كلمة العدد
موقفُ اليأس والإحباط الذي مُنِيَتْ به الأمّةُ من أجل هيمنة الباطل الموقتة حسب سنة الله في الكون ومنهجه الذي قرّره لإدارته؛ حيث قد يُغْلَبُ أهلُ الحق؛ إذا قَصَّرُوْا في أداء المسؤوليّة المنوطة بهم تجاه الحفاظ على الحق وانتصاره على الباطل .. هذا الموقفُ إنهاؤه يحتاج إلى خطّة ثابتة بعيدة المدى، طويلة المفعول، مُؤَسَّسة على رويّة ودراسة وذكاء عبقريّ، يتّخذها ويعمل بها أفرادُ الأمّة بشكل فرديّ وجماعيّ. وقبل أن يتمّ ذلك ، يجوز لكل منهم أن يساهم مباشرة في تغيير هذا الوضع المؤسف ، أو على الأقل في تمهيد الطريق إلى هذا التغيير بما يأتي :
1- ليحاول كل فرد من الأمة جاهدًا مخلصًا أن يعزّز صلته بالله؛ فيجتنبَ الحرامَ، ولايقرب إلاّ الحلالَ، ويتحاشى عن المعاصي الصغيرة والكبيرة، ويحافظ على الفرائض وأداء الحقوق لمن وجبت هي عليه ، ويحترز من الظلم بأنواعه؛ فلا يقاربه باللسان فضلاً عن الفعل، ويُقْلِعَ عن الأذى النفسي والغيبة والنميمة والحسد والبغض . والوصفةُ السهلةُ لذلك أن يؤمن جازمًا أن الله يرانا ويرى جميعَ ما نأتيه من الفعل والقول والحركة والسكون ، وأنه لا يكون في هذه الدنيا إلاّ ما يريده الله؛ فلا نُحْرَمُ ما هو مقسوم لنا، ولاننال أكثر مما كُتِبَ لنا؛ فلاَ نَتَصَرَّفْ إلاّ ضمن ما يرضاه، ولانَتَعَدَّه إلى ما يُسْخِطُه .
2- لنتّصل في ظروف الفتنة التي تثير اليأس والإحباط خصوصًا والظروف العاديّة عمومًا بالعلماء الذين لاترتقي شبهةٌ إلى صلاحهم و ورعهم وتقواهم، والذين حياتهُم مصوغة في بوتقة السنة والسيرة النبوية – على صاحبها الصلاة والسلام – والذين إذا جلستَ إليهم أَلِفتَ، وإذا رأيتَهم ذكرتَ الله ، وإذا صاحبتَهم أَحْبَبْتَهم ، وإذا حادثتَهم زدتَ إيمانًا وإذعانًا وزالت عنك كل وحشة. إنّه لا يُوجَدُ في مثل هذه الظروف الحرجة دواء أسرع وأكبر وأشمل مفعولاً من هذا الدواء : مجالسة العلماء والصلحاء والتواصُلُ معهم؛ لأن الإنسان في مثل هذا الوقت يكون بأمسّ حاجة إلى أن تُوْقَد مِجْمَرَتُه وأن تَبْكِيَ عيناه بدموع صحيّة، وأن تُصْقَل همّتُه، و”أن تعود حياتُه – كما يقول الشاعر الإسلامي الأكبر الدكتور محمد إقبال 1290-1357هـ = 1873-1938م – صعبةً عليه بعد ما يرى مُحَيَّا “حبيبه” في مرآة الموت والتفاني؛ حيث يعود مؤمنًا إيمانًا أقوى من ذي قبل بزوال هذه الحياة المكتوبِ عليها الفناءُ”. إن صحبة العلماء الصالحين تُكْسِب العلمَ والرغبة القوية في العمل، وتُسَهِّل على من يصحبهم العملَ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سيرته ، وتزوّده العلم بالدين بمفاهيمه الصحيحة وعقائده الواردة في الكتاب والسنة .
