دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي(*)
إنَّ الكثيرمن المسلمين يحملون في صدورهم شوقًا بالغًا إلى حج بيت الله، ويتلهفون حنينًا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، و يذوبون حبّاً لرؤية أرض الحجاز التي تشرفت بلثم أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام. وقد بلغ ببعضهم الشوق منتهاه، وتحول إلى العشق، فكانوا كالصب الهائم أوالعاشق الملتاع، وودوا لورزقوا الأجنحة كالطير، حتى يصلوا بها إلى مهبط الوحي ومصدر الإسلام.
فكم تركوا بلادهم وفارقوا أهلهم وذويهم وهاجروا إلى مكة المكرمة أو إلى المدينة المنورة، محتسبين مالقوا في سبيل الهجرة من صنوف الأذى، وألوان المعاناة، وقضوا فيها آخر لحظات حياتهم.
ومنهم صاحبنا الرجل الصالح: الشيخ حبيب الله الفيض آبادي المتوفى 1334هـ، الذي هاجر إلى المدينة المنورة عام 1316هـ، ولهجرته قصة شائقة ومحزنة معا، وهي بالمآساة أشبه منها بالمسلاة، وهي قصة لم ينسجها الخيال ولم يخلقها الوهم، وإنما هي قصة تستمد لحمتها وسداها من عالم الواقع ودنيا الحقيقة.
* * *
تفتحت عيناه حوالي عام 1850م في أسرة كريمة ذات عيش رغيد ورفاهية وافرة ونعمة سابغة، ينتهي نسبها إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قرية “إله داد فور” من قرى مديرية “فيض آباد” بولاية “أترابراديش” في الهند، فما لبث أن دهت الأسرةَ الدواهي ونزلت بها الخطوب، فبُدل برغادة عيشه ووفوررفاهيته وسُبوغ نعمته بؤسًا وفقرًا ومعيشة ضنكا.
كما مات معظم رجال أسرته، وهو في صباه، فتجرع كأس اليتم المريرة، وكسبت نساؤها لقمة العيش – وهنَّ قابعات في بيوتهن – بالغزل والنسج والتطريز والخياطة.
فلما وعى الحياة أخذ يختلف إلى المدرسة الإسلامية في قريته، يتعلم فيها القرآن والعقيدة والفقه الإسلامي واللغة الفارسية والأردية، كما تعلم في المدرسة الرسمية حسب ما سمحت به ظروفه الاقتصادية. ولم تهمله ظروفه أن ينال الثقافة الواسعة. فلما بلغ الحلم عادت مسؤولية الأسرة على كواهله الضعيفة، فخرج ليكسب ما يسد به ضرورات الحياة، فعمل مدرسًا في إحدى المدارس الرسمية في “التفات غنج” على مقربة من قريته، يتقاضى كل شهر راتبًا ضئيلا يعول به أسرته. ثم اجتاز الامتحانات الرسمية، فنال الترقية في وظيفته، فعُيِّنَ ناظرًا في المدرسة الرسمية في قرية “صفي فور” بمديرية “أنَّاؤ” بولاية أترابراديش، ثم نُقِلَ إلى “بانغرمئو” بالقرب منها.
كلُّ ذلك قد أكسبه صفات الرجولة من علو الهمة والثقة بالنفس والصبر والاحتمال، كما ورث من آبائه حسن الأخلاق وطيب الشمائل وكرم الخصال.
* * *
انتقل بأسرته إلى “بانغر مئو” حيث كان يمارس وظيفته. وخلال إقامته بها اتصلت أسبابه بالعالم العامل الشيخ الزاهد فضل رحمن الكنج مرادآبادي المتوفى 1313هـ، فبايع على يديه، فكان يختلف إليه ويتلقَّى منه التربية الروحية ويتعلم كيفية الإحسان.
كان صاحبنا يحبُّ الشيخ أشدَّ الحب ويجلُّه أعظم الإجلال، وكان مرجعَه في مسائل الدين، وسلواه في مشكلات الحياة. توفي الشيخ سنة 1313هـ، فحزن عليه أشدَّ الحزن، فكان لايهنأ له طعام ولاشراب، ولايطيب لعيش ولا يقر له جانب، فكان لايزال كاسف البال كئيب الخاطر. وقدأملى عليه حزنه البالغ بمراث رقيقة في اللغة الأردية، تناقلته الألسنُ ونشرتها المجلاتُ وجمعت بين دفتيها الكتبُ.
ذات يوم جلس واجمًا ساهيًا مطرقًا رأسه، فخطر بباله فكرة رائعة، وهي أن يهاجر بأسرته إلى المدينة المنورة، وقد أخذت الفكرة مأخذها من نفسه، فكانت همَّه بالليل وشغلَه بالنهار، وأعلن عنها أمام أسرته وذوي قرباه، وعزم على أن يطبقها في مستقبله القريب. أما معظم أفراد أسرته وذوو قرباه فلم يوافقوه في رأيه، غيرأنهم لم يعارضوه إجلالاً له و تقديرًا.
