دراسات إسلامية
بقلم : صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
يُعَدُّ المسجد قلب التجمعات البشرية في المجتمعات الإسلامية، سواء أكانت قريةً أم حيّاً أم مدينةً. ومنذ بزوغ نور الإسلام وبدأت مراحل تكوين المجتمع المسلم، فقد كان المسجد أول مؤسسه دينية تربوية اجتماعية يتبلور كيانها، فما إن حط المصطفي صلي الله عليه وسلم رحاله بطيبة الطيبة حتى أمر ببناء المسجد ليكون مشعلاً للنور و الهداية والصلاح فلم يقصر الإسلام رسالة المسجد علي أداء الصلوات الخمس فحسب، بل أراد رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يكون للمسجد دور إيجابي وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي ككل، فبجانب أداء الصلوات الخمس هو موطن تلاوة وتدبر ومعهد علم وتهذيب، ومجلس صلح وقضاء، وملتقي تعاون وتكامل ومكان رأي ومشورة.
فللمسجد في المجتمع المسلم عدة وظائف، أهمها الوظيفة الدينية، ثم الوظيفة التربوية، ثم الوظيفة الاجتماعية. وقد كان المسجد يؤدي كل تلك الوظائف في ألوية الجهاد، والجانب القضائي حيث يتمّ فيه الفصل بين المتخاصمين.
والمسجد: لغةً كل موضوع يُتَعَبَّدُ فيه والمسجد الحرام هو الكعبة والمسجد الأقصى هو بيت المقدس بدليل قوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى﴾(الإسراء آية:1)(1). والمسجد اصطلاحاً مفرد مساجد «بيوت الله سبحانه» يبنيها العباد بشيء من فضله ويوقفونها على عبادته ليعبروا عن شكرهم إياه ويستزيدوا من فضله، وقد قال الله تعالى ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور آية 36)(2).
والمسجد: الموضع الذي يُسْجَد فيه. قال الزجاج: كل موضع يتعبد فيه فهو مسجد. ألا تري النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا».
وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (البقرة آية:114) والمعني: من أظلم ممن خالف قبلة الإسلام(3).
والمسجد إسم مكان للسجود، والسجودُ من أركان الصلاة التي هي عماد الدين ولقد اختير السجود كي يشتق منه اسم المسجد؛ لأن السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه ففي الحديث الشريف: «أقرب ما يكن العبد من ربه وهو ساجد» فاشتق اسم المكان منه فقيل: «مسجد» ولم يقولوا (مركع )(4).
ويعرف المسجد في الاصطلاح اللغوي بأنه – اسم مكان وضع الإنسان لجبهته على الأرض تعبيرًا عن الخضوع لله(5).
ويقال للمسجد بيتًا لقوله تعالى ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ (النور آية:36) ويرد لفظ بيت بمعنى البيت الحرام أو الكعبة ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾(آل عمران آية:96) كما تطلق كلمة «بيت» في القرآن الكريم على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾(الأحزاب آية 33)(6).
والكعبة بيت الله باختيار الله وكل مساجد الأرض هي بيوت الله أيضاً ولكن باختيار البشر والمسجد هو مكان العبادة في الإسلام ولقد كان لليهود والنصارى تسميات يطلقونها على أماكن عبادتهم ذكر منها القرآن – الصوامع والبيع والصلوات – وسلكها مع المساجد في سلك واحد فجاء في القرآن ﴿وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾(الحج أية 40)(7).
والجامع هو وصف شائع للمسجد أصبح علماً عليه يقال في الأصل – مسجد جامع – بمعنى مسجد لصلاة الجماعة أو مسجد تقام فيه صلاة الجمعة ثم شاع استخدام لفظ الجامع بمعني المسجد الذي تعقد فيه حلقات الدرس كالجامع الأزهر وجامع القيروان(8).
والجامع نعت للمسجد، وإنما نعت بذلك؛ لأنه علامة الاجتماع. وما كانوا في الصدر الأول يفردون كلمة «الجامع» وإنما كانوا تارةً يقتصرون على كلمة «المسجد» وطوراً يصفونها فيقولون: «المسجد الجامع» وآونة يضيفونها إلى الصفة فيقولون: «مسجد الجامع» ثم تجوز الناس بعد،واقتصروا علي الصفة، فقالوا للمسجد الكبير، والذي تصلي فيه الجمعة – وان كان صغيرًا- «الجامع» لأنه يجمع الناس لوقت معلوم(9).
