الفكر الإسلامي
بقلم: الأستاذ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله
إن مجرد إلقاء نظرة عابرة على نص حديث «هند بن أبي هالة» رضي الله عنه، تدل على أن هذا الصحابي، كان يتمتع بالحاسة الأدبية، إلى جانب دقة ملاحظته، التي تتجلى في استيعابه الوصفى، وقدرته على استحضار هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وإفراغ أوصافه في قالب فني ممتع.
ولقد أدرك القدامى، مدى هذه الطاقة الوصفية لديه، فعبروا عنها بقولهم إنه كان (وصافاً)، أي توفرت عنده الملكة الوصفية..
وبإجالة نظرة تأملية في الحديث، ندرك أن هذا الصحابي الأديب، لم يقف بأوصافه الدقيقة عند الملامح البارزة، التي يدركها الناظرة عادةً من الوهلة الأولى.. كالطول والقصر، أو النحافة والسمن، أو اللون.. ولون الشعر.. بل أخذ يعدد الصفات.. صفة خلف الأخرى.. وكأنما هو حريص على أن يرسم صورةً كاملةً لهيئته صلى الله عليه وسلم .. ولعل مبعث ذلك، حرصه على أن يوفر لابن أخته (أعنى السيدة فاطمة بنت محمد). وهو الإمام الحسن بن علي – رضي الله عنهما – صورةً تفصيليةً لجده تغنيه عن أي وصف آخر.. كيف لا، وهو قد اشتهر بدقة الوصف وبراعته..؟
وفي سبيل ذلك يستطرد الوصف إلى جوانب وملامح، وصفات. لإيتاح إدراكها للنظر العابر، بل ولا للنظر المتأمل، مالم يكن ممعناً في تأمله. دقيقاً في ملاحظته.
فهو مثلاً يصف شعره.. فلا يكتفى بأن يبين أي نوع من الشعر.. ولكنه يذكر مداه.. ثم يفصل هذا المدى.. فهو إذا فرقه، كان من الوفرة بحيث يصح فرقه.. وإلا فهو إلى شحمة الأذن.
وهو حين يصف الحواجب، يذكر أنها غير مقترنة.. ولا يكتفي بذلك، بل يصف ذلك العرق الذي يبرزه الغضب.. وهو هنا يستعمل لفظة (يدره) فيستعيره من در الضرع.
وترى جانبًا من دقته وبراعة وصفه، حينما ينعت أنفه صلى الله عليه وسلم .. فهو يقول عنه: (أقنى) أي فيه انحناء.. ولكنه يستدرك بسرعة أن هذا الانحناء من الخفاء، بحيث لايدركه إلا المتأمل.. وإلا فإن من لم يتأمله يحسبه أشم.. أي منتصب العرنين، وفي الحالتين تتهيأ صورة جمالية.. تتوفر عند المتأمل وعند غير المتأمل على سواء.. فهو أقنى من غير كبير انحناء، وهو أشم من غير مبالغة.
وهو يعطى صورًا وأوصافًا للرسول عليه الصلاة والسلام، لجوانب لايتهيأ لغيره أن يراها فيصفها.. فلقد أتاحت له ظروف نشأته صغيرًا في حضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يدرك من أوصاف بدنه الشريف مالا يدركه إلا الملتصق به من خاصة أهله وخدمه.. كهذه المسربة، أي الخيط من الشعر الممتد من النحر إلى السرة.. وأن بعض ما يظهر عند تجرده من بعض أثوابه، كان أكثر نورًا.. أو ابيضاضاً من بقية جسمه الشريف، الذي يتعرض للشمس أو المؤثرات الجوية.. وذلك كالصدر والبطن والذراعين والساقين.. غير متشح بكامل أثوابه التي يتجمل بها عند خروجه إلى الناس كافةً.. فهو يقول إنه عارى الثديين والبطن من الشعر.. غير ذلك الخط.
* * *
ومن دقة وصفه.. ما نعت به قدمي الرسول صلى الله عليه وسلم.. فهما (خمصان) وليس فيهما من عيب أو نفور عروق أو أعصاب. إذ هما من فوق مسيحان يسيل عنهما الماء عاجلاً.
ويصف إشارات الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: إنه يشير بكفه كلها.. فإذا كان في حديثه ما يدعو إلى العجب قلبها. وإن إشاراته بكفه تتصل بحديثه وتواكبه. وإن من استعمالات إشارته بكفه، أنه كان صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الإشارات يضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى.. وهذه أيضا من الأوصاف الدقيقة التي تدل على ملاحظة متفحصة قوية.. وعلى متابعة لحركات النبي صلى الله عليه وسلم وعاداته.
* * *
ونقف – ولو يسيرًا – عند تشبيهاته البارعة، التي تدل على تلك الموهبة الأدبية البلاغية، التي أوتيها هند بن أبي هالة، رضي الله عنه.
فنجد من ذلك قوله: (يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر). فإنه وإن كان وصف جمال الوجه بالقمر من الأوصاف المتداولة عبر الأزمان والعهود.. إلا أننا نجد صاحبنا يعطينا صورًا متتابعةً، تجعل هذه الصفة، ذات حركة معينة، تبعدها عن الوصف التقليدي.. فهو (يتلألؤ القمر) فيقرن التلألؤ بالقمر.. ولا يكتفى بهذا الحد، فيزيد أن المقصود بالقمر هو ليلة البدر، الذي لايعتوره فيها نقصان، ولا تحف به ظلال:
ونجد مثل هذه اللمحة الفنية في قوله: (كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة).
