الفكر الإسلامي
بقلم: الدكتور أبو اليسر رشيد كهوس
لابد لمن أراد ولوج باب علم سنن الله أن يقف مع النص القرآني وقفة تأمل وتدبر؛ ليستنبط ما وراءه من سنن مطردة، وفي هذا المقام أذكر أمثلة ونماذج لكيفية استنباط تلك السنن التي تحدثت عنها:
– نماذج لاستخراج السنن واستنباطها على وجه التفصيل:
1 – ورود لفظة (سنة) وما اشتق منها:
يأتي هذا اللفظ في سياق الحديث عن نتائج متعلقة بسلوك الناس أو قبل تقرير حكم أو بعده: نحو قوله تبارك وتعالى في سنته في الهداية لسنن السابقين: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(1)، وقوله عز من قائل في سنة الجزاء من جنس العمل: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(2)، وقوله عز وجل في سنته في المكذبين على مدار التاريخ: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(3)، وقوله تقدست كلماته في المشركين المنكرين لدعوة الحق المتصدين للرسل: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾(4)، وقوله جل جلاله في سنته في هزيمة المشركين المستكبرين الذين يصدون عن سبيل الله ويؤذون رسل الله – عليهم السلام – في بضع سنين: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلٰفَكَ إِلَّا قَلِيلًاسُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾(5).
2 – ورود لفظة (جعل) وما اشتق منها في سياق الأفعال الإلهية:
نحو قول الله عز اسمه في سنة الله في الخَلق: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(6).
وقوله عز سلطانه في سنة الاستخلاف:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(7).
وقوله جلت عظمته في سنته في إهلاك الظالمين:﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾(8).
وقوله تقدست كلماته في سنته في خلق الإنسان:﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(9).
وقوله تعالى وتقدس في سنته في الأرزاق: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾(10).
3 – استفسارات استنكارية:
نحو قوله جل ثناؤه في سنته في الهداية والضلال: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾(11)، وقوله تبارك وتعالى في سنته في الأجل: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾(12)، وقال جل في علاه في سنته في الإهلاك: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾(13).
4 – ورود فعل الله جل جلاله مع تعليله (14):
يمكن لنا كذلك استخراج سنن الله واستنباطها من خلال سياق الآيات التي ورد فيها فعل الله مع تعليلهوخاصة فيما يتعلق بنظام الحياة، وأخذ العبر والدروس من قصص الغابرين:
أ)- أن يذكر الله Y فعله معللا إياه بحرف من حروف التعليل(15):
فبحرف (الباء): نحو قوله تبارك وتعالى في سنة النعم وتغييرها: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(16)، وقوله سبحانه في سنته في المكذبين على مر الأزمان: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾(17)، وقوله جل وعلا في سنته في المنافقين: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾(18)، وقوله سبحانه وتعالى في سنته في المشاقين لله ولرسوله في كل أرض وفي كل وقت: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(19).
وبحرف (اللام):نحو قوله تبارك وتعالى في سنة التعـارف بين الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(20)، وقوله جل شأنه في سنة الإملاء: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(21)، وقوله تقدست كلماته في سنة الفتنة: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(22)، وقوله عز سلطانه في سنته في الاعتزاز بغير الله: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾(23)، وقوله عز وجل في سنته في تداول الأيام واستبدال الأقوام : ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(24)، وقوله تبارك وتعالى في سنة التبشير و الإنذار: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾(25)، وقوله تبارك وتعالى في سنة الإنذار والإعذار: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(26).
وبحرف (إِنَّ): نحو قول الله عز وجل في سنته في الذين يكتمون الحق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾(27)، وقوله سبحانه وتعالى في سنته في الإهلاك: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾(28).
وبحرف (الفاء): نحو قوله جلت حكمته في سنة العقاب الدنيوي: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾(29)، وقوله سبحانه في سنته في تكذيب المرسلين:﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾(30).
وبحرف (إذْ): نحو قوله تقدس وتعالى في سنة صراع الحق والباطل: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(31).
وبحرف (كي): نحو قوله سبحانه وتعالى في تحقيق وعده بحفظ وإرجاع كليمه موسى u إلى أمه(32): ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(33).