ومن الجميل أن كلمة – المسجد – هي نفسها التعبير المستعمل في لغات العالم وكلها مأخوذ من اللفظ العربي بواسطة الكلمة الأسبانية mezguita (10).
وكل مكان نظيف يخصص للصلاة ويقصر عليها فهو مسجد ولا يشترط في المسجد بناء ولا هيئة معمارية وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا» حتى الجدران لا ضرورة لها فقد اتخذ المسلمون في الأجيال الأولى مساجد هي قطع من الأرض فصلوها عن غيرها بخندق يصونها من ولوج الناس إليها دون طهارة ويمنع كذلك دخول الحيوانات إليها ومثال ذلك مسجد الكوفة الأول الذي لم تكن له جدران وفي بلاد الإسلام جميعًا مساجد ليس لها جدران أو أعمدة أو أسقف وإنما هي مساحات صغيرة مصونة عما حولها بأي صورة. من صور الصيانة تفرش بحصيرة أو نحوه ليقوم الناس فيها بصلواتهم وفي بعض مساجد الإسلام الأولى لم يعرف الناس حتى فرش الأرض بالحصير فكانوا يفرشون الأرض بالحصى – الزلط الصغير – الجاف النظيف فإذا اتسخ رفعوه واستبدلوا به غيره. وهذه المساجد البسيطة ترمز ببساطتها إلى جانب هام من جوانب العقيدة الإسلامية فإن عقيدة الإسلام سهلة واضحة لا تعقيد ولا تكليف فيها والذين يعجبون بوضوح الإسلام وبعده عن التكلف يعجبون بهذه المساجد المبسطة؛ لأنها مجرد أماكن طاهرة مصونة مما يشوب طهارتها يقف المؤمن بين يدي ربه(11).
* المسجد في القرآن والسنة:
ورد ذكر لفظ مسجد في القرآن الكريم ثماني وعشرين مرةً كما وردت كلمة (يسجد – وسجود) بالقرآن الكريم واحد وسبعين مرةً وقد ورد بمعنى – بيت ست عشرة مرةً(12).
من ذلك – ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسٰجِدَ اللَّهِ مَنْ اٰمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلوٰةَ وَاٰتٰى الزَّكوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ﴾ (التوبة آية 18).- (فِيْ بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيْهَا اسْمُه يُسَبِّحُ لُه فِيْهَا بالغُدُوِّ وَالاٰصَال رِجَالٌ لَا تُلْهِيْهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإقَامِ الصَّلوٰةِ) (التوبة آية 36)
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه﴾ (البقرة آية:144) ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (التوبة آية: 108)
وفي السنة المطهرة :
– من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة.
– إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان.
– لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا.
– من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلّٰى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة.
* تاريخ المساجد في الإسلام :
إذا عدنا إلى ميلاد المساجد الإسلامية يجب أن نبدأ بأبيها جميعًا وهو المسجد الأول الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد شهور قليلة من هجرته ووصوله إليها بعد ظهر الثاني عشر من ربيع الأول من العام الهجري الأول – 24 سبتمبر 622 فلقد كان وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قباء وإقامته بها مسجدًا ثم انتقاله بعد ذلك على دار أبي أيوب الأنصاري في منازل بني عدي بن النجار في وسط سهل المدينة إذ ذاك وإقامته بها مسجدًا. إيذانًا بقيام الجماعة الإسلامية في المدينة فقد التفت المسلمون حوله وتقاطر عليه نقباء الأنصار ورؤوس المهاجرين يتلقون توجيهاته ويبادلونه الرأي في تنظيم أمر الجماعة الجديدة ومن أول الأمر استقر رأي الرسول على إنشاء مسجد للجماعة لتقيم فيه صلواتهم وليكون مركزًا ملموساً لوحدتهم وقد اختار الرسول للمسجد قطعة أرض كانت مهملةً ينبت فيها عشب وحشي وشجيرات صغيرة تسمى الفرقد وقد اتخذ الناس في بعض نواحيها قبورًا فقام الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بتنظيف هذه الأرض وتسويتها ونقل القبور إلى مكان بعيد شرقي موضع المسجد وقد عرف هذا المكان ببقيع الفرقد وأصبح فيما بعد مقبرةً للمسلمين وأول من دفن فيه «عثمان ابن مظعون»(13).
ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان مسجدًا بسيطاً جداً فرشةً بالحصاء ثم رفع حوله جدارًا قليل الارتفاع ثم أعلى الجدار بعد أن وسع الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد وزاد فيه ثم جعل له قبلةً أي: اتجاهاً محددًا يتوجه إليه المصلون جميعًا وكانت القبلة الأولى تجاه بيت المقدس ثم حولت بعد مدة قصيرة إلى مكة ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة آية:144) وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحية القبلة – عريشاً أو ظلةً تقوم على جذوع تقوم بوظيفة الأعمدة ثم سقفوها بعوارض من الخشب من جذوع النخل أيضاً وطرحوا عليها السعف والجريد وعندما حولت القبلة إلى الجنوب باتجاه مكة أمر الرسول بإنشاء ظله أخرى عند جوار القبلة الجديدة وفي صدر المسجد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم موضع المحراب علمه بعلامة مميزة وإلى جانب المحراب بنى جزءً مرتفعًا ليقف عليه إذا خطب وكانت هذه هي بداية المنبر وفتحت في جدران مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أبواب: واحد في الجدار الشرقي قرب جنوبه والباب الثاني بقابلة في الجدار الغربي أما الباب الثالث فكان في وسط نفس الجدار الغربي. ولقد وسع مسجد الرسول عدة مرات في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين وأكبر توسيعه قديمةً أضفت إليه الروعة و البهاء ما قام به «عمر بن عبد العزيز» – عندما كان ولياً على الحجاز – بأمر من الخليفة «الوليد بن عبد الملك» ثم تتالت التوسعات والتجديدات في العهود الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية وفي العصر الحديث قامت حكومة المملكة العربية السعودية بتوسعته وتجميله مرتان فغدا من أروع الآثار الدينية في العام(14).
وعلى غرار مسجد الرسول قامت في المدينة المنورة مساجد كثيرة على أيامه صلى الله عليه وسلم وعلى طرازه أيضاً قامت المساجد الجامعة الأولي في عواصم البلاد التي فتحها المسلمون حيث كان أول شيء يقوم به الفاتحون المسلمون بعد إتمام الفتح العسكري لأي بلد هو إنشاء المسجد الجامع؛ لأن قيام هذا المسجد معناه امتداد الجماعة الإسلامية إلى ذلك البلد ودخوله في نطاق دولة الإسلام وكان من القوانين الأساسية التي سار عليها بناة دولة الإسلام الكبرى أنه لايمكن التخلي عن قطر يقوم في عاصمته مسجد جامع فإذا لم ينشئ المسلمون مسجدًا جامعاً في قلب قطر من الأقطار لم يكن عليهم بأس بالارتداد عنه إذا اضطرتهم ضرورات عسكرية أو سياسة إلى ذلك(15).
ولما افتتح «عمر بن الخطاب» البلدان كتب إلى «أبي موسي الأشعري» – وهو علي البصرة- يأمره أن يتخذ مسجداً للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص – وهو على الكوفة – بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص – وهو علي مصر – بمثل ذلك، وكتب إلى أمراء أجناد الشام ألا يتبددوا إلى القرى، وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحداً، ولا تتخذ القبائل مساجد… فكان الناس متمسكين بأمر «عمر» وعهده، وكانت صلاة الجمعة تؤدي في المسجد الجامع(16).
لذا تتالت المساجد الجامعة الكبرى عقب فتح الأمصار مثل:-
مسجد البصرة: – أُنشِئَ سنة 14 هـ/635 م على يد «عتبة بن غزوان». أقام سوره أولاً من القصب أي من البوص – ثم بناه «أبو موسى الأشعري» باللبن ثم «زياد بن أميه» بالحجر سنة 44هـ /665.
مسجد الكوفة:– أُنشِئَ سنة 15هـ /636 م على يد «سعد بن أبي وقاص». لم يكن له جدار أول الأمر ثم عمل له جدار من القصب ثم بني باللبن ثم الحجارة سنة 51 هـ/670م وتاريخ هذا المسجد طويل فقد وُسِّع وهُدم وبُنِيَ مرارًا عديدةً والمسجد الحالي لا يمت في عمارته إلى المسجد الأول بصلة وهو حديث البناء.
