إشــراقة

أبو أسامة نور

       قد يحدث أن الكاتب إذا تَعَمَّدَ أنه سيكتب الجيد الرائع، لايتمكن من إجادة الكتابة؛ ولكنه يكتب بشكل عفوي ودونما تعمّد وإعداد فكري، صادرًا عن الحريّة الفكريّة واللاحاجز النفسيّ، ما يَسْحَرُ القارئَ ويُعْجِب البارعَ في فن الكتابة والإنشاء والترسّل، والبصير بأساليب الكتابة والتحرير، ويدعو مُؤَرِّخِي اللغة والأدب إلى تسجيله وتخليده في صفحات التأريخ.

       قد مضى من الأدباء والعلماء والمُؤَلِّفِين والكُتَّاب، مَن تعمدوا الإجادة، فلم يُجيدوا، ولكنّهم هم أجادوا الكتابة للغاية عندما لم يتعمدوا ويُحَضِّروا تحضيريًّا نفسيًّا طويلاً. إذَا أردتَ أنك تكتب ما يَدَعُ القراءَ يُدْهَشُون له، ويُؤْخَذُون بسحره، ويظلّون يُشِيدون به ماداموا أحياء، فقد يُؤَدِّي بك ذلك إلى التعقيد اللفظيّ والمعنويّ كليهما أو أحدهما؛ وإذا كتبتَ دونما تعمد وتحضير كبير للذهن؛ فقد تأتي بالعَجَب العُجَاب، والآية الساحرة، والقطعة الخالدة في الأدب واللغة، التي لايسع أيَّ ناقد ومُؤَرِّخ للغة والأدب أن لايذكرها ويتحدث عن محاسنها التي خَلَّدَتْها وجَعَلَتْها حيّة طازجة على مرّ الأزمان.

       في هذه الزاوية (إشراقة) في الأغلب يحدث مع كاتبها أنه يمسك بالقلم بيمينه، ويبدأ الكتابة، فتنثال عليه المعاني والأفكار والعبارات والألفاظ والصياغات معًا دون كبير عناء، كأن هناك يدًا غيبيّة تساعده وتقف بجانبه وتهيء له ما يريد؛ لكي يسير في كتابة ما يريد كتابته. قد يحتاج أن ينهي كتابة الزاوية في أكثر من جلسة؛ ولكن اليد الغبيبة لاتضنّ بالمساعدة التي عهد بها؛ حيث إن العبارات بأفكارها، والصياغات بمضامينها، والكلمات بشتى اشتقاقاتها، تظلّ مستعدة لتقديم خدماتها عن رضا كامل وطَوَاعِيَّة بالغة.

       أما الزوايا الأخرى (الأبحاث والمقالات والافتتاحيّات) التي يكتبها للمجلة فيحتاج فيها إلى التفكير والتروّي، والاستعداد المسبق، وجمع الأرقام والإحصائيّات، والنظر في المصادر والمراجع والإحالات؛ فلا يُتَاح له أن يتصرّف فيها بعفويّة وانطلاق فكريّ وسعة نفسيّة يتصرّف بها في زاوية «إشراقة» فلا تُطَاوِعه فيها العفويّةُ التي تكون رهنَ إشارته في «إشراقة»؛ لأنّ طبيعةَ الكتابات الصادرة عن أيّ من الدراسة تقف حاجزًا دونَ العفويّة وسيلان الطبع والاندفاع النفسيّ.

       على كل، فالإرادة المقصودة لإجادة الكتابة لاتنفع الكاتب بشيء؛ بل ربما تفسدها عليه من حيث يودّ الإجادة. وقد سبق أنّ العلماء قالوا: إن الزَّمَخْشَرِيّ (محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري جار الله أبو القاسم من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والنحو والبيان معتزلي العقيدة 467-538= 1075-1144م) أجاد في تفسيره «الكشاف عن حقائق التنزيل» ولم تُطَاوِعه الإجادةُ المماثلةُ في المقدمة التي صَنَعَها له؛ لأنه في صفحات التفسير ترك قلمه ليسيل حيث يشاء، حسب علمه ودراسته التفسيرية، وتجاربه الكتابيّة، ومقدرته العربيّة، وخبرته الفكريّة، ومعتقداته المذهبية، وامتلاكه لمؤهلات الصياغة والتعبير. أما في المقدمة التي وَضَعَها بعد كتابته للتفسير، فتعمد أن يكتب مايروع ويُعْجِب القراء، فَصَدَرَ فيها عن نوع من التصنّع الذي سلبها جمالَ العفويّة، وسحرَ السلاسة الفريدة التي تُمَيِّز الزمخشريَّ عن غيره من الأعلام في كتاباته كلّها.

