حول التفسير العلمي للقرآن الكريم «الجواهر»: للجوهري

دراسات إسلامية

بقلم :    أ. د. محمد بلاسي (*)

       كثير منا لا يعرف إلا النذر القليل عن الفيلسوف الحكيم، العلامة المجدد الشيخ «طنطاوي جوهري»؛ على الرغم من أنه يُعَدُّ أول عربي رشح لجائزة نوبل عام 1940م؛ حيث عدوه من رواد المصلحين الداعين إلى السلام العالمي، ولكن القدر كان أسبع؛ فوقف كل شيء في هذا الصدر؛ نظراً لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا لعبقري يكون على قيد الحياة!

       ولد الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري بمصر عام 1862م بإحدى قرى مديرية الشرقية وتلقّى تعليمه في الأزهر الشريف. وفي عام 1889م انتقل إلى مدرسة «دار العلوم» وظل يدرس بها حتى تخرج فيها عام 1893م. وهناك درس مبادئ المواد الحديثة التي لم تكن مقررةً في الدراسات الأزهرية : كالحساب والهندسة والجبر والفلك وعلم النبات والطبيعة والكيمياء… إلخ.

       عُيِّنَ العلامة الشيخ «طنطاوي جوهري» سنة 1911م مدرساً للتفسير والحديث بمدرسة دار العلوم، واختير – أيضاً – ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية القديمة حين إنشائها؛ ليلقي بها محاضرات على طلابها في الفلسفة الإسلامية. وفي ذلك الحين طلب للقضاء ولم يقبل!

       وفي عام 1922م تخلى الشيخ «طنطاوي» عن التدريس لبلوغه السن القانونية للمعاش، ومنذ ذلك الوقت انقطع للتأليف، وأخذ يواصل الكتابة بأسلوبه الحلو الرزين الرصين، ويرسل في أبحاثه بنظراته الفاحصة العميقة، ويفيض من علمه المتمكن الغزير؛ فصنف الكتب الكثيرة التي تربو على الثلاثين، توجهاً بتفسير «الجواهر»: التفسير العلمي للقرآن الكريم(1).

       لم يكن الشيخ «طنطاوي» عالماً كسائر العلماء، بل كان ممتازاً في كل النواحي؛ فهو عالم دين إسلامي وطني، وهو عالم اجتماعي عالمي، جمع بين الثقافتين الدينية والحديثة، ومزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية..

       جاهد حق الجهاد بعلمه وبرأيه في رفعة شأن الإسلام، والانتصار لمبادئه مظهراً أنه دين العقل والتجديد لا دين التسليم والتقليد، يرمي في كل أحاديه وتآليفه إلى التوفيق بين العلم وما جاء به القرآن، وإلى أن العلم إذا حسن فهمه كان أداةً صالحةً لتفهم روح الدين..

       كان من أخلص المخلصين لقضية البلاد واستقلالها من فجر النهضة إلى وقت وفاته، فهو أحد قادة النهضة السياسية والدينية، ومن رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية(2)..

       ولقد قرظته الجمعية الآسيوية الفرنسية في مجلتها عام 1908م؛ حيث ذكرت – فيما ذكرت- : «إن الشيخ طنطاوي جوهري رجل فيلسوف حكيم بقدر ما هو عالم بالدين. وبهاتين الصفتين فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملاءمة للطباع البشرية، وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبيعية أيما موافقة، بخلاف فريق من العلماء الغابرين الذين وقفوا على القشور، وجمدوا على الألفاظ جموداً معيباً أدى إلى انحطاط المدارك الإسلامية في العصور المتأخرة؛ فانحطت بذلك الأمم الإسلامية عموماً وعشاق البحث من المخيم عليها في جميع الأقطار وسائر الممالك على اختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم حتى إنه لا يخص مذهباً دون مذهب ولا مملكةً دون مملكة، بل إنه فوق ذلك يخاطب كل عاقل يريد الحياة والاطلاع على الحقائق من أي دين وأي نحلة ببلاد الشرق؛ لأن بحثه عام في الكائنات، ونداءه عام حتى يلحق الشرق الأدنى بالأمم الغربية في المعارف والعلوم المدنية والحضارة..»أ.هـ.