أخذ يتأهب أهبةالسفر، فباع أراضيه، وجمع ماله وأمتعته، كما جمع أفراد أسرته الذين كان يبلغ عددهم اثني عشر فردًا، فأمرهم بأخذالعدة للرحلة. وكان ابناه يتعلمان في الجامعة الإسلامية دارالعلوم بديوبند، فاستأذنَ أحدهما أن يُنهي دراسته في الهند، ثم يلحق به في المدينة، فلم يأذنه به، وإنما أمره أن ينهي دراسته في المدينة المنورة، فامتثلوه بارين مطيعين.
أكمل للسفر عدته، وضرب موعد سفره شعبان عام1316هـ، فلما حان موعده خرجَ وفقًا للبرنامج المرسوم. وأصبح هذا الركب المهاجر حديث النوادي والمجالس في القرى والأرياف.
* * *
كانت السواحل الغربية للمحيط الهندي موبوءة بالطاعون، فكانت البواخرلاتُبحِر من موانئها، وأما في الهند الجنوبية فكان ميناء “تشاتكام” مفتوحًا، فتقرر سفره من مينائها.
توجه الركب إلى مدينة “إله آباد” للحجر الصحي، حيث أقام بضعة أيام، ثم ركب القطار المسافر إلى “تشاتكام” في 10/ من رمضان 1316م، وذلك تحت رقابة شديدة من الشرطة، حتى وصل “تشاتكام” حيث مكث أكثر من شهر منتظرًا الباخرة.
انتهت ساعات الانتظار عند ما جاءت باخرة زبيدة التي كانت تُسيِّرها شركة الحاج قاسم في أواخر شوال، فدخل الركب غرفة واسعة في الباخرة، وظلَّ آمنًا مطمئنًا فيها حتى وصلت الباخرة مارةً بـ “عدن” ميناء “كامران” ثم أبحرت حتى وصلت ساحل جدة، وقداستغرقت الرحلة نحو عشرين يومًا.
* * *
يمم هذا الركب وجهَه شطر مكة المكرمة، وحلَّ رحله فيها24/ من ذي القعدة من العام نفسه، وأقام بمنزل ضيق في حي الجياد فيها. وبعد أن فرغ من طواف القدوم، ذهب إلى الشيخ الجليل الحاج إمداد الله التهانوي المكي – رحمه الله – ثم قام بأداء مناسك العمرة والحج.
وفي 26من ذي الحجة توجَّه الركب المهاجر إلى المدينة المنورة، حتى وصلها أوائل محرم الحرام عام 1317هـ، وتشرف بزيارة روضة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأقام بمنزل ضيق اكتراه في زقاق البدور بالقرب من باب النساء. ولأجل ضيقه لقي عناءً ومشقةً كبيرةً فيه.
ترك الركب هذا المنزل لضيقه وقلة تسهيلاته، بعد أن فسخ عقد الإجارة، واكترى منزلا آخر في حارة الآغاوات.
فلما استقر بصاحبنا المقام بالمدينة، وزَّع ماتبقى لديه من النقود بين ورثته وفقا لأسهمهم في الميراث، وقال لهم: “من شاء منكم فليقم بالمدينة، ومن شاء منكم فليعُد إلى الهند، وأما أنا فأقيم بالمدينة بقية أيام حياتي؛ فإني قد نويت الهجرة إليها” قال له أبناؤه البارون الذين لم ينووا الهجرة حتى الآن: “لن نتركك وحيدًا، وإنما نصحبك ما امتدت بك الحياة”.
قال لهم الأب العجوز: “هذه النقود لاتكفيكم لمصروفاتكم، والإيرادات لاتصلكم دومًا من الهند، ففكروا فيما يسد حاجتكم، ويغطي نفقاتكم” ففكروا وفكروا حتى اتفق رأيهم على أن يتجروا، ففتحوا بقالة، كما اتجروا في التمور، فكانوا يشترونها من سوق المزاد العلني في موسم التمور، ويحفظونها في المخازن، ثم يبيعونها في موسم الحج، وكان ابناه – وهما السيد أحمد، والسيد حسين أحمد – يتناوبان في الجلوس في المحل، غير أنهم جربوا أن كراء المحل والمخزن يستغرق الإيرادات.
فعمل أحد أبنائه ناسخًا للكتب في مكتبتي المدينة المنورة وهما مكتبة شيخ الإسلام والمكتبة المحمودية، ليكسب لقمة العيش لأسرته البائسة الغريبة عن ديارها. كما مارس السيد أحمد مهنة تعليم أطفال الأثرياء المتوافدين على راتب.
وعام 1318هـ اكترى منزلاً آخرأوسع من الأول، وسكنوا فيه. وكان هذا ثالث منزل اكتراها الأسرة.
* * *
كانت الأسرة تعاني أقسى أيامها وأشدها، وكان بعض أفرادها في الرحلة إلى الهند، فاضْطُرَّ رب الأسرة إلى اقتراض مبلغ، فاشترى به أرزا وعدسا؛ كي يتبلغ به أفراد الأسرة، فعاشوا على الأرز ومرق العدس شهورًا. بينما كانت الأسرة تعاني هذه الأزمة الاقتصادية إذ أمر رب المنزل بإخلائه أودفع الكراء لسنة واحدة مسبقًا. حار الشيخ العجوز في أمره، فلم يدرماذا يفعل، فهو لايملك الكفاف فضلا عن دفع الكراء مسبقًا. وقدأحسن إليه هندي وهو الطبيب محمد خواجه الحيدرآبادي حيث أسكنه في منزله الجاري بناؤه دونما مقابل، وذلك لفترة موقتة.