ورابع المساجد الجامعة «مسجد عقبة بن نافع» في القيروان بناه ذلك الفاتح العظيم فيما بين سنتي 50،55 هـ/670، 675 وقد مر هذا المسجد بأدوار شتى في تاريخه ولكن هيأته الحالية أصلية ترجع إلى «إبراهيم بن أحمد» تاسع أمراء بني الأغلب على إفريقية وقد تمت سنة 261هـ/875م.
وخامس المساجد الجامعة هو المسجد الأقصى وبناؤه يرجع إلى أيام «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه ولكن ليست لدينا فكرة عن صورته الأولى وقد أعاد بناءه بالحجر «عبد الملك بن مروان» سنة 65 هـ /658م أما الذي أعطاه صورته التاريخية التي ظل محافظاً عليها رغم التجديد وإعادة البناء المتكررين فكان الوليد بن عبد الملك سنة 87 هـ/706 والوليد من أعظم البناءين في تاريخ الإسلام. وهذه الخمسة إلى جانب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم هي أباء مساجد الإسلام كلها ويلي ذلك المسجد الجامع الباسط وقد بناه «الحجاج بن يوسف» سنة 84هـ/703 م والمسجد الجامع الأموي في دمشق وهو من بناء «الوليد بن عبد الملك» فيما بين سنة 87هـ /706م وسنة 96هـ /714م وبعد ذلك تأتي ألوف المساجد التي بناها المسلمون على طوال تاريخهم(17).
* صورة المسجد كمنشأة في التراث الإسلامي :
قياساً على مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والذي بناه بالمدينة «نجد» أن أي مسجد يجب أن يضم في صورته الأولى بعد الموقع ووجوب أن يكون في وسط العمران والمساحة يجب أن تكون شاسعة العناصر الأتيه.
1- ساحة واسعة مكشوفة هي التي بالصحن في مصطلح المساجد.
2 – جزء معروش أو مغطى من تلك الساحة يقع في ناحية القبلة هذا الجزء هو ما نسميه عادةً بيت الصلاة ويخطط بيت الصلاة خطوطاً موازياً لجدار القبلة.
3- قبلة محدودة يجعل المصلون جميعاً وجوههم ناحيتها عند الصلاة واتخاذ جدار القبلة قاعدة لتخطيط المسجد وهو منها بمثابة المحور.
4- موضع محدد في جدار القبلة يقف تجاهه الإمام وهو المحور.
5- شيء مرتفع إلى يمين المحراب ليقف عليه الخطيب في صلوات الجمع والأعياد وهو المنبر وهذه العناصر الخمسة. الصحن وبيت الصلاة والقبلة والمحراب والمنبر هي الأجزاء الرئيسية التي لا يمكن أن يخلوا منها مسجد(18).
أما ما عدا ذلك فزيادات وعناصر إكمال أتت فيما بعد وهي لا تدخل في صلب المساجد فالمئذنة مثلاً ليس من الضروري وجودها في كل مسجد. فأيام الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون من أعلى بيت مجاور وهو بيت السيدة «حفصه» أم المؤمنين وفي هذا العصر أصبحت مكبرات الصوت وما شابهها من آلات تكفين لبلاغ الأذان بدون مشقة للمؤذن. والميضأة كذلك عنصر إضافي؛ لأن المفروض أن المسلم يذهب على المسجد متوضئا وعلى الرغم من تصور كثير من المسلمين لأهمية وجود الميضأة في المسجد إلا أن وجودها أضر بالمساجد بصورة عامة وكان من العقبات التي حالت دون المحافظة على نظافة المساجد كما ينبغي وقد آن أن نتحلل من التزام الميضأة الآن بعد أن دخل الماء النقي كل بيت ومن المؤكد على كل حال أن أوضاع الميضات وطرق التطهر والاغتسال والوضوء لا تضمن الطهارة الكاملة والمقصورة كذلك عنصر لا يدخل في تكوين المسجد وتتخذ المقصورات عادةً في صدر المسجد وتخصص ليصلى فيها أهل السلطان وطبيعة الحال في هذا العصر لم تعد تتطلب الإضافة بالنسبة للمسجد. وكذلك القباب لا تعتبر جزءاً أساسياً في المسجد(19).