       وورد في «صحيفة دار العلوم»: أن التركستانيين لما استقلوا استقلالاً تاماً وأقاوموا جمهوريةً إسلاميةً وأنشأوا المدارس والجامعات – اتفقوا على أن يسموها باسم الشيخ طنطاوي جوهري؛ فسموها «جامعة طنطاوية» و «مدارس جوهرية»، وألف زعماؤهم وعلماؤهم كتباً في لغتهم للتدريس في هذه الجامعات والمدارس باسم المترجم مثل كتاب «القصائد الجوهرية»؛ لأنه في عقيدتهم حجة الشرق وفيلسوف الإسلام(3).

«الجواهر» أول تفسير علمي للقرآن الكريم :

       وفي هذا التفسير طبق الشيخ طنطاوي جوهري القرآن على النظريات الحديثة، أو استخراج النظريات العلمية من نصوص كتاب الله؛ فجاء مزيجاً من علوم الأمم قديمها وحديثها. مع التوفيق بين الآراء الحديثة والأفكار الدينية.

       وكان هذا التفسير المتفرد آخر مؤلفات الشيخ طنطاوي، فكان ختام المسك، وقام بتدوينه – بدون توقف – من عام 1922م حتى عام 1935م في 25 مجلداً كبيراً، ثم كتب المجلد السادس والعشرين لاستدراك ما فاته في التفسير(4).

       ولقد كان تفسير الشيخ طنطاوي «الجواهر» – تفسيراً عجيباً حقاً، تنقل فيه بين فنون من العلوم والمعارف، يعجب القارئ لإلمامها بها على تفاوت ما بينها. وكان عملاً رائعاً لم يظفر التاريخ الإسلامي – منذ قرون خلت – بمثله. وأما المنهج الذي انتهجه في هذا التفسير فلن يصل إليه إلا الأفذاذ من أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة(5).

       ولعل هذا كله؛ ما دفع الكاتب الصحفي المعروف، الأستاذ «رجاء النقاش» أن يقول: «وتفسير الشيخ طنطاوي جوهري للقرآن الكريم أعجب تفسير قرآني عرفه العقل العربي على الإطلاق؛ فالتفسير كله ينادي بأن القرآن يطلب من الإنسان أن يتوسع في شتى أنواع المعرفة وأن ينظر في كل العلوم نظرةً عميقةً؛ ولذلك استعان الشيخ طنطاوي في تفسيره للقرآن بصفحات كاملة من صور التشريح والحيوانات والنباتات والخرائط؛ كل ذلك ليثبت أن القرآن يدعم الروح العلمية ويؤكدها، ويدعو إليها دعوةً عميقةً وصريحةً»(6).

       هذا؛ وقد قالت عن هذا التفسير البديع مجلة الجمعية الآسيوية الفرنسية : «إن الشيخ طنطاوي رجل فيلسوف حكيم بمقدار ما هو عالم بالدين. وبهاتين الصفتين قد فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملاءمة للطباع البشرية وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبعية. وقد ترجم تفسير الجواهر إلى اللغة الأوردية. وفيه من الصور الشمسية ما يزيد على ألف صورة يتبين بها القارئ عجائب الحيوان والشموس والأقمار والنجوم وصور النبات والحيوان وعجائب العين مصورة، والدماغ وعجائبه. وفي تفسير قوله تعالى : ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾(7) نرى صورة المخ موضحة، وكم في الكتاب من معجزات أظهرها العلم الحديث في هذا التفسير!»(8).