وبحرف (مِنْ): نحو قوله تبارك وتعالى في سنته في هلاك الأمم:﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾(34).
ب)- أن يرد في القرآن فعلان يفرق بينهما بالحكم بذكر الصفة ويكون التفريق بينهما بلفظة الاستدراك (لكن)(35):
نحو قوله تبارك وتعالى في سنة الاختلاف والمختلفين:﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(36)، وقوله عز من قائل في سنة الهداية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(37)، وقوله عز وجل في سنة الاصطفاء: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(38)، وقوله جل ذكره في سنته في هلاك الأمم:﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(39)، وقوله تبارك وتعالى في سنته في الدعوات:﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾(40).
5 – ورود فعل الله عز وجلّ في سياق الجملة الشرطية (41)
أ) – تعليل عدم الجزاء بوجود المانع: فإذا وُجد الفعل امتنع الجزاء؛ نحو قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(42)، وقوله سبحانه وتعالى في سنة الأجل: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(43)، وقوله تعالى وتقدس في سنته في اليهود:﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾(44).
ب) – تعليل ترتب الجزاء على وقوع الفعل: ترتب فعل الله I على الوصف بصيغة الشرط والجزاء: أي: يقع الجزاء إذا وقع الفعل: نحو قوله تبارك وتعالى في سنته في الهداية والضلال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(45)، وقوله عز اسمه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(46)، وقوله عز وجل: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(47).
وقوله تبارك وتعالى في سنة الانتساب:﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾(48).
وقوله جل في علاه في سنته في الأرزاق:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(49)، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾(50).
وقوله عز سلطانه في وعده في الإفساد اليهودي الأول؛ الذي تحقق في عهد النبي r وأصحابهy: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾(51).
وقوله تبارك وتعالى في سنته التي تسوق بني إسرائيل إلى﴿وعد الآخرة﴾ – وهو الإفساد اليهودي الأخير -؛ ليتم استئصالهم وقطع دابرهم بمقتضى سنة الله في قطع دابر المفسدين المستكبرين في الأرض: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ(52) لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾(53).
وقوله جل وعلا في سنة الجزاء من جنس العمل: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(54).
وقوله جلت عظمته وتقدست كلماته في سنة الاستبدال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(55)، وقوله عز من قائل: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(56).
وقوله جل جلاله في سنته في الذنوب والسيئات: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا(57) فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(58).
وقوله تعالى وتقدس في سنته في المكذبين: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا(59) جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾(60).
وقوله جل وعلا في سنته في النصر بعد الاستيئاس: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ(61) نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾(62).
وقول الله عز اسمه في سنة الإمهال والإهلاك: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ(63) لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ(64) مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾(65).
6 – ورود فعل الله عزّ وجل مرتبا على صفة(66):
فيفهم السامع أن هذا الفعل يدور مع تلك الصفة أينما وجدت؛ نحو قوله تبارك وتعالى في سنة الإملاء: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(67). وقوله عز من قائل في سنة الإهلاك: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾(68).
* * *
الهوامش :
(1) سورة النساء: 26.
(2) سورة فاطر: 43.
(3) سورة الأنعام: 11.
(4) سورة الأنفال: 38.
(5) سورة الإسراء: 76-77.
(6) سورة الرعد: 3.
(7) سورة يونس: 14.
(8) سورة الأنبياء: 15.
(9) سورة فاطر: 11.
(10) سورة الحجر: 19-21.
(11) سورة آل عمران: 137.
(12) سورة الإسراء: 99.
(13) سورة القصص: 78.
(14) قال الشيخ محمد مصطفى شلبي –رحمه الله-: وبالوقوف على حقيقته – التعليل- تتجلى مدارك الأئمة، ويظهر بهاء الشريعة، ويسهل دفع شبه الطاعنين عليها بالجمود، وعدم مسايرتها للزمن، ومنه يبتدئ طريق الإصلاح، وعلى ضوئه يسير المصلحون، وبسبب التكلف فيه وقف الجامدون.