       الكتابةُ عن تعمّد لا تَتَأَتَّى سلسلةً جميلةً رائعةً، تسحر القارئ وتستوقفه وتجعله يلذّ لطافتَها الجماليّة وروعتَه الصياغيّة، ولا يَرْضَىٰ أن يَبْرَحَها؛ من هنا تأتي الكتابات المبنيّة على الدراسة والبحث والإحالات مُعَقَّدَة غير سلسلة، فلا يقرؤها إلاّ الحريصون على المعارف والمعلومات، ويزهد فيها المتذوّقون للغة والأدب واللمسات الجماليّة في الكتابات.

       العفويّةُ تُضْفِي على كلّ كتابة سحرًا عجيبًا، تجعل القارئ يتوقّف لديها طويلاً يتلمّس نَسْجَها، ويشاهد حَبْكها، ويلاحظ كل جزء من صياغتها في دقة وإمعان، كما يلاحظ المُعْجَبُ بالرسم والتصوير لوحةً فريدةً صَنَعَها رَسَّامٌ بارع يشار إليه بالبنان على الصعيد العالميّ. والتصنعُ والتعمّد يصبغ أيّ كتابة بنوع من القباحة يجعل القارئ يكرهها ويزهد فيها؛ فلو اضطر أن يقرأها لحاجـة ملحة قرأها على غصص منه.

       والكتابات ذات الصبغة الدراسيّة في الأغلب تكون صادرة عن التعمّد؛ لأن بناءها على الإحالات على المصادر والمراجع يجعلها خارجة عن نطاق التلقائيّة، فيسلبها في الأغلب السلاسةَ التي هي من أهم العوامل التي تدعو القارئ لقراءة كتابة، ثم مواصلة القراءة في تذوّق والتذاذ بل في رغبة وتشوّق بالغين؛ فقلما يُوَفّق الكاتب لإضفاء روح السلاسة على كتاباته إذا صدر فيها عن التحقيق ودراسة المصادر والمراجع، الأمر الذي هو من أهم عوامل التعقيد في الكتابة، فلو تجاوز كاتبٌ المساوئَ التي تؤدي إليها الدراسة والبحث بطبيعتهما في الكتابة، لكان بارعًا حقًّا من الكُتَّاب، من ثم عُدَّ العلاّمة شبلي النعماني (الشيخ العلامة محمد شبلي النعماني شمس العلماء أحد أركان اللغة الأردية في عصره ومن أئمة الكتابة والتحقيق والنقد والترسّل والنثر الفني باللغة الأردية إلى إتقانه للشعر 1274-1332هـ = 1857-1914م) في اللغة الأرديّة كاتبًا لا يُشَقُّ غبارُه؛ حيث إن كتاباته الدراسيّة هي الأخرى تكون سلسلة عذبة رائعة مثل كتاباته الإنشائيّة الأدبيّة التي لايصدر فيها عن الدراسة والإحالات، ومن ثم كان الجاحظ (عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي أبو عثمان الشهير بالجاحظ كبير أئمة الأدب والكتابة والترسّل ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة 163-255هـ = 780-869م) أكبر كاتب في العربية منذ عصره لعصرنا هذا؛ لأنّه وُفِّق للمزاوجة بين العلم الغزير والأدب الرفيع، والمعلومات الثرّة واللغة العذبة الجاذبة الساحرة؛ فلا تفارقه الروعةُ والعذوبةُ والسلاسةُ مهما كان الموضوع الذي يتعرض له في كتاباته؛ حيث يبدو أن اللغة العربية ذات الأسلوب البارع هي رهن إشارته وطوع أمره يُوَظِّفها لأغراضه الكثيرة المتنوعة كيفما يشاء.

       ولكنّه في الأغلب نجد أن الكاتب المُتَعَرِّض لموضوع سهل خفيف اجتماعي أخلاقي أدبي فكري سياسي اقتصاديّ إذا صدر عن نسج خياله تتأتى كتابتُه سلسلةً عذبةً جاريةً في قناة الطبيعة كالأنهار الجارية في السهول، وإذا بنى كتابتَه على البحث والدراسة وجمع المعلومات تنطوي على تعقيد قليل أو كثير حسب براعته وفقدانها في الكتابة وحسب كثرة وقلة الرجوع إلى المراجع والمصادر.

*  *  *

       الجمالُ الساحر في الكتابة مرجعُه إلى العفويّة، ومطاوعةِ طبع الكاتب للكتابة، والتوفيق الطبيعي الخاصّ الذي مصدرُه الصفاءُ والهدوءُ وأوقات الإلهام التي تتأتى في الخلوات، ولكنها تتأتى أصلاً بتوفيق الله عزّ وجل ونصره إذا شَاءَ، وتأييده إذا قَدَّرَ.

       كثيرًا ما يتوفّر للكاتب جميعُ ما يحتاج إليه من الوسائل للكتابة في موضوع ما، من القلم المطلوب، والورق الجيد، و وقت الهدوء، والمُنْعِشَات من الأطعمة والأشربة، وما يحتاج إليه من المراجع والمصادر، والمواعيد المحددة التي ينطلق فيها طبعُه وتواتيه فيها قريحتُه؛ ولكنه رغم ذلك كلّه تنسدّ لديه أبوابُ الكتابة، كأنّ حاجزًا سميكاً حال دونه ودون سيره نحو الكتابة ولو بخطوة واحدة قد تتبعها خطوات، ثم تتجمّع دواعي السير؛ فيضطرّ أن لايكتب حرفًا، ويُرْجِئ الكتابةَ لوقت آخر قابل يطاوعه فيه الطبعُ ويواتيه الفكرُ.