       وكان لهذا التفسير العظيم في الشرق الأقصى وفي «إيران» بوجه خاص – سمعة طيبة وشهرة واسعة النطاق؛ حتى لقد أخبر علماء «إيران» أن الكتاب يدرسه العلماء لجميع الطلاب وهو دائرة معارف عامة. وقال العلامة «أبو عبد الله الزنجاوي»: إن طلاب العلوم الحديثة في مدارس «إيران» يقرؤون هذا التفسير وبه وحدة زالت عنهم الشكوك والوساوس في الدين، كما أن علماء الوعظ يخطبون به على المنابر هناك.

       وانتشر هذا التفسير انتشاراً عاماً في «السودان» و«شمالي إفريقيا» وبلاد «جاوة». وأقبل أهل «الهند» على هذا التفسير إقبالاً عظيماً(9).

الباعث على تأليف «الجواهر»:

       يشرح هذا الشيخ طنطاوي جوهري في استهلال تفسيره؛ إذ يقول: إني خلقت مغرماً بالعجائب الكونية، معجباً بالبدائع الطبيعية، مشوقاً إلى ما في السماء من جمال، وما في الأرض من بهاء وكمال، آيات بينات، وغرائب باهرات… ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية، وتعاليمها الدينية؛ ألفيت أكثر العقلاء، وبعض أجلة العلماء، عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم، وما أودع فيها من الغرائب؛ فأخذت أؤلف كتباً لذلك شتى، كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب. ومزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنيع.. وتقبلها أجلة العلماء قبولاً حسناً، وترجم منها الكثير، لكن كل ذلك لم يشف مني الغليل، ولم يقم على غنائه من دليل؛ فتوجهت إلى ذي العزة والجلال، أن يوفقني أن أفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم في خلاله، وأتفيأ في بساتين الوحي وظلاله، ولكم طلبت منه ـ جل جلاله ـ بالدعوات في الخلوات، وابتهلت إليه وهو المجيب، فاستجاب الدعاء…

       مؤملاً بما وقر في النفس، أن يشرح به قلوباً، ويهدي به أمماً، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين؛ فيفهموا العلوم الكونية، وإني لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليقرأن في مشارق الأرض ومغاربها مقروناً بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية، والبدائع الأرضية: الشبان الموحدون، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا، وليكونن هذا الكتاب داعياً حثيثاً إلى درس العوالم العلوية والسفلية، وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة، في الزراعة، والطب، والمعادن، والحساب، والهندسة، والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات؟! كيف لا، وفي القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، فأما علم الفقه فلا تزيد آياته الصريحة عن مائة وخمسين آية!

       ولقد وضعت في هذا التفسير: ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق: مما يشوق المسلمين والمسلمات، إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات: في الحيوان والنبات والأرض والسموات. ولتعلمن أيها الفطن: أن هذا التفسير نفحة ربانية، وإشارة قدسية، وبشارة رمزية، أمرت به بطريق الإلهام، وأيقنت أن له شأناً سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقي المستضعفين في الأرض(10).

       ويضيف الشيخ «طنطاوي جوهري» في مقال له مبرراً اتجاهه في النظر إلى القرآن: «إن قراءة التشريح والطبيعة والكيمياء وسائر العلوم العصرية ودراسة الحيوان والنبات والإنسان أجل عبادة ولولا قصور علماء القرون الماضية ما ضاع المسلمون وما أحاطت بهم عاديات الدهر، ولا أصابتهم كوارث الحدثان!»(11).

       ويعلق الأستاذ «رجاء» النقاش، قائلاً: «وهكذا يرى الشيخ «طنطاوي جوهري» أن الإسلام يدعو إلى العلم ويؤكد الروح العلمية، وأن القرون الماضية قد أدت إلى تدهور المسلمين بسبب قصور علمائهم وما أصابهم من تأخر فكري كبير. ويقدم لنا الشيخ «طنطاوي» تفسيره للقرآن – على أساس منهج محدد، فآيات القرآن تدفعنا إلى التفكير والتأمل، وهو في تفسيره للقرآن – ويفكر ويتأمل بوحي من هذه الآيات، وهو لا يقول أبداً بأن النظريات العلمية جاءت في القرآن الكريم، ولكنه يقول: إن اكتشاف قوانين الطبيعة وأسرار الكون أمران بحث عليهما القرآن، ويدعو إليهما دعوةً صريحةً قويةً، وهو يقف أمام آيات القرآن ويربط بينهما وبين عجائب الكون التي اكتشفها العلم الحديث دون أن يقول أبداً: إن هذه الاكتشافات بنصها في القرآن».

