الفكر الإسلامي
بقلم: الأستاذ محمد قطب عبد العال
وأما كلمة الريح فقد وردت في السياق القرآني واشية بمعنى عام محدد صاحبها في الإنسان التي وردت بها.. وهو معنى غالبا ما يرد في مقام العذاب. والتخويف.. إنه كلمة تحمل الخوف، والشر، والدمار، تسلط على الجاحدين فتحيلهم إلى أعجاز نخل خاوية.
«إن ريح الشر، تهب مدمّرةً عاصفةً، لاتهدأ، ولا تدع الناس يهدأون، فهي لاستمرارها ريح واحدة، لايشعر الناس فيها بتحول ولاتغير، ولايحسون بهدوء يلم بها، فهي متصلة في عصفها وشدة تحطيمها، وذلك مصدر الرهبة منها والفزع»(1).
.. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾(2).
وسورة الحاقة يتلقاها القلب البشري بهزة نفسية عميقة، فيها الهول الذي يفزع النفوس، بمشاهده المتوالية. وأسلوب الصورة يحاصر الحس ويحتويه.. ونحن أمام مشهد يرمي بالرعب في القلوب، وجاءت الألفاظ موحيةً بكل هذا الرعب، وبدت الصورة الخيالية أكثر تجسيمًا وإبانةً..
فهاهم قوم هود – عاد – قد أهلكهم الله سبحانه بالريح العاصفة ذات الصوت المدوي ولقد تجاوزت بعتوها الحد في الهبوب والبرودة. واستمرت هذه الريح متتابعةً حتى أحالت القوم جيفاً متآكلةً كأنهم أصول نخل خاوية.
قال المفسرون: كانت الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رؤوس النخل، وتدخل في أدبارهم حتى تصرعهم، فيصبحوا كالنخلة الخاوية الجوف.
ومصرع عاد مشهد حاضر شاخص يصاحبه هول مروع يسيطر على جنباته، وكانت السيادة في المشهد للريح العاصفة المزمجرة التي أتت على كل شيء.. ومن ثم تأكد معنى التخويف والعذاب والنقمة التي تشى بها كلمة الريح، فأعطت للمشهد حيويته وهو له معًا.
«إنه مشهد حي، ماثل للقلب، ماثل للعين، ماثل للخيال»(3).
ويتأكد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿إنَّا أرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِيْ يَومِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كأنَّهم أعجَازُ نخلٍ مُنْقَعِر﴾(4).
فالريح العاصفة شديدة البرودة والهبوب تحمل العذاب لعاد.. في يوم مشؤوم دائم الشؤم فلم يبق أحد الا هلك.
قال الخازن: كانت الريح تقلعهم ثم ترمى بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم وتفصل رؤوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة على الارض(5).
وجرس اللفظ في الآية الكريمة يصور نوع الريح في عنفهما وبرودتهما وعصهما الشديد.
والريح التي أرسلت على عاد هي من جند الله، وهي قوة من قوى هذا الكون تسير وفق الناموس الكوني، يسلطها الله على من يشاء وفق أداء كوني يتلاءم مع المشيئة الالهية..
والتشبيه يصور عذاب الله تعالى تصويرًا مشهودًا وكانت «الريح» الأداة الفاعلة. لقد انتزعتهم كما تنزع جذور نخل غاصت في أعماق الأرض.. فأحدثت للتشبيه هوله وبريقه وعنفه (هذا بريق التشبيه المرعد الذي يصور ما ينزل بالمشركين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد)(6).
وترد كلمة «الريح» في سياق تشبيهي يعقد علاقةً حميمةً بين المعقول المعنوي وبين المحسوس المشاهد.. ويصبح للكلمة الدور الفاعل في إبراز هذا المعنى الديني المقصود.. ولا تتخلى الكلمة عن دلالتها المقصودة.. وهو الإهلاك والتدمير..
قال تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(7).
فالريح تحمل الدمار والهلاك للحرث والزرع والضرع حتى تحيله إلى هباء. ومن ثم تساهم بحركتها العاصفة الباردة الشديدة في إبراز المعنى المراد، وهو أن العمل المبذول – وإن ظنه الكافرون خيرًا – لا يؤتى ثمره مالم يكن نابعًا من الإيمان وموصولاً به. «واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف فيصور معناه بجرسه النفاذ».
وقريب من هذا الأداء التصويري الجميل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾(8).
فأعمال الكافرين وإن جاءت تحمل الرغبة في الخير، أعمال محبطة، لافائدة ترجى منها، ولايعود على أصحابها ثواب أو جزاء، مثلها في ذلك مثل الرماد الهش الذي لايصمد أمام قوى الريح العتية فيتلاشى هباءً منثورًا.
ولقد صورت الآية هذا المعنى الديني تصويرًا حسيًّا جميلاً يثير مدارك الخيال، لنقف على حالة الضياع والتلاشى بفعل الريح العاصفة وهي تذر و الرماد وتذهب به بردًا.
وتغيرت دلالة «الريح».. في سورة الأحزاب.. حيث كانت نعمةً على المسلمين، ونقمةً على الكافرين.. وهي في مجال النقمة لاتزال تحمل المعنى الأصلي للتخويف وبث الهول والدمار.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾(9).