       ومثلُ هذا الموقف من المواقف التي تُؤَكِّد أن الإنسان ضعيفٌ لدى القدرة الإلهيّة؛ فهو قد لايكاد يصنع شيئًا رغم جميع الوسائل التي يراها تُكْسِبه النجاحَ لا مَحالةَ؛ فإذا به يجد نفسَه ضعيفًا تافهًا لا تُسْعِفه الوسائل بشيء رغم محاولته للقيام بما هو مُتَصَدٍّ للقيام به.

       لا ندري بماذا يُعَلِّل ذلك المتنكرون لسلطان الله في السماوات والأرض وقدرته المُطْلَقة في الكون، ولا ندري على ماذا يحمل ذلك الملحدون والمستندون إلى الدهر في كل شيء؛ ولكن المؤمن بالله يتجدّد إيمانُه حينما يرى أنه لم يقدر على تحقيق ما كان هو بسبيل تحقيقه، رغم كل الوسائل الظاهرة التي وَاتَتْه في الوقت الذي كان يودّ تحقيقه فيه، وبالقدر الذي كان يريدها – الوسائل – به حتى لا يقف شيءٌ حاجزًا دون تحقيقه؛ ولكن هناك شيئًا غير مرئيّ يجده قد حال حيلولةً كاملة دون تحقيق ما كان يريد أن يحقّقه، فيؤمن من جديد أن الله هو الذي سَلَبَ مفعولَ الوسائل، وجعلها لاتنفع في تحقيق المطلب؛ لأن هذه الوسائل كغيره من كل ما يوجد في السماوات والأرض جنودُ الله تعالى تفعل ما يأمرها به تعالى؛ فهي تُعَاوِن على تحقيق المطلب الذي كانت وسائلَ لتحقيقه بإذن الله ولا تُعَاوِن على تحقيقه إذا أراد الله؛ فإرادتُه تعالى هي العاملة، وإرادة غيره لا تعمل إلاّ إذا أراد الله.

       من ثم قد يُجيد الكاتبُ الكتابةَ إذا أراد أن يُجيد؛ لأن إرادةَ الله تُحَالِف إرادتَه، وقد لا يُجيد الكتابةَ رغمَ إرادته القوية للإجادة؛ لأن إرادة الله تكون ما حَالَفَتْ إرادتَه.

       إنّ الأحمقَ من الكُتَّاب – كالأحمقين في كل مجال من مجالات الحياة – هو الذي يحسب أن الوسائل المواتية هي التي تضمن له إجادةَ الكتابة، وأنّها إذا توفّرت له قَدَرَ على إتقانها على المستوى المطلوب، في كل وقت ولدى كل حاجة وفي كلّ موضوع. أمّا العاقل الذي يؤمن بالله ورسوله، يعتقد جازمًا أنّ الوسائل ليست كلَّ شيء، وإنما هي المعينة على تحقيق المطلب بمشيئة الله تعالى، وأنها ليست الفاعلة، وإنما الفاعل هو الله وحده.

       الأحمق من الكُتَّاب إذا أجاد الكتابةَ يعتقد أنّ الإجادةَ إنما ترجع إلى قدرته الكتابيّة، وتمكنّه من مؤهلات التعبير والصياغة، وقدرات التفكير والتأمّل، وإتقان اللغة والأسلوب، والمعرفة بمناهج البيان والبلاغة. والعاقل المؤمن بالله يعلم جازمًا أن هذه الوسائل الظاهرة إنما تنفع إذا أراد الله تعالى، وتعود جامدة هامدة إذا خانها التوفيقُ الإلهيُّ .

       كتاباتُ النوع الأوّل من الكُتَّاب تأتي مُظْلِمَةً تضفي ظِلاَله الظَّلاَميّةَ على كل قارئ يشقى بقراءتها، ويتورط في وَحْلِها النجس، وكتاباتُ النوع الثاني من الكُتَّاب تأتي مغسولةً بنور الإيمان وجمال اليقين، فتشحن قلبَ كلّ قارئ يسعد بقراءتها بحلاوة التوحيد وعذوبة إفراد الله بالعبادة والعبودية، وبالقوة المعنوية العجيبة، واللذة الإيمانيّة الخارقة، التي تنير طريقه حتى في الليالي الحالكة من فتن الحياة التي تأتي دائمًا كقطع الليل المظلم .

( تحريرًا في الساعة 8:30 من الليلة المتخللة بين الجمعة والسبت : 30/صفر وغرة ربيع الأول 1432هـ  الموافق 4 و 5/ فبراير 2011م) .

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس – أبريل 2011م ، العدد : 4 – 5 ، السنة : 35

Related Posts