       ويضيف الأستاذ النقاش في مقاله : «إن الحافز الأساسي للشيخ «طنطاوي جوهري» في هذا التفسير هو إزالة أي وهم بأن هناك تناقضاً بين العلم والقرآن، أو أن القرآن يمكن أن يبرر للمسلمين تخلفهم العلمي أو قصورهم عن اللحاق بأحدث النظريات العلمية والمساهمة في الكشف والاختراع والعمل على الإضافة إلى ما وصلت إليه البشرية في هذا المجال. وتفسير الشيخ «طنطاوي» يفيض بالحماس للعلم الحديث، بل يجعل طلب العلوم العصرية واجباً دينياً أساساً في حياة المسلمين… ويرفع هذا الاهتمام إلى درجة يقول عنها: إن التأمل في العلوم العصرية والاهتمام بها هو أجل عبادة!

       … وهذه الروح الدينية العلمية المتحمسة المشتعلة إنما هي ولا شك روح أصيلة ونبيلة وعالية؛ وهي ما يحتاج إليه العقل العربي أشد الاحتياج!!»(12).

منهج الجوهري في تفسيره :

       لعل من أكثر من ركز على كونيات القرآن في العصر الحديث أستاذنا الشيخ «طنطاوي جوهري» في تفسيره «الجواهر»؛ فقد توسع في مجال التفسير العلمي، وقرر أن القرآن يحوي كل العلوم، وأنه يشير إلى جميع مسائلها؛ ولعله تأثر بأستاذه الإمام الغزالي الذي ألف كتابه «جواهر القرآن» وخصص منه باباً يبين فيه كيف تشعبت العلوم كلها من القرآن(13).

       فالتفسير قسمان – كما يقول الإمام الشيخ «محمد عبده»: «أحدهما: جاف مبعد عن الله وعن كتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيراً؛ وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرها. والآخر: هو التفسير الذي قلنا: إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية وهو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها، وهو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام؛ ليتحقق فيه معنى قوله ﴿هُدىً وَرَحْمَة﴾ ونحوهما من الأوصاف؛ فالمقصد الحقيقي وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن… وهذا هو الغرض الأول الذي أرمي إليه في قراءة التفسير»(14).

       ولم يخرج الشيخ «طنطاوي جوهري» عن هذا الغرض في تفسيره بل زاد عليه، وأكد هذا بقوله: «يا أمة الإسلام، آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها… هذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقية يا ليت شعري! لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله، الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ودراساتها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهي فرض عين على كل قادر… إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام؛ فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»(15).

       ولعل هذا ما دفع «الدكتورة بنت الشاطئ» إلى أن تقول: «وقدم الشيخ «طنطاوي جوهري» تفسيره (الجواهر) فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف»(16).

       ويعلق أحد الباحثين قائلاً: «وهكذا نجد أستاذنا الفيلسوف الإسلامي الشيخ «طنطاوي جوهري» يفسر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة، لم يكن للعرب عهد بها من قبل، فهو يقود المفسرين الذين يأتون من بعده إلى أفضل طرق التفسير، كما فاق من سبقه في ذلك، فأنت ترى الفلك والطب والهندسة والسياسة والاجتماع وكل علم ما في السماء والأرض، وكل ما انتهت إليه الثقافة في مختلف عصورها من أول عهود الثقافة إلى الآن، من عهد «أفلاطون» إلى عهد «كانط» – كل أولئك مذكور في هذا التفسير بأجلى بيان، موضح بأعظم توضيح، ولا غرو، فالأستاذ يفيض علماً ونوراً؛ لأنهما يصعدان عن علم عامل بما يقول، وعن عقيدة هي بقية من بقايا السلف الصالح المختار»(17).