والآية تذكر المؤمنين بفضله وإنعامه عليهم في غزوة الأحزاب، حيث حشد الكافرون جنودهم صوب المدينة، فاشتد الخوف بالمؤمنين وظنّوا ظنونًا كثيرةً، ولاح النفاق في قلوب المنافقين حتى قال بعضهم: يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط. ويدرك الله المؤمنين برحمته فيرسل على الأحزاب ريحاً شديدةً عاصفةً قلعت البيوت، وكفأت القدور، وألقت من شدتها بالرجال على الأرض، كما أرسل الملائكة فزلزل الكافرون زلزالاً شديدًا.
لقد كانت الريح عنصرًا حاسمًا في المعركة فكانت نعمةً، ونقمةً في آن واحد.
وجاء لفظ الريح نكرةً «ريحاً» وهذا التنكير يفيد التعذيب العام المصاحب للكلمة مع ما يصاحبه من دلالات أخرى التخويف، والإهلاك والتدمير. ولتأخذ في سياق المعركة دورها الفاعل كأحد العناصر الفعالة في الحرب، ولتصبح جُندًا من نوع آخر. وتلاءم هذا التنكير مع «جنودًا لم تَرَوْها» وهم الملائكة، والذي يفيد أيضًا التعظيم، والتهويل، والتخويف، وذلك كله إشعاعات نابعة من موقف الحرب والعراك، ومتناسقة تمامًا مع السياق والنسق العام.
وقد ترد الريح في معنى النعمة فقط. ومن ثم تنسلخ اللفظة انسلاخاً تامًا من المعنى الدلالي الذي اتخذته، كما رأينا سابقًا، ولكن ذلك يأتي في مجال الإرادة الإلهية حين تمنح رسولاً من الرسل ميزة يتفرد بها.. فتصبح «الريح» إحدى المنظومات الكونية التي سخرها الله لرسوله. وهذا التسخير إنما هو توظيف للقوة في مجال النعمة، وتسخير لأداة التدمير في مجال الفضل والمنّة. وهذا تغيير لمفردات طبييعية بفعل الإرادة الإلهية.
وهذا أبين للنعمة وأظهر للمنة (فإن الشيء إذا توقع منه الشر والأذى، ثم اقترن ذلك بالنفع والخير، كان المن به أعظم، والإنعام فيه أظهر، بخلاف ما كان مظنة خير ورحمة، فإنه وإن كان مبهجًا، إلا أنه لايصل إلى إبهاج ذلك الذي توقع الشر منه، حيث يكون مصدر نعمة)(10).
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾(11).
وقال تعالى: ﴿فسخَّرنَا له الرِّيحَ تَجْرِيْ بأمْرِه رُخَاءً حَيْثُ أصَابَ﴾(12).
.. لقد سخر الله لسليمان الريحَ تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات معدودات تحمله مع جنوده فتنتقل به من بلد إلى بلد.. وتنوعت الدلالة في آية «ص» بالقيد الذي ورد وهو رخاءً.. فالرخاء لغةً هي الريح اللينة، والمعنى يتضاد مع العصف الشديد. والرخاء – سياقاً – الانقياد حسب الإرادة والمقصد. وهو مأخوذ من معنى التسخير الذي منَّ الله به على سليمان عليه السلام. والمعنى أن الريح تسير بأمره منقادة لينة طيبة حيث قصد وأراد. إلا أن «تسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله، لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وهي مسخرة لإرادته تعالى ولاشك تجري بأمره وفق نواميسه. فإذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات أن يعبر عن إرادة الله سبحانه وأن يوافق أمره أمر الله فيها، وأن تجري الريح رخاء حيث أراد، فذلك أمر ليس على الله بمستبعد»(13).
كما أن الريح قد يتحدد معناها المغاير للمعنى الأصلي بصفة تحددها، بحيث يتلاءم المعنى مع السياق العام(14).
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾(15).
فالريح الطيبة هي الريح اللينة الطرية التي تساعد على تسيير السفن في هوادة واطمئنان، الأمر الذي يستدعي الفرح والشعور بالأمن.
ولكن سرعان ما يتغير المشهد إلى عنف وقصف وموج وخوف، فيعود للريح مرةً أخرى الدلالة المصاحبة لها وهو التخويف والتعذيب والإهلاك.. والتدمير مما يوحى بالهلاك والموت، فيتحول الأمان إلى خوف ويتوجه القوم إلى الله أن ينجيهم من هذا الكرب.
وما بين الفرح والخوف – الريح الطيبة والريح العاصفة – يتحدد نموذج بشري ورد ذكره كثيرًا في القرآن.. إذ تتحدد الطبائع بعد تذوق رحمة الله بعد الضر.. وحين يصيبهم الضرر ثم ينجون منه.. ويبرز هذا النموذج عبر مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية. إنه مشهد حي تراه العيون وتتابعه المشاعر وتخفق معه القلوب. ولقد قامت حركة الريح بهدوئها وعصفها بدور فعال في إبراز ذلك كله.
* * *
الهوامش:
القافلة عدد جمادى الآخرة 1411. دلالات الالفاظ القرآنية د. حامد صادق.
سورة الحاقة الآية 6، 7.
الظلال ج6 ص 3676.
سورة القمر الآية 19 ، 20.
صفوة التفاسير ج3 ص 286.
القرآن المعجزة الكبرى محمد أبو زهرة ص 248.
سورة آل عمران الآية 117.
سورة إبراهيم الآية 18.
سورة الأحزاب الآية 9.
القافلة .. مصدر سابق.
سورة سبأ الآية 12.
سورة ص الآية 36.
الظلال ج5 ص 3020.
انظر تفصيل آيات القرآن ص 505.
سورة يونس الآية 22.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35