لقد ضاق الشيخ ذرعا بالمنازل المستأجرة، فعزم على أن يبني منزله مهما كلَّف، غيرأن المبلغ الذي كان لديه قد نفد. إلا أنَّ بنته قد احتفظت بسهمها في الميراث، فاستسلف منها سهمها، واشترى به الأرض وأقام لها سورا، ثم بنى فيها منزلا ذا خمس حجرات باللبنات والأخشاب. استراحت الأسرة من المنازل المستأجرة وكرائها، وسكنت في منزلها الجديد آمنةً مطمئنةً.
كانت هذه الأسرة مكونةً من اثني عشر فردًا عندما غادرت الهند، ثم تزوج أولاده و ولد له أحفاده، فازداد عددهم. وقد امتحنها الله أشد المحنة وأقساها، فموَّتوا كثيرًا، حتى كان يقول الشيخ: “لقد دفنت بيديَّ هاتين نحو أربعين فردًا من أفراد أسرتي في جنة البقيع”
* * *
وقد قام أبناؤه بخدمات جليلة في مختلف المجالات العلمية والثقافية والسياسية، فقد رأى السيد أحمد – وهو أوسط أبنائه – أنَّ العلوم الدينية تلقى إهمالاً ولامبالاةً من قبل الحكومة، وأنَّ أطفال أهالي المدينة المنورة يعودون ضائعين، بينما الحكومة تركز عنايتها على العلوم المعاصرة في مدارسها، أسس مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، ليتعلم فيها أطفال المسلمين العلوم الدينية، وقدساعده على تأسيسها وإدارتها الأثرياءُ الهنود. فهو يُعدُّ من بُنَاة العلم والثقافة في الحجاز.
كما درَّس ثالث أبنائه السيد حسين أحمد العلوم الإسلامية بالمسجد النبوي نحو خمسة عشرعاما، ثم عاد إلى الهند، ودرَّس الحديث بالجامعة الإسلامية دارالعلوم بديوبند زهاء ثلاثين عاما، وبذل مجهودات مشكورة في مجال الدعوة والإرشاد، وتخليص الهند من الاستعمار الإنجليزي.
كما عمل أصغر أبنائه – وهو محمود أحمد – قاضيا بجدة، ثم نقل إلى محكمة القضاء بالمدينة المنورة وكان من ذوي الكلمة المسموعة في الأوساط الحكومية.
* * *
لم تنته فصول معاناة هذه الأسرة البائسة، فقد اعتقل السيد حسين أحمد ووحيد أحمد مع أستاذه شيخ الهند محمود حسن الديوبندي المتوفى 1920م الذي كان قد رفض التوقيع على الفتوى التي كانت تقضي بالخروج على الخلافة العثمانية وخلع الخليفة العثماني، فقبض الشريف علي شيخ الهند وأصحابه بمن فيهم السيد حسين أحمد، وابن أخيه وحيد أحمد، وزجَّ بهم في سجن مالطة، حيث مكثوا فيه ثلاثة أعوام وسبعة أشهر.
وقد بلغت المعاناة بالأسرة أقساها، عند ما خرج الشريف حسين على الخلافة العثمانية، وخاضت الخلافة العثمانية حربًا عوانًا مع أعدائها، فساءت الظنون وقلت الثقة بالأسر الهندية المقيمة بالمدينة المنورة لاسيما هذه الأسرة، فقبضت القوات التركية على الشيخ العجوز وابنيه السيد أحمد والسيد محمود أحمد، دونما جريمة اقترفوها، وساقتهم إلى سجن “أدرنة” بتركيا.
لم يبق من أفراد الأسرة بالمدينة إلا نساؤها، فقد توفي ابناه، وسيق أحد أبنائه وحفيده إلى سجن مالطة، والآن قد قبض على الشيخ وابنيه. وقدعانت الأسرة خلال هذه الفترة من العناء والمشقة والبؤس والفقر، ما الله به عليم.
لقد صبر الشيخ على كل ما لقي بالمدينة من المتاعب والمصاعب، وكان عزاؤه الوحيد أنه بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان أكبرأمانيه في الحياة أن يموت بها، فكان لايخرج منها حتى للحج، إلا أن القدر أخرجه إلى مصرعه.
اعتقل هؤلاء الثلاثة بـ”أدرنة” وهي مدينة باردة شديدةُ البرودة، فكان لايسمح لهم بالخروج منها، لم يتحمل الشيخ العجوز البرد القارس فيها، فأصيب بذات الجنب بعد وصوله إليها بشهر، فمات ودُفِنَ بها.
* * *
(*) أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1431 هـ = يونيو – يوليو 2010م ، العدد : 7 ، السنة : 34