       هذا؛ وقد سمى الشيخ طنطاوي تفسيره: «الجواهر في تفسير القرآن الكريم»؛ لأنه يجعل الجوهرة بدل الباب أو الفصل، والجوهرة يتفرع عنها الماسة الأولى والماسة الثانية وهكذا…

       وطريقته في تفسير القرآن: أن يبدأ بالتفسير اللفظي للآيات التي يعرض لها، ثم يتلوه بالشروح والإيضاح والكشف: أي أنه يشرع متوسعاً في الفنون العصرية المتنوعة(18).

       وإليك طرفاً من تفسيره للبسملة من سورة الفاتحة – كأنموذج-، فيقول: «نزلت هذه السورة لتعليم العباد: كيف يتبركون باسم الله – عز وجل – في سائر أحوالهم، وكيف يحمدونه ويستعينون به؟ فيبتدئ القارئ قائلاً: اقرأ متبركاً باسم الله الرحمن المنعم بجلائل النعم: كالسماوات والأرض والصحة والعقل الرحيم المنعم بدقائقها، كسواد العين، وتلاصق شعرات أهدابها المانعات من دخول الغبار المؤذى لها، مع أن النور يلمع من خلالها، وينقل صور المرئيات إلى حدقتها فشبكيتها، فالدماغ، فهذه الدقة في الصنع والحكمة في الوضع التي أباحت لضوء الشمس والكواكب مثلاً أن يلج ومنعت الغبار أن يدخل، يعبر عنها بلفظ الرحيم تتميماً للنعمة، وتكميلاً للهناء والسعادة.

       ولما كان أكثر الناس لا يلحظون العجائب الكامنة فيهم، ولا يعرف نفسه إلا قليل منهم، وهم أكابر الحكماء والأولياء؛ وجب أن أبين في هذا المقام – بعض رحمة الله – عز وجل – في العالم المشاهد..

       ومن هذه العجائب: ما شاهده العلماء الباحثون في أمر النحل والنمل والعنكبوت، (فأما النحل): فتعجب، كيف جعل الرحمن الرحيم له سبلاً مذللةً، فإنه متى فتح زهرة أول النهار ليمتص رحيقها المختوم ويرجع به إلى الخلية فيضعه فيها، يلهم أن لا يفتح زهرةً في ذلك اليوم، إلا ما كان من جنس تلك الزهرة لرحمة النحل ورحمة الناس، أما رحمة النحل، فإنه لا يعوزه أن يحتال في فتح زهرات أخرى من نوع آخر، فيطول عناؤه، وأما رحمة الناس: فإن ما يعلق برجلي النحلة من حبوب طلع الذكور من النبات، إذا وصل إلى زهرة أنثى علق بها من ذلك الطلع بعضه؛ فأثمر ذلك النبات لحصول الإلقاح بهذه الرحمة العجيبة.

       (وأما النمل): فمن عجائب الرحمة الخاصة به: أن الله خلق له حشرةً تسمى (افس) – باللسان الإفرنجي  – يحاربها النمل ويغلبها، ومتى غلبها أخذ يستولدها ويربيها ويسميها في ورق الورد ومتى أكلت وشبعت أقبل النمل عليها وامتص منها مادةً حلوةً. فكأنه بقر له يشرب لبنه!

       (وأما العنكبوت): فإنها ألهمت النسج البديع بهندسة فاقت هندسة الإنسان، وعلل ذلك العلماء بقولهم: إن هندسة إلهية، وهندسة الإنسان بتعليم البشر، فلذلك يغلط الإنسان، ولا يغلط العنكبوت في الهندسة. ولما كان بيت العنكبوت أضعف بيت؛ ألهمها الله أن تبحث عن صمغ وغراء من أماكنها وأشجارها وتلطخ بها خيوطها التي نسجتها فتكسبها لزوجة، فلذلك لا تمزقها الرياح إذا فاجأتها، ولا الأعاصير إذا ساورتها، وإذا مر بها الذباب التقطته بمادتها اللزجة!