3- ليحاول كلُّ فرد من أفراد الأمة – حسب ما يقدر عليه – أن لايقول أو يفعل ما يؤدّي إلى افتراق الأمة؛ بل يجب عليه أن يصنع ما يستطيعه لرأب الصدع الذي حدث في القلوب والفجوة التي حدثت بين النفوس . إن الطعن بالرماح أو الضرب بالسيوف سهل جدًّا؛ ولكن مداوة جرح من الجروح عمل صعب وطويل الأجل . حقًّا إن اجتناب الحزبية والجماعية والتكتل أمر شاقّ للغاية لايُتَاحُ إلاّ للصبور ذي الرصيد الثرّ من الأمل والرجاء والأناة والاعتدال؛ إلاّ أن الائتساء برجال العزيمة من الدعاة والمصلحين ولاسيّما الأنبياء والمرسلين ومحاولة التعامل بالصدق والإخلاص في كل ناحية من نواحي الحياة، يُسَهِّلان الإقلاعَ عن كل ذنب من الذنوب مهما كان قد أخذ بحجز القلب وتلابيب النفس . إن العلماء الثقات الراسخين في العلم يُوْصُــوْنَ بأنّه – إذا لم يكن هناك تعدّ لحدود الله وضياع لضروريات الدين وثوابته – ينبغي أن يسعى كل مسلم ويدعو للإبقاء على وحدة الصف وتعزيزها؛ فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “الجماعةُ رحمةٌ ، والفرقةُ عذابٌ” (قطعة من حديث أخرجه أحمد في مسنده : 30/390) وروى أبوهريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : “إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا : أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئًا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولاتَفَرَّقوا، وأن تُنَاصِحوا من وَلاَّه الله أمركم” (أخرجه أحمد في مسنده: 14/78؛ ومالك في مُوَطّئه في كتاب السلام: 2/990) . إن الإسلام عُجِنَتْ طينتُه بالاتحاد والتضامن والجماعيّة ، فهو مُعَادٍ للافتراق والتشتت بطبيعته؛ لأنه سلاحٌ فتّاك في يدي إبليس، يُـحَرِّش به بين الجنّ والإنس بعضهم وبعض ، حتى تتحقق أهدافه الخبيثة .
4- رأسُ المصائب كلها التي تُوَاجِهُ المسلمَ في هذه الدنيا، عدمُ مخافة الله وأمنُ مكره. وتقواه وخشيتُه هي مصدرُ كل سعادة وفلاح له في الدنيا والآخرة . إن مخافة الله مفتاح رئيس يفتح به المسلم مغاليقَ الحياة كلها ، وينجو به من الانحدار المخزي إلى البهيميّة . السببُ الرئيسُ في كل ما يُمْنَىٰ به الإنسان من الزيغ والضلال ، والطمع والجشع، والفساد والانحلال؛ إنّما هو اللاّمبالاة بالآخرة والإخلاد إلى الأرض وبالإيجاز: هو الغفلة عن الله، وعدم الاهتمام باستحضار عظمته وجبروته وحاكميته المطلقة، مهما قال أبناء العصر: إنهم لاينكرون هذه الحقائق التي تتعلق بذات الله تعالى، فإنّ قولهم لايغني عما يدلّ عليه دلالةً صارخةً سلوكُهم وتصرفاتُهم في الحياة ، من عدم إيلائهم هذه الحقائقَ العنايةَ اللائقةَ .
إنّ مخافةَ الله تُشَكِّل بالنسبة للإنسان حارسًا يقظًا نشيطًا ينقذه من كل غائلة من الشيطان ، لايحتاج معه إلى قانون يمنعه من المنهيات، أو إلى معلّمٍ ومربٍّ ينبّهه لدى خطر التورط في المحذورات . إنّها تمتص جميعَ ما لدى النفس الأمّارة بالسوء من قوة الإضلال والإفساد، وتقضي على هوى النفس الجامح في لمحة بصر، وتُبْطِلُ مفعولَ جميع الوساوس الشيطانية للأبد . أمّا إذا حُرِمَ المرأُ مخافةَ الله، فإن جميع القوانين الوضعيّة تبقى عاجزةً عن إصلاح مافسد فيه. إنّه في معزل عن تقوى الله يتخذ من الأبواب الخلفية ويستغلّ من الثغرات القانونية ما قد لايخطر على قلب عبقريّ من عباقرة القانون . وهنا لاتنفع دعوة للخير، ونداء للصلاح ، رغم كل محاولة يبذلها الدعاة والمصلحون . إن غرس مخافة الله في القلوب عملٌ إصلاحيّ رئيس يبذّ جميعَ الأعمال الإصلاحيّة والدعويّة؛ لأنه وحده يضمن كلّ خير في حياة الإنسان .