* منزلة المساجد في الإسلام :
للمساجد خصوصية ومكانه في قلب المسلم هذه المكانة إنما أتت من صفة القداسة التي يضيفها الإسلام على المسجد ويكفي أنه يحمل في نفس الوقت اسم «بيت الله» وإذا تمعنا في معنى نسبة البيت إلى الله أدركنا إذن الدرجة العليا للقداسة التي يتمتع بها هذا المكان ومن هنا حرص المسلمون على طول الأحقاب على احترام هذه البناية التي تعتبر من حرمات الله؛ لأنها مكان التقاء المسلمين بربهم ومكان للعبادة على مدى اليوم ومدى الأسبوع(20).
وتتجسد منزلة المساجد في سلوكيات روادها هذه السلوكيات التي تتمثل في الأتي:-
– أن الداخل إلى المسجد يصلي ركعتين هما – تحية المسجد.
– وجوب المحافظة عليها وتنظيفها.
– يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البصاق فيها وسمّى ذلك خطيئةً.
– كراهية الثرثرة أثناء التواجد بالمسجد… إلى جانب كراهة دخولها بالحذاء إلا في أحوال معينة كالحرب والحراسة مثلاً.
وجوب التزين عند الدخول إلى المسجد:- «يَا بَنِي آدَم خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِد» هذه النزلة وتلك السلوكيات التي تختص بها المساجد عما سواها من دور العبادة لدى غير الإسلام قد أهلت المساجد – بدورها – لأداء رسالة دينية وحياتية هامة في حاضر وتاريخ الإسلام(21).
* رسالة المسجد في الإسلام :
لم يقصر الإسلام رسالة المسجد على أداء الصلوات فحسب؛ بل أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون للمسجد دور إيجابي وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي ككل فبجانب الصلوات الخمس هو موطن تلاوة وتدبر ومعهد علم وتهذيب ومجلس صلح وقضاء وملتقى تعاون وتكامل ومكان رأي ومشورة(22).
ويرى البعض أن للمسجد في المجتمع المسلم عدة وظائف وأهمها الوظيفة الدينية ثم الوظيفة التربوية ثم الوظيفة الاجتماعية وقد كان المسجد يؤدي كل تلك الوظائف في صدر الإسلام إضافةً إلى بعض الأدوار الأخرى في الجانب العسكري حيث تنعقد منه ألوية الجهاد والجانب القضائي حيث يتم فيه الفصل بين المتخاصمين وما شابه ذلك(23).
وتفصيلاً فإن رسالة المسجد في التراث الإسلامي تتمثل في:
1- المسجد المعبد: يقول عليه الصلاة والسلام (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفّتهم الملائكة وغَشِيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) والمسلمون في المسجد راكعون. ساجدون قارئون للقرآن.. مسبحون. حامدون.
2 – المسجد مقر الحكم: فيه اختار المسلمون خليفتهم وفيه تتم له البيعة وفيه يخطبهم الخليفة موضحاً منهجَه في سياسة الدين والدنيا(24).
1 – المسجد مجلس الشورى: كان مجرد سماع نداء – الصلاة جامعة – يعني أن قد جد أمر يراد فيه مشورة المسلمين جميعًا عندئذ يهرع الناس إلى المسجد وبعد تأدية الصلاة يكون عرض الأمر – اختيار خليفة أو بيعة أو بحث قانون مستمد من الشرع…. الخ على المسلمين(25).
2 – المسجد المدرسة: في المسجد كانت حلقات الدرس تعقد لتعليم كافة دروب وفنون العلم ولم يقتصر التعليم بالمسجد على علوم القرآن والسنة والشريعة واللسان والطبيعة ولكنه امتد أيضاً لتعليم الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (من دخل مسجدنا هذا ليعلم خيرًا أو ليتعلم كان كالمجاهد في سبيل الله)(26).
3 – المسجد المحكمة: في ساحة المسجد صدرت أكثر أحكام القضاء عدلاً وفي ذلك يروي الإمام البخاري – رضي الله عنه – في صحيحه أن «كعب بن مالك» تقاضى «ابن أبي حدر» دينارًا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما فنادى يا رسول الله فقال «قم فاقضه»(27).
4 – المسجد النادي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمح بأن تقام الأعمال الرياضية بالمسجد ويروى عن «عائشة» رضي الله عنها قولها «دعاني رسول الله والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد فقال يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت نعم فأقامني من ورائه فنظرت من وراء منكبيه قالت «عائشة» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة»(28).