       فانظر إلى آثار رحمة الله: كيف كانت المادة الصمغية صائنة بيت العنكبوت الضعيف من التمزيق إذا هبت الزعازع، واهتاجت الأعاصير مع أنها قد تقتلع الأشجار وتخرب المساكن، ثم تكون شبكة صائد وحيلة محتال، هذه هي الرحمة والحكمة.

       وهكذا ألهم الله الأنبياء وأوحى إليهم أن يعلموا العباد كيف يتبركون باسم الله في أول أعمالهم؟ كالقراءة والأكل ذاكرين ربّهم ورحمته الواسعة التي عمت سائر العوالم، فيمتلئ قلب العبد إيقاناً بالرحمة، واستبشاراً بالنعمة، وفرحاً برحمة الرحمن الرحيم.

       فإذا ابتدأ القارئ بالتسمية، وامتلأ قلبه بتلك اللحمة، فلا جرم ينطلق لسانه بالحمد، بعد أن أفعم قلبه بالإجلال؛ فيقول: الحمد لله…(19)

       هذا؛ ومن اللمح اللطيفة في تفسير «الجواهر» – وكله لطائف – ما ذكره الشيخ «طنطاوي جوهري» في استهلاله سورة آل عمران، عندما تناول تفسير الحروف المقطعة؛ حيث أفرد مبحثاً شائقاً بعنوان: (الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية للأمم الإسلامية في أوائل السور القرآنية)، قال فيه: «انظر رعاك الله، تأمل، يقول الله: أ ل م – أ ل ر – ط س – ح م.. وهكذا.

       يقول لنا: أيها الناس إن الحروف الهجائية إليها تحلل الكلمات اللغوية. فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية شرقيةً وغربيةً، فلا صرف ولا إملاء ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها؛ وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.

       ولا جرم أن العلوم قسمان: لغوية وغير لغوية، فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم؛ لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية المعنوية؛ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية، لا يعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحقيق العلوم»(20).

دعوة صادقة لأولي النهى :

       إن «قراءة هذا التفسير – ولا شك – تجربة فكرية ممتعة ورائعة، وكنت أتمنى أن يعاد نشر هذا التفسير اللامع ليكون بين أيدي القراء المعاصرين بصورة سهلة ميسرة؛ فهذا التفسير ولا شك يساعد المتدينين جميعاً على أن تكون لديهم حاسة علمية وشغف بالنظريات العلمية والكشوفات والمخترعات المختلفة، كما أن هذا التفسير يساعد أصحاب النظرة العلمية المجردة على أن تكون لديهم مشاعر دينية عميقة حتى من خلال دراساتهم العلمية المتخصصة، فهو تفسير يستخرج (الروح العلمية) من الدين، ويستخرج (الروح الدينية) من العلم!»(21).

       ومن العجيب أن كل من تصدى لتفسير القرآن تفسيراً علمياً في هذا الزمان لا يذكر الرائد الأول في هذا المجال وهو الشيخ طنطاوي جوهري، ولا تفسيره العظيم الذي نحن بصدده؛ لذا نرى من واجبنا أن نستحث الهيئات الإسلامية لعل واحدة منها – كمجمع البحوث الإسلامية أو غيره – تتبنى إعادة طبع هذا التفسير الجليل الذي فاق سواه بما جمع من شتى النواحي العلمية والكونية؛ لينتفع به المسلمون في جميع بقاع العالم(22).