5- والحاجةُ ماسّة إلى إعمال التفكير والعمل من أجل مكافحة ظاهرة حرية الرأي الزائدة والانطلاق البالغ الذي يمارسه الناس في القول والفعل، الأمر الّذي مَهَّدَ السبيلَ إلى الطعن في العلماء والصلحاء والدعاة؛ حيث أصبح التشنيع عليهم بدون وجه موضةً لدى كثير من الناس . ما إن يواجه المسلمين شينٌ أو ضرٌّ على الصعيد الملي أو الصعيد الاجتماعي إلاّ يبادر كثير من الناس إلى القول بأنّ ذلك يرجع إلى العلماء و”والمُلاَّوِيَّة” Mullaism. إنّهم – العلماء – هم الذين منعوا المسلمين تلقيَ العلم والتقدم والتمدن والتنوّر ومزاحمة المواطنين من أبناء الديانات الأخرى، والأمم والأقوام في العالم في مجالات الحياة . إن العلماء – لايزال الحديث للمعترضين والطاعنين في العلماء – هم أكبر صخرة أمام جميع التقدم الذي كان للمسلمين أن يحققوه ، فهم السبب الأساسي في انحطاطهم وتخلفهم . فلو عَزَلَ المسلمون أنفسَهم عن العلماء واستقلّوا عن أوامرهم ونواهيهم وسياسة التقييد والالزام التي يمارسونها معهم – المسلمين – لوجدوا الطريقَ إلى كل تقدم مفتوحًا ومُمَهَّدًا !!
إنّ المناداة باعتراض العلماء طريقَ التقدم، يدلّ على كراهية الدين . إنّ المزاعم المذكورة إنّما تعني أنّ المعترضين من المسلمين على العلماء، يريدون أن يصارحوا أنّهم لم يتمكنّوا من التحرّر عن الدين والانفلات من تعاليمه للحدّ الذي كانت تهواه نفوسُهم وتمليه عليهم شياطينهُم . وكأنهم يقولون : إنّ قيود الحجاب واجتناب الربا وأداء الصلاة، والاحتراز من الحرام، والالتزام بالحلال لانتحمّلها لحد الآن بشكل من الأشكال إلاّ من أجل تحكّم العلماء فينا نحن المسلمين؛ وإلاّ لكنا قد تخلّينا عنها – القيود – قديمًا؛ لأنّها عاملٌ رئيسٌ وراء جميع مظاهر التخلف والرجعيّة والجمود والتحجرّ والتراجع التي أصبحنا نتّسم بها !.
ألا ! إن القول بأنّ العلماء منعوا ويمنعون عن تلقّي العلم والتكنولوجيا مجرَّدُ افتراء وتلفيق . إنه محاولة فاشلة لتحميل مسؤولية الإخفاق الذي جناه المعترضون وأمثالهم العلماءَ الذين لم يحولوا قطّ دون التسابق للتقدم العلمي التكنولوجيّ والتنافس من أجل قيادة ركب العلوم الحديثة وإتقان أحدث ما وصلت إليه؛ فقد ظلّ العلماء يدعون القومَ لقيادة الركب العلمي والسبق إلى تحصيل الخبرات التكنولوجية، ورغّبوا في إنشاء معاهد وجامعات مُخَصَّصَة لهذا الغرض يتلقّى فيها الجيلُ الجديد كل ما يُؤَهِّله لمنافسة الأمم التي بذّتنا اليوم في العلوم التجريبية ، وقد كنا فيها أساتذة لها كما كنا أساتذة لها في غيرها من العلوم والفنون التي طوّرت المواردَ البشريّة وأعانت على إصلاح المجتمع وعمارة الأرض.