* المسجد ومهام أخري :
– الروح الاجتماعية:
أن تردد المسلمين الدائم على المساجد يعتبر بمثابة مؤتمرات دائمة الانعقاد وتطرح على مائدة البحث ما يعرض لها من أمور الدين والدنيا. فهناك مؤتمر يومي يتمثل في الصلوات الخمس وأخر أسبوعي يعقد مع صلاة الجمعة. ثم المؤتمر السنوي العالمي بالمسجد الحرام في الحج(29).
– وهو المستشفى:
يروى عن السيدة «عائشة» رضي الله عنها قولها (أصيب «سعد بن معاذ» يوم الخندق في الأكحل فضرب عليه رسول الله خيمة في المسجد ليعوده من قريب).
– والأسرى:
ففي سواريه يربط أسرى الحرب فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قِبَل «نجد» فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له «تمامه بن أشال» فربطوه بسارية المسجد فاغتسل ثم دخل فقال «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»(30).
والمسجد فوق أنه معلمة قائمة ومؤسسة جامعة لأمور حياة المسلمين فهو أيضاً القلب النابض الذي يعطى كشفا دقيقا عما يخالج الذين شيدوه من إيمان صادق بالله وثقة كبرى فيما دعت إليه رسالة السماء الخاتمة. والله ولي التوفيق.
* * *
المـراجع :
1- المعجم الوسيط الهيئة المصرية العامة للكتاب الجزء الأول ص 418
2- الزركشي أعلام الساجد بأحكام المساجد ص 140
3- حسن عبد الوهاب سلسة – كتاب الشعب 75- (بيوت الله،مساجد ومعاهد) 1960 ص 3
4- فريد جحا المسجد في الحضارة العربية المجلة العربية العدد 2 السنة الثالثة 15 صفر 1399هـ 14 شباط 1979 ص 95
5- د/ عبد الهادي التازي المسجد في المأثور الإسلامي مجلة الحرس الوطني المحرم 1415هـ يونيو 1994 م ص 30
6- المساجد العمارة والتاريخ والرسالة – موضوع خاص إعداد مجلة الفيصل العدد الخامس عشر رمضان 1398 هـ أغسطس 1978 م ص 96.
7- المصدر السابق .
8- المصدر السابق .
9- حسن عبد الوهاب سلسة – كتاب الشعب 75- (بيوت الله، مساجد ومعاهد) 1960 ص 3.
10- د/عبد الهادي التازي مصدر سابق ص 30.
11- د/حسين مؤنس مساجد الإسلام والمسلمين في شتى العصور مجلة العربي العدد 156 نوفمبر 1971م ص39.
12- المساجد والعمارة والتاريخ مجلة الفيصل مصدر سابق ص 92
13- د/حسين مؤنس مصدر سابق ص 33.
14- فريد جحا مصدر سابق.
15- د/حسين مؤنس مصدر سابق ص 31.
16- حسن عبد الوهاب سلسة – كتاب الشعب 75- (بيوت الله، مساجد ومعاهد) 1960 ص 3.
17- المصدر السابق .
18- علي محمد مختار – دور المساجد في الإسلام – رابطة العالم الإسلامي 1402 هـ ص 35.
19- د/حسين مؤنس مصدر سابق ص 34.
20- د/ عبد الهادي التازي مصدر سابق ص 31.
21- مجلة الفيصل المساجد العمارة والتاريخ مصدر سابق ص 96.
22- علي محمد مختار مصدر سابق ص 47.
23- عبدا لرحمن النحلاوي – أصول التربية الإسلامية في البيت والمدرسة والمجتمع.الدار الفكرية 1979 ص 119.
24- مجلة الفيصل المساجد العمارة والتاريخ مصدر سابق ص 100.
25- مجلة الفيصل المساجد العمارة والتاريخ ص 101.
26 – المصدر السابق.
27- المصدر السابق .
28- المصدر السابق ص 102.
29- المصدر السابق ص 102.
30- المصدر السابق ص 102.
* * *
(*) مصر – طنطا – دمشيت.
هاتف محمول : 0109356970(002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الأول 1432 هـ = فبراير 2011 م ، العدد : 3 ، السنة : 35