الإسراء نجده يحلل قوله تعالى: (لنريه مِنْ آيَاتِنَا) (الإسراء، آية/1) فيوضح أن تحويل فعل الرؤية إلى (لنريه) بدلاً من (ليرى) إشارة إلى تحويل الرائي (صلى الله عليه وسلم ) من شكل إلى شكل فيرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه عليه الصلاة والسلام ويعلق على هذا النسق القرآني بقوله: «هذه معجزة أخرى يسجد لها العقل فتبارك الله منزل هذا الكلام» ويتعجب من حال الأمة الإسلامية التي خرق رسولها ناموس الكون وأعجز العقل البشري فيقول متحسرًا متعجبًا:
كيف يستوطيء المسلمون العجز وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟!
كيف يركنون إلى الجهل وأول أمرهم آخر غايات العلم؟!
كيف لا يحملون النور للعالم ونبيهم هو الكائن النوراني الأعظم؟!
وقد دحض شبهات الملحدين والمارقين عن تعدد الزوجات، وقولهم: إن الرسول إنما استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة، ورد على هؤلاء الذين لايتهمون أنفسهم بتعدد المرأة خليلة ليس لها حق على أحد وكأنها كالسكير تتقاذفه الشوارع من جدار إلى جدار مقررًا أن هذا التعدد «إعلان لشرعية الرجولة والأنوثة ودينية الحياة الزوجية.. وليس كما يقع في أوروبا وأمريكا من أن الزوج يتعدد عند المرأة» وناقش تعدد زوجات الرسول في مقال (درس من النبوة) مقررًا أن قصة تخيير الرسول لنسائه في سورة الأحزاب آية 28، 29 هي خير دليل يرد على زعم شهوة النساء «إذ ليست هذه لغة الشهوة .. وليس فيها معنى من حرارة القلب ولا حرف من لغة الدم» فهل عقل المتعصبون هذا المغزى من هذه القصة؟
وكم حمل على السياسة التي تحارب المساجد بالمراقص، والعقائد بحرية الفكر، ومحاربة الزوجات بالمومسات، داعيًا شبابنا إلى محاربة اللهو في قوله: «لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدرًا بالوطن في كل معانيه! ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلة حربية تصنع من الشباب رجال القوة! ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل عملية لامتلاء النفس بمعاني التقديس!».
وهكذا كان الرافعي في سيرته ومنهجه معتمدًا على فلسفة القرآن والسنة داعيًا إلى تحرير النفس الإنسانية من رق العبودية مُبَدِّدًا أوهامَ المضللين. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35