وكلُّ ما ركّز عليه العلماء هو إعطاء العلوم الشرعيّة الأولويّةَ ؛ لأنّها وحدها التي تعين المسلم على عيش حياة يسهل بعدها دخولُ الجنة والتزحزح عن النّار. وذلك هو الفوز الحقيقي الذي أشاد به رب العالمين في كتابه الخالد : “فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُوْرَ” (آل عمران / 185)
إنّ الطعن في العلماء والدعاة إنّما يؤدّي إلى الاستهزاء بالدين؛لأنهم رمز حيّ على الدين . وحريّةُ الرأي لاتنتهي على حدّ . إنّها تتعدّى العلماءَ إلى السلف وتتعداهم إلى الصحابة – رضي الله عنهم – وتتعداهم إلى الأنبياء – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – وتتعداهم إلى ذات الله تعالى التي يحاول كثير من الأشقياء أن يقيسها بمقياسهم الدنيوي الذي لا ولن يتفق وإيّاها بحال من الأحوال ! ونعوذ بالله عزّ وجلّ من ذلك.
وجزى الله بعضَ أساتذتنا الذين كانوا من أتباع الشيخ الصالح وصي الله الأعظمي الكـوركهبوري الإلـه آباديّ رحمه الله المتوفى 1387هـ /1967م الذي كان من كبار وخيرة أتباع العالم الهندي الجليل المربي الكبير العلاّمة الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله المتوفى 1362هـ / 1943م؛ فقد كانوا كثيرًا ما يردّدون علينا نحن الطلاب في حصصهم الدراسيّة : إن الإنسان أوّلاً يسيء الأدب مع من هو أكبر منه سنًّا، ثم يسيء الأدب مع والديه، ثم يسيئه مع العلماء والصلحاء، ثم يسيئه مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتجرأ بشكل أكثر فيسيئه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء والمرسلين، وحتى الملائكة المقربين ، ثم مع ذات الله تعالى .
إنّ حريّةَ الرأي المطلقة، إنما تؤدّي بالتأكيد إلى إلحاد، وانسلاخ من الدين، ومحاربة لله ولرسوله، وشقاء في الدنيا والآخرة . إن القائل بها والمتعامل من خلالها يعتبر الدينَ ألعوبةً، ويرى القيم الدينية ملهاةً، فيستبـدل بها كلَّ جـديـد وطريف من الشرّ كما يغيّر أحدُنا الخلقانَ البالية من الثياب . إنّ هؤلاء وأمثالهم ما إن يحول الدين بشكل من الأشكال دون شهواتهم وملذاتهم ، حتى يخعلونه إلى كل ما يمليه عليهم الشيطان، فيطوون مسافات آلاف من السنين إلى الإلحاد في لحظة من اللحظات .
6- يجب أن نعوّد الجيلَ الجديدَ تلاوةَ القرآن ، والمحافظةَ على الصلاة ، والتعاملَ بمكارم الأخلاق، وحبَّ الدين؛ وأن نغرس فيه العقيدة الإسلامية الصحيحة غرسًا ثابتًا، حتى لا يزعزعها أيّ طوفان غربي، وأي سيل عرمرم آتٍ من الحضارة الغربية، وأي عاصفة هوجاء يثيرها التنوّر والانفتاح المزعوم . إنّ هذه المهمة هي الواجب الأوجب تجاهه ، ويجب أن نقدّمها على كل وظيفة من الوظائف التي تتعلق بوضعه على طريق التقدم الماديّ، والعزّ الدنيوي، والعلم والخبرة اللذين يضمنان له السبق الباهر في ميدان الاقتصاد والتجارة وتنعيم الحياة الدنيا . كما يجب أن نعودّهم – أبناء الجيل الجديد – أن يحترزوا من التشبّه بالأعداء في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ومناهج حياتهم وأنماط معيشتهم وطُرُز ملابسهم وتقليعات سحناتهم ونهج أكلاتهم ويقظاتهم ونوماتهم؛ وأن نصارح المنبهرين بالغرب وحضارته بألسنة الحال والمقال: “أ أترك سنّة حبيبي لهؤلاء الحمقى ؟!” كما قال سيدنا سلمان الفارسيّ رضي الله عنه (المتوفى 36هـ /656م) لأمثال هؤلاء المعجبين بما عند الغير من الخبز البائت والكارهين لما عندهم من الأطعمة اللذيذة الطازجة !.