       هذا؛ ومع تقديرنا لقيمة فكر الشيخ «طنطاوي جوهري» ودوره العظيم في تفسيره، إلا أننا نرى أنه يحتاج – قبل إعادة طبعه – إلى تحقيق، خاصةً فيما يتصل والجوانب العلمية فيه؛ حيث تضاعف العلم الحديث ونظرياته مرات ومرات منذ إعداد هذا التفسير في العشرينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، ولكن.. حسب الشيخ أنه ذكر في تفسيره كل ما وصل إليه هذا العلم حتى عهده!

       لذا نقترح أن يوكل الأمر قبل إعادة طبع هذا التفسير الرائع – إلى لجنة تتكون من كبار العلماء في شتى ألوان العلوم الكونية؛ بحيث يدلي كل منهم بدلوه في تخصصه، ولا شك أنهم بهذا سيضيفون إضافات جليلةً – لما ورد في هذا التفسير – مما وصل إليه العلم الحديث مؤخراً؛ وبذلك تكون الفائدة أعم وأشمل وأقرب لأبناء القرن الحادي والعشرين..

       رحم الله الإمام المجدد، المصلح الكبير، العلامة الشيخ «طنطاوي جوهري» – رحمةً واسعةً – بقدر ما قدم للإنسانية هذا التفسير العظيم، وأفادها من منبع علمه، وفيض معرفته، وأسكنه فسيح جناته مع الخالدين..

*  *  *

الهوامش :

(1)     الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : د. عبد العزيز جادو، ص 11 وما بعدها، ـ باختصار -، ط. دار المعارف، د.ت.

(2)     تقويم دار العلوم : لمحمد عبد الجواد، ص 194.

(3)     ينظر؛ الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : ص 41.

(4)     يراجع : المرجع السابق : ص 38.

(5)     ينظر؛ نفس المرجع : ص 56.

(6)     من مقال : «تفسير للقرآن بالخرائط والصور: للأستاذ رجاء النقاش، مقال منشور بمجلة: «المصور»، بتاريخ 3 من نوفمبر عام 1972م.

(7)     سورة الذاريات : آية 21.

(8)     الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : ص 38.

(9)     المرجع السابق : ص 38، 39.

(10)   الجواهر في تفسير القرآن الكريم ( المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات ) : للأستاذ الحكيم الشيخ طنطاوي جوهري، 1/ 2، 3 الطبعة الثانية ـ مصطفى البابي الحلبي بمصر، سنة 1350 هـ.

(11)   من مقال : «تفسير للقرآن بالخرائط والصور: للأستاذ رجاء النقاش، المنشور في مجلة : «المصور»، بتاريخ 3 من نوفمبر عام 1972م.

(12)   المرجع السابق؛ فراجعه تجد مزيداً من التفصيل.

(13)   الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : ص 55. وينظر؛ جواهر القرآن : للإمام الغزالي، ص 31، 34.

(14)   تفسير المنار: 1/ 22 ط. الهيئة المصرية العامة، سنة 1972م.

(15)   الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 3/ 19.

(16)   القرآن والتفسير العصري: للدكتورة بنت الشاطئ، ص 39 (سلسلة اقرأ رقم 335، نوفمبر 1970م) ط. دار المعارف.

(17)   الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : ص 59.

(18)   المرجع السابق: ص 56، 57. وينظر؛ اتجاهات التفسير في العصر الحديث : للدكتور عبد السلام المحتسب، ص 72، طبعة بيروت، سنة 1973م.

(19)   الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1/ 3- 5.

(20)   المصدر السابق : 2/ 11.

(21)   من مقال الأستاذ رجاء النقاش بعنوان : «تفسير للقرآن بالخرائط و الصور» : منشور بمجلة «المصور»، بتاريخ 3 من نوفمبر عام 1972م.

(22)   الشيخ طنطاوي جوهري.. دراسة ونصوص : ص 59.

*  *  *


(*)       3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق – جمهورية مصر العربية..

           جوال : 0123526898(002)

           فاكس  : 0552281805 (002)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1432 هـ = فبراير 2011 م ، العدد : 3 ، السنة : 35

Related Posts