والتعليل في اصطلاح أهل المناظرة: علل الشيء: بيَّن علته وأثبته بالدليل. والتعليل تبيين علة الشيء، ويطبق عندهم أيضا على ما يستدل به بالعلة على المعلول”. تعليل الأحكام، ص5-12 بتصرف.
وقال الدكتور علي جمعة:”والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم، أي يوجد الحكم عند وجودها وينعدم عند عدمها.
وهي قد تكون منصوصة أو مجمعا عليها أو مستنبطة بإحدى المسالك الأخرى أو مدركة بمجرد فهم اللغة”.المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم، ص64.
(15) حروف التعليل: كي، واللام، وإذن، ومَن، ومِنْ، والباء، والفاء، وإنَّ، وإِذْ. انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، 4/167 و4/177. والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، 3/318.
(16) سورة النحل: 112.
(17) سورة غافر: 21.
(18) سورة النساء: من الآية 88.
(19) سورة الأنفال: 13.
(20) سورة الحجرات: 13.
(21) سورة آل عمران: 178.
(22) سورة طه: 132.
(23) سورة مريم: 82.
(24) سورة آل عمران: 140.
(25) سورة مريم: 96.
(26) سورة النساء: 165.
(27) سورة البقرة: 159.
(28) سورة الدخان: 37.
(29) سورة هود: 113.
(30) سورة القمر: 9.
(31) سورة الأنفال: 7.
(32) وهي سنة من سنن الله في نصر رسله؛ فكما رد الله تبارك وتعالى سيدنا موسى u إلى أمه كي تقر عينها، رد الله حبيبه المصطفى سيدنا محمدا r إلى أم القرى مكة المكرمة كي تقر عينه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
(33) سورة القصص: 13.
(34) سورة نوح: 25.
(35) وهذا يندرج في المسلك الثالث من مسالك العلة (التنبيه والإيماء)؛ بحيث يذكر الشارع أمرين ويفرق بينهما بالحكم بذكر الصفة؛ ويكون التفريق بوسائل مختلفة، والذي يهمنا هنا التفريق بينهما بلفظة الاستدراك (لكن). انظر مثلا المسلك الثالث من مسالك العلة في كتاب: الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، 3/326.
(36) سورة البقرة: من الآية 253.
(37) سورة البقرة: من الآية 272.
(38) سورة إبراهيم: 11.
(39) سورة العنكبوت: 40.
(40) سورة الأنعام: 33.
(41) ويدخل في المسلك الثالث من مسائل العلة؛ أي الإيماء والتنبيه. انظر مثلا: الجامع لأحكام وأصول الفقه، ص 332-333.
(42) سورة النور: 14.
(43) سورة العنكبوت: 53.
(44) سورة الحشر: 3.
(45) سورة البقرة: 38.
(46) سورة البقرة: 256.
(47) سورة الأنعام: 104.
(48) سورة المائدة: من الآية 51.
(49) سورة الأعراف: 96.
(50) سورة الطلاق: 2-3.
(51) سورة الإسراء: 5.
(52) ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾:هذه جملة شرطية معطوفة على الأولى ﴿فإذا جاء وعد أولاهما…﴾، وجواب جملة الشرط هذه –الثانية- محذوف تقديره: بعثنا عليكم عبادًا.
(53) سورة الإسراء: 6-7.
(54) سورة النساء: 123.
(55) سورة المائدة: 54.
(56) سورة التوبة: 39.
(57) «إذا»: ظرفية متعلقة بجوابها المقدر: انقسمتم. والجملة الشرطية مستأنفة.
(58) سورة آل عمران: 152.
(59) «إذا»: ظرفية شرطية متعلقة بـ«قالوا».
(60) سورة الأنعام: 31.
(61) وجملة «جاءهم» جواب الشرط.
(62) سورة يوسف: 110.
(63) وجملة ﴿فلْيَمْدُد﴾ جواب الشرط الأولى.
(64) وجملة ﴿فسيعلمون﴾ جواب الشرط الثانية.
(65) سورة مريم: 75.
(66) وغالبا يكون صدر هذه الجمل بـ(كم) الخبرية التي تدل على التكرار، و(كأين) بمعنى كم الخبرية.
(67) سورة الحج: 48.
(68) سورة القصص: من الآية 58.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35