7- الذين سَاعَدَهُمُ الحظُّ ، فتعلّموا ، والذين لم يُـتَـحْ لهم أن يتعلّموا ، كلا الفريقين يجوز لهم أن يقرؤوا كلّ يوم جزءًا من القرآن والحديث بأنفسهم أو عن طريق أحد المعارف ، وباللغة العربية مباشرة أو بالأردية أو الإنجليزية أو بغيرها من لغات العالم التي نُقِلَ كلٌّ منهما إليها . يجب أن تكون قراءتهما وظيفةً مُحَافَظًا عليها في كل حال، لايجوز لهم الإخلالُ بها مهما حصل الإخلال بغيرها من وظائف الحياة الدنيوية؛ يجب أن يكونوا بالنسبة إليها بحيث لايهنأ لهم طعام ولاشراب إذا فاتتهم لمرض شديد أو غرض ملحّ . وكذلك ينبغي أن يحافظوا كل يوم على قراءة ما يُتَاح لهم من السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وعامّة الصحابة رضي الله عنهم . وينبغي أن لايفوتهم قراءة تراجم وأخبار المحدثين والفقهاء والصلحاء . إنّ ذلك سيمسك بأيديهم في كل ملمة ، ويُعَزِّيهم لدى كل مصاب ، ويُكْسِبُهم الصبرَ والسلوانَ عند كل حـزن . إن فيـه عـلاجًا لكل داء، ونجاة من كل بلاء، وإجــابـة عن كل شك، وحلاًّ لكل مشكلة ، إن شاء الله تعالى .
8- وإلى جانب ذلك يجب عليهم التوبة والاستغفار وتجديد الإيمان من وقت لآخر، والمحافظة على قراءة “لا إله إلاّ الله محمد رسول الله” وعلى الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأي لغة من لغات الدنيا . ينبغي أن يكون ذلك هو الخيار الأول في حياتهم، فيندموا أمام الله على كل ذنب أَتَوْه، وكل إثم ارتكبوه . إن الدعاء والتضرع والاستغفار سلاح ماض في يد المؤمن . إن المؤمن لن يكسب معاركَ الحياة بمجرد القوة، وكثرة الوسائل الماديّة، وتدبيره المحكم، وعقله الثاقب، وفكره البعيد المدى؛ فينبغي له أن يهتم بالأسباب المعنوية أكثر من اهتمامه بالأسباب الماديّة ؛ فقد حدث أن خاض المعاركَ بدون النوع الآخر من الأسلحة ، وكسبها بقوة إيمانه وسلاح تدينه؛ غير أن دينه لا يرضى له بترك الدنيا والزهد في الأسباب ، وإنما الخير له في أن يجمع بين الأسباب المادية والأسباب المعنوية معًا .
إنّ الإنسان المتعوّد على التوبة والاستغفار والدعاء والإنابة ، لا يشعر أبدًا بالغربة وبأنّه المخذول الذي لا يقف أحد بجانبه . إنه يجن المتعوّد على التوبة والاستغفار والدعاء والإنابة ، لا يشعر أبدًا بالغربة وبأنّه المخذول الذيب لا يقف أحد بجانبه . ة والأسد عودًا يصل به إلى الساحل في كل محيط من المصائب موّاج وفي كل بحر من الفتن متلاطم ؛ لأنّه تعوّد أن يسأل الرب العظيم الجليل الذي يقدر قدرة مطلقة على تحقيق كل أمانيه وإعطاء كل سؤله ، ويسرّه أن يعطي عبده وينجز وعده . إن العبد السائل يجوز له أن يشكو إلى ربّه الواهب كل حرمان لَحِقَه ، وكل شقاء أَلَمَّ به ، وكل فتنة عَضَّتْه . إنّه مفتوح دونه كلَّ وقت البابُ الذي لايَخْزَىٰ إذا قرعه في أي لحظة من لحظات الليل والنهار، وقد خَزِيَ ويَخْزَىٰ اليوم أو غدًا كل من يقرع بابَ أحد سواه مهما كان كريمًا عطوفًا معطاء . وجزى الله تعالى الشاعر الأردي الإسلامي الكبير “أكبر الإله آبادي” (السيد أكبر حسين من مواليد قرية “باره” بمديرية “الله آباد” يوم 27/ ذوالقعدة 1262هـ الموافق 16/نوفمبر 1846م ، المتوفى بـ “الله آباد” يوم 6/ محرم 1360هـ الموافق 9/سبتمبر 1921م) الذي قال في بيت له أرديّ يخاطب نفسه ، ويُلَقِّن أمته :
“سَلِ اللّهَ – يا أكبر ! – ما تشاء أن تسأله ، إنّ ذلك هو الباب الذي لايخزى من يقرعه ، ولايندم من يسأل صاحبه”.