فالصورة الفنية هنا مركبة متلاحقة.. فقد استعمل للرقبة اسمين متغايرين، أحدهما عنق، والآخر جيد.. وربط الجيد بالدمية التي يبالغ صانعها في إبراز جمالها، وإتقان صنعها.. ويحتاط، لئلا تكون الدمية سوداء أو سمراء.. فيستدرك بسرعة، ليقول إن ذلك العنق الشريف، كان أبيض صافيًا في صفاء الفضة.. ولايخفى على المتأمل أن الفضة إذا كانت صافيةً، برزت بيضاء رائقةً رائعةً، يرتاح إليها النظر..
وتسعف هذا الصحابي الأديب مثل هذه الاستدراكات الفنية البارعة، حينما يصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادن) فيخشى أن يظن ظان، أن بدانته قد أدت إلى شيء من الترهل والتهدل، كما يحدث غالب الأحيان للبانين، فيسرع ليقول: (متماسك) أي أنه لايعتور بدانته ترهل، بل هو متماسك الجسم، ويمعن في دقة الصورة وضبطها فيقول: (سواء البطن والصدر) أي ليس له كرش متهدلة.. لأن صدره وبطنه على مستوى واحد.. وذلك من تمام جمال الأجسام.
* * *
وعندما يريد أن يصف ما قد يظهر من جسمه الشريف في بعض المناسبات بين أهله وخاصته كالذراعين أو الصدر، أو الساقين.. يستعمل كلمةً مرهفةً بالغة الدلالة فيقول: (أنور المتجرد) أي أن هذه الأجزاء.. المصونة عادةً عن التعرض للشمس والمؤثرات الجوية، هي أشد بياضاً من تلك التي تتعرض لهذه العوامل، ولكنه لايقول إنها أشد بياضاً.. ولكنه بحاسته الأدبية الدقيقة يقول إنها أشد نورًا.. أكثر إضاءةً.. أوأكثر إشراقاً .. ومهما استعملنا من ألفاظ تظل كلمة: (أنور) هي الملائمة تماماً..
ولكي يقول إن أطراف النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ شكلاً انسيابيًا، لا عيب فيها، ولا نتوء، ولا اعوجاج أو تغضن.. فإنه يدلنا على تلك الصورة الانسيابية بقوله: (سائل الأطراف).
وإذا انتقلنا إلى تصويراته عن صفة منطقه صلى الله عليه وسلم نجده يقول: (يتكلم بجوامع الكلم).. فيصور لنا في هذه الجملة، على وجازتها قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إيجاز المعاني الكثيرة المستفيضة في كلمات قلائل تضم أو تجمع تحتها شتات كلام كثير، وبذلك كانت كلماته جامعةً للكلام.
ولكن ليس معنى ذلك. أنه يفسح المجال للتأويل.. أو للتساؤل.. كلاً، فهو كلام فصل.. حاسم واضح الدلالة.. وهذا أحد استدراكات هذا الصحابي اللماح.
وبحسن إدراكه، لما لكلام النبي صلى الله عليه وسلم من أهمية، تأتي بعد أهمية القرآن الكريم عند كافة المسلمين.. فإنه يتريث في الوصف.. فلا يقف عند قوله: (كلامه فصل) بل يمضى فيحدد.. كيف كان فصلا؟ فيقول: (لا فضول ولا تقصير). لازيادة عما يتطلبه السامع.. ولا نقصان عما يحتاج إليه هو، بحسبانه مشرعاً وهادياً ودليلا لأمته وللناس كافة.
ولا يكتفي ببيان الناحية البلاغية من كلام الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، بل يقف ليشرح الناحية الخلقية في أسلوب كلامه.. فليس أسلوبًا جافيًا.. حتى لاينفر من الدعوة كما أنه في الوقت نفسه، ليس أسلوبًا ضعيفًا أو خاضعًا أو ذليلاً، فإن الدعوة تحتاج إلى قوة في شخصية الداعي.. ولكنها القوة التي لاتصل إلى الجفاء ولا إلى الكبرياء: (ليس بالجافى ولا بالمهين).
ونجد ابن أبي هالة رضي الله عنه، في ختام هذا الحديث، يصف جمال أسنان الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستعمل صورةً شعريةً رائعةً.. فهو يصف انفراج شفتى الرسول صلى الله عليه وسلم حين تبسمه بقوله: (يفتر) حتى يذكر بافترار الأزهار عن أكمامها.. ثم يقول: (عن حب الغمام) فهو لايقول: (البرد) مباشرة بل يكنى عنه، بكلمتين شاعريتين أيضا، هما (حب) و (الغمام).. ولكل من الفظين جماله وجوه الشاعري الرقيق..
إن هذا النص .. يعد نموذجاً جيدًا من نماذج النثر الفنى في عهد صدر الإسلام، وهو دليل قائم على ما كان يتمتع به الصحابي الجليل: هند بن أبي هالة من موهبة أدبية.
يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) في ترجمة هذا الصحابي: «وكان هند بن أبي هالة فصيحًا بليغًا وصافًا، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن واتقن، وقد شرح أبو عبيدة وابن قتيبة وصفه ذلك، لما فيه من الفصاحة وفوائد اللغة»(1).
* * *
(1) الاستيعاب 4/1545 الترجمة رقم 2699 والمقصود بأبي عبيدة: القاسم بن سلام، وهو صاحب (الغريب المصنف في شرح غريب الحديث)، وكذلك لابن قتيبة كتاب (الغريب)، وقد شرحا ألفاظ حديث ابن أبي هالة، ونقل عنهما الكثيرون.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35