إن المستغني عن الله لايجد في هذه الدنيا من يعتمد عليه؛ فيكون كطيارة ورقيّة مقطوعة عن الخيط تطير ضائعةً تائهةً إلى جهة سحيقة لايجد من يمسك بها. إنّ دعاء الله ثروة مستقلة لاتنفد . إن داعي الله ثريّ كبير لا نهاية لثرائه ، يواصل السؤال ، فيظلّ يجد سؤلَه وينال مأموله ، فيزداد طموحًا وثقة بمن يهبه ؛ فيُــدِلُّ به ويتباهى، ويعتزّ به ويفتخر. إنّه يملك خزانة كل نوع من الأشياء . تعالوا ! نكن أصحاب هذه الخزانات ، تعالوا ! نسأل معًا ربَّ الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، ونسأل ربّ محمد وأبي بكر وعمر وعثمان ، وربّ العشرة المبشرين بالجنة ، وربّ البدريين من الصحابة ، ورب جميع الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وربّ المحدثين والأولياء المتقـين ، وربّ الفقهاء والصالحين ، وربّ الدعاة والمجتهـدين ، وربّ جميـع من أخلص العبادة لله وحده من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . إنّ الربّ الذي أكرمهم بالاستجابة لهم حيّ قيوم اليوم كما كان بالأمس ؛ إنّه حيّ بشأنه وقدرته وبأسمائه الحسنى وصفاته العلي . إنّ عظمته وجبروته لم تتأثر بجور الصهاينة ، واعتداءات “بوش” الصليبي المتصهين ، وعدوان “شارون” و “نيتن ياهو”، وسيطرة أمريكا ، ونفاق الغرب ، وازدواجيّة الشرق، وعبوديّة الدول الإسلامية ، وخضوع البلاد العربية خضوعًا مخزيًا للغرب وأمريكا ، ومؤامرت الأعداء الرهيبة ، وتقلّب الباطل واستسلام الحق له في عيون الذين لا يرون إلاّ ظاهر الأشياء. إنّ الله كان ولا يزال ويظل هو وحده الإله رغم ادّعاء فرعون أنه الربّ الأعلى . إنه وحده كان ولازال الإله رغم تمرد “نمرود” الذي جعل ناره بردًا وسلامًا على إبراهيم. إنه كان ولا يزال قادرًا على إبطال مفعول كل متكبر جبّار ، وقد شهد العالم ولايزال وسيظل يشهد كيف يوهن كيدَ كل قوة محاربة له ولدينه ولأتباعه .
إذا كان قادتُنا وساستُنا قد آمنوا بقدرة الآلهة الدنيوية، وبدأوا يسجدون لها ويَطَّرِحُون على عتباتها، فهنيئًا لهم ذلك . تعالوا نؤمن نحن جميعًا من جديد بالله الأحد الصمد ذي الجلال والإكرام الذي لايخذل المؤمنين به الواثقين بنصره وتأييده الذين يحترمون إيمانهم وثقتهم، ويؤدون الحق الذي يجب عليهم من قبل الإيمان والثقة ، ويراعون متطلباتهما .
ليهنأ للمؤمنين بالفاني الزائل إيمانُهم ؛ حيث إن “العزّ والفخار” الذي يتمتعون به حالاً آنيٌّ زائلٌ ، وليهنأ لنا إيمانُنا بالباقي الذي ليس له فناء ؛ فسيكرمنا بفضله ومنّه وكرمه بالسعادة الأبدية ، والعزّ الدائم، والفخار القائم الذي لايعرف الزوال . إن تقلبات الأيام من سنة الله المقررة ؛ فهو القائل عزّ وتبارك : “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” (آل عمران /140) فيعزّ قومًا ويذلّ آخرين، ويرفع قومًا ويضع آخرين، ويقدّم قومًا ويؤخّر آخرين؛ إلاّ أنّه وضع مقياسًا ثابتًا للعزّ والذلّ لايتغيّر وهو تقواه ومخافته؛ فمن يتّقِه ويَخَفْه فهو الأعزّ الأكرم: “إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقٰكُمْ” (الحجرات /13) والانتصار النهائي هو قسمة المؤمنين به الذين يعملون الصالحات بمقتضى إيمانهم ؛ والسعادة الأبدية إنما هي نصيب الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ، فهم الذين يُكْرَمُوْن بتيجان العزّ والكرامة : “إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُـلَـنَا وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا فِي الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُوْمُ الأَشْهَادُ” (غافر/51) .
فلا يجوز أن نحزن من تقلّب الذين كفروا في البلاد؛ فإنّ ذلك متاع قليل ثم مأواهم جهنم، وبئس المهاد . إن استسلامنا لليأس والإحباط بما يتراءى من قساوة الظروف ونبو الأحداث ومناوأة المستجدات والمتغيرات ، لن يعني إلاّ أننا سَحَبْنَا – ونعوذ بالله من ذلك – ثقتَنا عن الله واختلّ إيمانُنا به، واللّهُ يقول : “وَلاَ تَيْأَسُوْا مِنْ رَّوْحِ اللهِ إِنَّه لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَّوْحِ اللهِ إلاّ الْقَوْمُ الْكٰفِرُوْنَ” (يوسف/87) . إنّه تأكيد أيما تاكيد من الله العزيز الكريم علينا أن لا نتخلّى عن الثقة بنصره وتأييده ، مهما قست الظروف واشتدّت الأيام وتجمعت المصائب . إنّ الرجاء في الله والأمل في نصره والثقة في رحمته أعزّ وأقوى مُعْتَمَدٍ في كل زمان ومكان لايخون ولايزول مهما خانت الأعوان والأنصار . والظروف الراهنةُ أحوجُ ما نكون فيها إلى أن نُرَبِّي فينا هذه الثقةَ والـرجـاءَ ، الـذي نَقْـوَىٰ بـه مـع كل ضعف ، وننتصر به رغم فقدان جميع الأسباب والوسائل؛ فالمؤمنُ يكسب معاركَ الحياة بإيمانه المُعْجز ويقينه المدهش ، قبل أن يكسبها بالأسلحة الماديّة التي قد تنفعه وقد لاتنفعه. إنّ جَدَّه يكون طَعَّانًا بغير أسنّة في أغلب الأحيان ولايحتاج – إذا جعل جدّه صاعدًا وحظّه سعيدًا بالإيمان الذي لا يُغْلَب والعمل الذي لايُنْقَص – معه إلى أن يُعْنَىٰ بالأسنّة والقنا وإن كان دينه يأمره بالجمع بين الدين والدنيا ، والتوكّل على الله مع الاهتمام بالأسباب والوسائل : “اِعْقِلْها – الناقة – وتَوَكَّلْ” فلابدّ من العقل والتوكّل معًا . ولكن يجب أن نؤمن أن الأسباب لاتنفع إلاّ إذا أراد ربُّ الأسباب أن تنفع. اللّهم أَلْهِمْنَا رُشْدَنا ، واهْدِنا سواءَ الصراط ، وخُـذْ بأيدينا في هذا الظلام الذي عَمَّ والسيلّ الذي طَمَّ .
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1431 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2010م ، العدد : 11 ، السنة : 34